أقسام العِزَّة
العِزَّة هي خُلُق بين خُلُقين، أحدهما: الكِبْر، والآخر: الذُّل والهَوَان، والنَّفس إذا انحرفت عن خُلُق العِزَّة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت إمَّا إلى كِبْرٍ، وإمَّا إلى ذُّلٍّ.
- التصنيفات: تربية النفس - محاسن الأخلاق -
حمود دائمًا ما يكون خُلقًا بين خُلقين مذمومين، فهو وسط بينهما. قال ابن القيِّم: "وكلُّ خُلُق محمود مُكْتَنف بخُلقين ذميمين. وهو وسط بينهما. وطرفاه خُلُقان ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خُلُقان: البخل والتَّبذير. والتَّواضع الذي يكتنفه خُلُقان: الذُّل والمهَانة، والكِبْر والعُلُو. فإنَّ النَّفس متى انحرفت عن التَّوسط، انحرفت إلى أحد الخُلُقين الذَّميمين ولا بدَّ"[1]، وهكذا هو حال في العِزَّة، فهي خُلُق بين خُلُقين، أحدهما: الكِبْر، والآخر: الذُّل والهَوَان، والنَّفس "إذا انحرفت عن خُلُق العِزَّة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت إمَّا إلى كِبْرٍ، وإمَّا إلى ذُّلٍّ. والعِزَّة المحمودة بينهما[2].
وقد ذكر الله العِزَّة في مواطن، فمدحها حينًا، وذمَّها حينًا آخر:
فمن الأوَّل: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون من الآية:8]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصَّافَّات:180].
ومن الثَّاني: قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:2]، وبيان ذلك: أنَّ العِزَّة التي هي لله جلَّ وعلا، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين رضوان الله عليهم هي الدَّائمة الباقية؛ التي هي العِزَّة الحقيقيَّة. والعِزَّة التي هي للكافرين والمخَالفين هي: التَّعزُّز، وهو في الحقيقة ذُلٌّ[3].
وعلى ما سبق، يُمْكِننا أن نقسِّم العِزَّة إلى قسمين: شرعيَّة، وغير شرعيَّة.
العِزَّة الشَّرعيَّة:
إنَّها العِزَّة الحقيقيَّة العِزَّة في الحقِّ، وبالحقِّ، والتي يكون صاحبها عزيزًا ولو كان ضعيفًا مَظْلومًا، شامخًا ولو كان طريدًا مُستضَامًا، فتجده لا يركع إلا لله، ولا يتنازل عن شيء ممَّا أَمَره به، فهو يَعْتَزُّ بعِزَّة الله تبارك وتعالى، الذي يُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء. فهذه هي العِزَّة بالحقِّ؛ لأنَّها اعْتِزَاز بمن يملكها، وإذعان له، وانتساب لشرعه وهديه.
وهي التي ترتبط بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون من الآية:8]، ووجه ذلك: أنَّ العِزَّة التي لله ولرسوله وللمؤمنين هي الدَّائمة الباقية، التي هي العِزَّة الحقيقيَّة، والعِزَّة التي هي للكافرين: هي التَّعزُّز، وهو في الحقيقة ذُلٌّ.
إنَّ العِزَّة والإِباء والكرامة من أبرز الخِلَال التي نادى بها الإسلام، وغرسها في أنحاء المجتمع، وتعهَّد نماءها بما شرع من عقائد، وسنَّ من تعاليم، وإليها يشير عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه بقوله: أُحِبُّ الرَّجل إذا سِيمَ خطَّة خَسْف[4]. أن يقول بملء فيه: لا[5].
صور العِزَّة الشَّرعيَّة:
1- الاعْتِزَاز بالله تبارك وتعالى:
فهو يعرف أنَّ الله عزيز، يَهَب العِزَّة من يشاء، كما أنَّه ينزعها ممَّن يشاء، كما أنَّه يوقن أنَّ الاعْتِزَاز بالعزيز عزَّة، والاعتماد عليه قوَّة، والالتزام بنَهْجِه شموخ، فتراه قويًّا بإيمانه به، عزيزًا بتوكُّله عليه، شامخًا بيقينه به.
وهو يعلم أنَّ الاعْتِزَاز بغيره ذلٌّ وهَوَان، والاستقواء بغيره ضعف، مُعْتَبِرًا بحال كلِّ من اعتزَّ بغير الله تعالى كيف هَوَى إلى مدارك الذِّلة، وهبط إلى حضيض المهَانة، وكيف تخلَّى عنه من اعتزَّ بهم، ليتَدَحْرج من ذُرَى العلياء والمجد المزعوم الكاذب إلى أسفل دركات الذُّلِّ؛ قال عبيدة بن أبي لبابة: "من طلب عزًّا بباطل وجور، أورثه الله ذُلًّا بإنصاف وعدل"[6].
