سلامة القلب (2)
التقوى في القلب، والتقي النقي لا إثم فيه ولا حسد ولا غل ولا حقد
- التصنيفات: أعمال القلوب -
القلوب الصالحة درجات في المجتمعات المفلحة، والقلوب الكالحة هي دركات في المجتمعات الطالحة؛ فهي المضغة التي إذا صحلت صلح الجسد كله؛ لأنها محل التقوى، وعبَّر عن ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم: « » وأشار إلى قلبه الشريف ثلاث مرات(مسند أحمد؛برقم:7713)، ومعنى ذلك أن تقوى الله تعالى محلها القلب، فإذا اتَّقى القلب اتقت الجوارح، وفي رواية أخرى ورَد قوله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم؛برقم:2564).
التقوى محلها القلب؛ لذلك فهي لا تليق إلا بقلب المؤمن بربه، المطمئن لخالقه، الخاضع لرازقه، المتوجه إليه، المتوكل عليه، الخاشع بين يديه، به يُفكِّر ويدبر، وبه يُبصر ويسمَع، وبه يقوم ويَقعُد، وبه يتحرك ويمشي... القلب السليم عَظُمَ الخالقُ في نفسه، فصغُر ما دونه في عينه.
قال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: "ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرَّم الله، وأداء ما افترض الله، فمَن رُزق بعد ذلك خيرًا، فهو خيرٌ إلى خير".
المؤمن يعيش سليم الصدر، طاهر القلب، بعيدًا عن الأحقاد والغليان، معزولاً عن وساوس الشيطان، مُتجنِّبًا للظلم والطغيان! يعيش خالي الهمِّ، قرير العين، سعيد الحظ، يفرح لأخيه المسلم في أفراحه، ويَحزن له في أتراحه، وبذلك يَحيا المسلم راضيًا عن الله، مُستبشرًا بالحياة، باحثًا عن النجاة!
الحقد الأسود يفسد الأعمال الصالحة، ويَطمِس بهجتها، ويُعكِّر صفوها، أما القلب المشرق العَمُور بالإيمان يَنساق إلى الصواب، ويَنطلِق إلى الحق، ولا يَخرج منه إلا خير البلاد وراحة العباد؛ لذلك يبارك الله في قليله، وهو إليه بكل خير أسرع؛ عن عبدالله بن عمرو: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: « »، قيل: صدوق اللسان نَعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: « » (سنن ابن ماجه؛برقم:4216)، ومِن ثَم كانت الجماعة المسلمة حقًّا هي التي تقوم على عواطف الحب المشترك، والود الشائع، والتعاون المتبادَل، لا مكان فيها للفردية، ولا مجال فيها للأنانية، بل هي كما وصف القرآن: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
إن الخصومة إذا نمَت وتفرَّعت وترعرعت أسقطت المروءة، وأوجبت اللعنة، ومِن ثَمَّ تُخفي في عينه الفضائل، ولا تُظهر إلا الرذائل، وقد يذهب بها الحقد إلى افتراض الأكاذيب، ونسج العيوب، وطمس الحسنات، ووأد القربات..!!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» قالوا: بلى! قال: « » (سنن الترمذي؛برقم:2509).
والشر قد يتطور، والحقد ربما يتنامى فيسقط بصاحبه إلى أسفل سافلين؛ روى ابن عباس أن رسول الله قال: «
»، قالوا: بلى، إن شئتَ يا رسول الله، قال: « » قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله، قال: « » قالوا: بلى، إن شئتَ يا رسول الله، قال: « » قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: « » (ضعيف الترغيب والترهيب 2/ 120)(المعجم الكبير للطبراني؛برقم10775).
بل قد يصل به إلى أربى الربا، كيف؟! روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: أتدرون أربى الرِّبا عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: « : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]» (شعب الإيمان؛برقم6285).
تتبُّع العورات وتلمُّس العيوب جريمة يُعاقب عليها الشرع؛ {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:19]؛ لذلك نصح الإسلام لمن عليه الحق، أما من له الحق فقد رغب إليه أن يَلين ويسمح، وأن يمسحَ أخطاء الأمس بقبول المعذرة، عندما يجيء له أخوه معتذرًا ومُستغفرًا، ورفْضُ الاعتذار خطأ كبير.
وقد كان النبي ينهى أن يُبلَّغ عن أصحابه ما يَسوءُه، قال: « » (السنن الكبرى للبيقي؛برقم:16675).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (مسند أحمد؛برقم:16960)، وقال: « » (مكارم الأخلاق للخرئطي؛برقمك418).
ذُكر أنه كان لأبي حنيفة جارٌ فاسد يَشرب الخمر، فنصحه حتى تعب من كثرة نصحه، فتركه، وذات يوم طرق على الباب زوجة السِّكير تدعو أبا حنيفة للصلاة على زوجها السكير، فرفضَ، وفي منامه جاءه السِّكير وهو يتمشَّى في بساتين الجنة ويقول: "قولوا لأبي حنيفة: الحمد لله لم تُجعَل الجنة بيده"، لما أفاق سأل زوجته عن حاله، فقالت: هو ما تعرف عنه، غير أنه كان في كل يوم جمعة يُطعم أيتامَ الحي، ويَمسح على رؤوسهم ويبكي، ويقول: "ادعوا لعمِّكم"، فلعلها كانت دعوة أحدهم، فندم إمامنا الجليل أشد الندم، وذكر: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل الجنة فيدخلها" ثم قال: "لا تسبوا أصحاب المعاصي ولا تَحتقِروهم؛ فإنما نحيا بستر الله، ولو كشف الله عنا ستره لفضَحَنا".
نموذج فريد لطهارة القلب وسلامة الصدر:
عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « »، فلما كان الغد قال النبي مثلَ ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلمَّا كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثال حاله الأولى، فلما قام النبي تبعه عبدالله بن عمرو - تبع الرجل - فقال: إني لاحَيتُ أبي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُؤويني إليك حتى تمضي فعلت! قال: نعم، قال أنس: فكان عبدالله يُحدِّث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي، فلم يرَه يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار - تقلب في فراشه - ذكر الله عز وجل، حتى ينهض لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضَت الليالي الثلاث، وكدتُ أحتقر عمله، قلت: يا عبدالله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله يقول لك - ثلاث مرات -: « » فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردتُ أن آوي إليك فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملتَ كبير عمل! فما الذي بلَغ بك ما قال رسول الله؟ قال: ما هو إلا ما رأيتَ، قال عبدالله: فلما وليت دعاني فقال: "ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه"، فقال عبدالله: هذه التي بلغَت بك، وفي رواية: "ما هو إلا ما رأيتَ يا بن أخي، إلا أني لم أبِتْ ضاغنًا على مسلم" (مسند أحمد؛برقم12697) .
والحسد مرض مدمِّر، ناتج من ضغائن القلب، بل يزرعها ويُنميها، والبون بعيد بين الحسد والطموح، وبين الحسد والغبطة، كيف؟
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35]، وفي سورة الفرقان: {رَبَّنَا {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
ومن سقوط الهمة وفقد القمة أن تَرتبِط الآمال بالتفاهة من الأحوال، وهناك شؤون يُعتبَر التشبث بطلبها عبثًا، لا يورث إلا الحسرة، وقد يَنتهي بالحقد على الناس، وفقد الإحساس، وضياع الأعمال، وسوء الحال، قال رسول الله: « » (سنن ابن ماجه؛برقم971)، حفظني الله وإياكم مِن كل سوء، وساقني الله وإياكم إلى كل خير.
خميس النقيب