يسر الإسلام في الصلاة
راغب السرجاني
إن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تزداد وضوحًا وجلاءً عندما يكون الأمر خاصًّا بعموم الأمة، فإن هذا الدين لم ينزل لمجموعة معينة من الناس دون غيرهم، إنما نزل للكبير والصغير، والرجل والمرأة، والقوي والضعيف، والغني والفقير، وغير ذلك من أصناف في داخل الأمة الواحدة...
- التصنيفات: فقه الصلاة -
"إن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني" [1].
"يوجد عبادة تسمى (الجلهكية) وهم عبّاد الماء، فإذا أراد أحدهم الصلاة تجرد من ثيابه ولم يستر إلا عورته، ثم يدخل الماء إلى وسطه، فيقيم ساعة أو ساعتين أو أكثر" [2].
"كما جاء في تعاليم الهندوسية: يجب أن تعوّد نفسك على تقلبات الجو، فاجلس تحت الشمس المحرقة، وعش أيام المطر تحت السماء، وارتد الرداء المبلل في الشتاء، وليكون طعامك مما تنبته الأرض وإياك واللحم، وعندما تبلغ الشيخوخة اترك الأهل وعش في الغابات ولا تقص شعرك ولا تقلم أظافرك" [3].
هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!
لقد كانت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في جانب الصلاة واضحة جَلِيَّة ظهرت في مواقف عديدة في حياته، وقد جمعنا بين القرآن والصلاة في مبحث واحد لشدة ارتباطهما، كما أن الصلاة قد يُعَبَّر عنها بالقرآن، مثل قول الله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء من الآية:78]، قال ابن كثير رحمه الله: "يعني صلاة الفجر" [4].
صور من يسر الإسلام في الصلاة:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الصلاة حبًّا لا نستطيع وصفه بألسنتنا أو بأقلامنا، ولكن ننقل وصفه هو لهذا الحب..
قال: «
» [5].ومع هذا الحب العميق للصلاة إلا أنه كان رحيمًا بأمته، فلم يُرِدْ منهم الإكثار في هذا الجانب حتى لا يملُّوا.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين؛ فقال: «
»، قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ؛ فقال النبي: « » [6].وهذا التوجيه والتعليم يفعله مع واحدة من أعظم نساء الأرض، فهي أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، وقد يُطلَب منها ما لا يُطلَب من عامة النساء، ولكنها القاعدة التي لا خلاف عليها: « ».
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يظل العبد مربوطًا طيلة حياته بربه، فلا يكسل في لحظة، أو يُفرِّط في أخرى؛ ولذلك كان يحب العمل الدائم ولو كان قليلًا، فهذا أصلح للعبد وللمجتمع...
قال رسول الله: «
» [7].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته من عدم التوازن فتضيع حقوق الأسرة والمجتمع إذا صرف العبد وقته كله في الصلاة والقرآن، ولذلك كان ينصح المكثِرِين بالتقليل والتخفيف، ومن أشهر وأجمل مواقفه ما حدث مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
لقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما من الصَّوَّامين القَوَّامين، فكان يقوم كل ليلة بالقرآن فيختمه كاملًا! وقد كان يظن هذا هو الأفضل والأعظم، فدار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حوار يستفسر فيه عبد الله عن كَمِّ القراءة الأمثل..
يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: في كم أقرأ القرآن؟ قال: «
». قلت: إني أطيقُ أفضل من ذلك، قال: « ». قلت: إني أطيقُ أفضل من ذلك، قال: « ». قلت إني أطيقُ أفضل من ذلك، قال: « ». قلت: إني أطيقُ أفضل من ذلك، قال: « ». قلت: إني أطيقُ أفضل من ذلك، قال: « » [8].فنحن في هذا المثال نشاهد شابًّا قويًّا هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي أكثر، وليقرأ القرآن كاملًا في أقصر مدة ممكنة، وعلى الجانب الآخر يجادله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخفف عنه ويرحمه! قد نتعجب من حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على التقليل من عبادة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولكن عند التدبر بعين الرحمة تجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم حريص على استمرارية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في طريق العبادة دون كسل ولا فتور ولا إرهاق شديد، وحريص على زوجته وأسرته أن يأخذا حقهما منه، وحريص كذلك على المجتمع أن يصبح عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عضوًا فاعلًا فيه يعمل وينتج ويُعلِّم ويجاهد ويتزاور...
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حريص على أن يعيش عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حياة متوازنة، وذلك رحمة به ورحمة بمجتمعه..