2 الاعْتِزَاز بالانتساب للإسلام، والاعْتِزَاز بهديه وشرائعه:
فهو يعلم أنَّ هذا الدِّين دين العِزَّة والقوَّة، الذي يستمدُّ المسلمون عزَّهم من عِزِّه، وقوَّتهم من قوَّته، ومتى طلبوا العِزَّة في سواه من مناهج الأرض الشَّرقيَّة أو الغربيَّة أذلَّهم الله.
كما أنَّه لا يعتزُّ بقبيلة أو قوميَّة أو نسب أو عِرْق ممَّا ينتسب إليه أهل الجاهليَّة في القديم والحديث، بل عزَّته بدينه فقط، وعلى هذا ربَّى نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أصحابه، فلمَّا سمعهم بأبي هو وأمي، صلَّى الله عليه وسلَّم ينادي بعضهم: يا للأنصار، وآخرون ينادون: يا للمهاجرين. قال صلى الله عليه وسلم: « »[7]
حال المسلم في اعْتِزَازه بدينه كحال أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه حين قال: "نحن أمَّة أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العِزَّة بغيره، أذلَّنا الله"[8].
فلا اعْتِزَاز إلَّا بالإسلام، ولا انتماء إلَّا إلى الإسلام.
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم
3 الاعْتِزَاز برسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهو يعتَــزُّ بكونه فَرْدًا في أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، ينتسب إليه إذا انتسبت الأمم، ويُفَاخر به إذا ذُكِر القادة والمصلحون العظماء، يرجو شفاعته، ويتمنَّى لقائه، ويسأل الله أن يوفِّقه للسِّير على نهجه وإحياء سنَّته، والقيام بحقوقه.
4 إظهار العِزَّة على الكافرين، والذِّلَّة وخفض الجناح للمؤمنين:
وهذه من أعظم صور العِزَّة ومظاهرها: أن يُرِي المؤمن الكافرين من نفسه عزَّةً وقوَّةً واستعلاءً، لا كِبْرًا وبَطَرًا، بل إظهارًا لقوَّة هذا الدِّين وعزَّته وعلوِّه، قال الله عزَّ وجلَّ وهو يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح من الآية:29]، فهم رُحَماء فيما بينهم، ألَّا إنَّهم أشدَّاء على الكافرين، أقوياء في مواجهتهم. وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة من الآية:54]، فهذه صفتهم التي استحقُّوا بها التَّمكين، ونالوا بها شرف القيادة، فهم أذِلَّة على المؤمنين، خافضين الجناح لهم، ليِّنين في تعاملهم معهم، إلَّا أنَّهم في الجانب الآخر أشدَّاء أقوياء على الكافرين.
العِزَّة غير الشَّرعيَّة:
كاعْتِزَاز الكفَّار بكفرهم، وهو في الحقيقة ذُلٌّ، يقول سبحانه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص:2]، أو الاعْتِزَاز بالنَّسب على جهة الفَخْر، أو الاعْتِزَاز بالوطن والمال ونحوها، كلُّ هذه مذمومة.
من صور العِزَّة غير الشَّرعيَّة:
1 الاعْتِزَاز بالكفَّار من يهود ونصارى ومنافقين وغيرهم:
قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النِّساء:138-139].
"واللهُ جلَّ جلاله يسأل في استنكار: لِمَ يتَّخذون الكافرين أولياء، وهم يزعمون الإيمان؟ لِمَ يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتَّخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العِزَّة والقوَّة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله عزَّ وجلَّ بالعِزَّة، فلا يجدها إلَّا من يتولَّاه، ويطلبها عنده، ويَرْتَكِن إلى حِمَاه" ((في ظلال القرآن) لسيِّد قطب [2/780]).
2 الاعْتِزَاز بالآباء والأجداد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: « »[9].
3 الاعْتِزَاز بالقبيلة والرَّهط:
قال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ . قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود:9192].
"أَجَماعة من البَشَر مهما يكونوا من القُوَّة والمنْعة فهم ناس، وهم ضِعَاف، وهم عِبَاد من عِبَاد الله.. أهؤلاء أعزُّ عليكم من الله؟ أهؤلاء أشدُّ قوَّة ورهبة في نفوسكم من الله؟ {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، وهي صورة حسِّية للتَّرك والإعراض، تزيد في شناعة فِعْلَتهم، وهم يتركون الله ويُعْرضون عنه، وهم من خَلْقه، وهو رازقهم وممتِّعهم بالخير الذي هم فيه. فهو البَطَر وجحود النِّعمة وقلَّة الحياء، إلى جانب الكفر والتَّكذيب وسوء التَّقدير" ((في ظلال القرآن) لسيد قطب [4/1922]).
وعن أبي مالك الأشعري، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «»، وقال: « »[10] (صحيح مسلم [934]).
4 الاعْتِزَاز بالكثرة، سواءً كان بالمال أو العدد:
قال تعالى في قصَّة صاحب الجنَّة، في سورة الكهف: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34].
قال ابن كثير: {أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} "أي: أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا".
قال قتادة: تلك والله أمنيَّة الفاجر: كثرة المال وعزَّة النَّفر ((تفسير ابن كثير) [5/157]).
5 الاعْتِزَاز بجمال الثِّياب:
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
"والمراد أنَّ ثوبه يَشْتَهر بين النَّاس، لمخالفة لونه لألوان ثيابهم، فيرفع النَّاس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعُجب والتَّكبُّر.
قال ابن رسلان: لأنَّه لَبِس الشُّهْرَة في الدُّنْيا ليَعِزَّ به، ويفتخر على غيره، ويُلْبِسه الله يوم القيامة ثوبًا يَشْتهر مذلَّته واحتقاره بينهم عقوبةً له، والعقوبة من جنس العمل، انتهى.
وقوله: « »، أي: أَلْبَسه الله يوم القيامة ثوب مذَلَّة، والمراد به: ثوب يوجب ذِلَّته يوم القيامة، كما لَبِس في الدُّنْيا ثوبًا يتَعَزَّز به على النَّاس، ويترفَّع به عليهم" ((عون المعبود) للعظيم آبادي [11/50،51]). »[11].
6 الاعْتِزَاز بالأصنام والأوثان:
قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا . كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81-82].
"فهؤلاء الذين كفروا ربَّهم يتَّخذون من دونه آلهة، يطلبون عندها العِزَّة، والغَلَبَة والنُّصْرَة، وكان فيهم من يعبد الملائكة، ومن يعبد الجنَّ ويستنصر بهم، ويتَّقون بهم كَلَّا، فسيكفر الملائكة والجنُّ بعبادتهم، وينكرونها عليهم، ويَبْرَؤون إلى الله منهم، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا بالتَّبرُّؤ منهم، والشَّهادة عليهم" ((في ظلال القرآن) لسيد قطب [4/2320]) بتصرف يسير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ((مدارج السالكين) لابن القيم [2/295].
(2) ((مدارج السالكين) لابن القيم [2/296]).
(3) ((الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية) للمناوي. ص [82]).
(4) الخسف: الإذلال وتحميل الإنسان ما يكره. ((لسان العرب) لابن منظور [9/68]).
(5) ((خلق المسلم) لمحمد الغزالي. ص [181]).
(6) ((غرر الخصائص الواضحة) للوطواط. ص [523]).
(7) (ذكرها ابن هشام في (السِّيرة) ص [555]، قال الشَّوكاني في (فتح القدير) [1/548]: رُوِيت هذه القصَّة مختصرة ومطولة من طُرُق، وقال: «» (رواه البخاري [4905]، ومسلم [2506]).
(8) (رواه بنحوه الحاكم [1/130]، وصحَّحه الألباني في (سلسلة الأحاديث الصَّحيحة) [1/117] على شرط الشيخين).
(9) (رواه أبو داود [5116]، والترمذي [3955]، واللَّفظ له، وأحمد [2/361] [8721]، والبيهقي [10/232] [21593] قال الترمذي: حسن غريب. وحسَّن إسناده المنذري في (التَّرغيب والتَّرهيب) [4/62]، وصحَّحه ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) [1/247]، وحسَّنه الألباني (صحيح سنن الترمذي) [3955]).
(10) سربال: أي: قميص من قطران طلاء يطلى به، وقيل: دهن يدهن به الجمل الأجرب، ودرع: أي قميص، من جرب أي: من أجل جرب كائن بها. (انظر: (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح) لملا علي القاري [3/1235]).
(11) (رواه ابن ماجه [2922]، وأحمد [2/92] [5664]، والنَّسائي في (السنن الكبرى [5/460] [9560])، وأبو يعلى [10/62] [5698]، وقال الشَّوكاني في (الدراري المضية [80]): إسناده رجاله ثقات. وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تحقيق (مسند أحمد [8/43])، وحسَّن الحديث الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه [2922])).