ثم إن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تزداد وضوحًا وجلاءً عندما يكون الأمر خاصًّا بعموم الأمة، فإن هذا الدين لم ينزل لمجموعة معينة من الناس دون غيرهم، إنما نزل للكبير والصغير، والرجل والمرأة، والقوي والضعيف، والغني والفقير، وغير ذلك من أصناف في داخل الأمة الواحدة...
إنه صلى الله عليه وسلم يفهم أحوال الناس وظروفهم، ويرحمهم لأجل ذلك، ولا يريد أن يأتي الرجل صلاة أو صلاتين ثم ينقطع كُلِّيَّةً بعد ذلك، بل هو ينظر برحمة إلى حالته ويُقدِّرها، ومثل هذا الموقف حدث مع معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو صحابي جليل، وقريب جدًّا من قلب الرسول، وكان كثيرًا ما يمدحه صلى الله عليه سلم ويُثني عليه، ولكن هذه الدرجة القريبة من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لتصبح مبررًا لأن يطيل معاذ رضي الله عنه في الصلاة فيقسو بذلك على المأمومين...
إن القسوة مرفوضة، حتى لو كانت في عبادة الصلاة!
يحكي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا الموقف فيقول: أقبل رجلٌ بِنَاضِحَيْنِ وقد جنح الليل فوافق معاذًا يُصلِّي [9]، فترك نَاضِحَهُ وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل وبلغه أن معاذًا نَالَ منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشَكَا إليه معاذًا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «
» [10].إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف يُعلِّم الأئمة أن يرحموا المصلين في المساجد، ولا يشقُّوا عليهم بكثير صلاة أو قيام، وهذه هي الرحمة في قمة صورها...
إنه يسعد بالإمام الذي يقرأ بالشمس والليل أكثر من سعادته بالإمام الذي يقرأ بالبقرة والنساء!
أَلا فَلْيَفْهَمِ المسلمون دينهم!
وألا فليعرف العالم رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ومثله ما حدث منه صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان...
صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاتِهِ ناسٌ، ثم صلَّى من القابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثم اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يخرُج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أَصْبَح قال: « »، وذلك في رمضان [11].
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله يفرض على عباده ما يشاء في الوقت الذي يشاء، وبالطريقة التي يشاء، ولكنه يعلم أيضًا أن الله قد جعل الأسباب، ولا يريد أن يكون هو سببًا لمشقة تحدث للمسلمين، وقد شدَّد بنو إسرائيل على أنفسهم فشدد الله عليهم، وما قصة البقرة بخافية [12]، ولذلك آثر رسول الله أن يصلِّي قيام رمضان منفردًا لكي يرحم المسلمين بتقليل الفروض عليهم!
إن المرء لا يملك عند رؤية هذه المواقف وأمثالها إلا أن يقول ما قاله رب العالمين سبحانه وتعالى في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
______________
[1] م. ج. دُرّاني (مرجع سابق: ص[28]).
[2] أحمد عبد الرحيم، حركات هدامة، دار المنارة، بيروت، الطبعة الأولى 1416ه / 1996م.
[3] نفس المرجع السابق[243-247].
[4] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم [3/ 75].
[5] النسائي [3940]، وأحمد [14069]، ومالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني [523] بلفظ « »، والحاكم [2676]، وقال الألباني: صحيح [3098] في صحيح الجامع، وفي السلسلة الصحيحة [3291].
[6] البخاري: كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة [1099]، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته [784]، والنسائي [1643]، وأبو داود [1312]، وابن ماجة [1371]، وأحمد [12005]، وابن خزيمة [1180]، وابن حبان [2492].
[7] مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى [2818]، والنسائي [762]، وأبو داود [1368]، وأحمد [25512].
[8] مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوَّت به حقًّا، أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم [1159]، والترمذي [2946] واللفظ له، وقال: حسن صحيح، وأبو داود [1390]، والنسائي [2400]، والدارمي [3486].
[9] يصلي صلاة العشاء بالناس، وكان ذلك متأخرًا في هذا اليوم.
[10] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب من شكا من إمامه إذا طَوَّلَ [673]، مسلم: كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء [465]، النسائي [835]، وأبو داود [790]، وابن ماجة، وأحمد [14346].
[11] البخاري: أبواب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب [1077]، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التروايح [761]، وأبو داود [1373]، وأحمد [25485]، وابن حبان [2542].
[12] راجع [البقرة:67-71].