الضوابط الشرعية بين الثوري والمهدي

لا يكاد يمرّ يوم دون أن يخرج صوت جديد يردّ على من يُحرِّم الاختلاط، ويجلب علينا بخيله ورجله، ويحشد الأدلة والبراهين التي يرى أنّها ترد على من قال بتحريم الاختلاط في التعليم وأماكن العمل ونحوها بإطلاق، ويبدأ في سرد الضوابط والقيود الشرعية الّتي يمكن معها تشريع الاختلاط، ومثل ذلك القول بجواز قيادة المرأة للسيارة، ومثله السماح بوجود السينما، وغير ذلك حزمة المسائل المُستحدَثة...

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

لا يكاد يمرّ يوم دون أن يخرج صوت جديد يردّ على من يُحرِّم الاختلاط، ويجلب علينا بخيله ورجله، ويحشد الأدلة والبراهين التي يرى أنّها ترد على من قال بتحريم الاختلاط في التعليم وأماكن العمل ونحوها بإطلاق، ويبدأ في سرد الضوابط والقيود الشرعية الّتي يمكن معها تشريع الاختلاط، ومثل ذلك القول بجواز قيادة المرأة للسيارة، ومثله السماح بوجود السينما، وغير ذلك حزمة المسائل المُستحدَثة.

أكثر ما يثير العجب في حال هؤلاء المتفقّهة هو الغرور المتناهي، فهل يظنّ هؤلاء أنّ كبار أهل العلم والديانة والعلم بالشريعة وفقه مصالحها ومفاسدها على غفلة وجهل بهذه الضوابط والقيود التي يستطيلون بها على غيرهم؟

دعوني أنقل لكم هذا الموقف:

"لما استُخلف الخليفة المهدي بعث إلى أبي عبد الله سفيان الثوري الإمام المشهور، فلما دخل خلع المهدي خاتمه فرمى به إليه، فقال: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، فأخذ الخاتم بيده، وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين، قال: نعم، قال: أتكلّم على أنّي آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك، ولا تعطني شيئاً حتى أسألك، قال: فغضب من ذلك وهمّ به، فقال له كاتبه: أليس قد أمّنتَه يا أمير المؤمنين؟! قال: بلى، فلما خرج حفّ به أصحابه، فقالوا: ما منعك يا أبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟ قال: فاستصغر عقولهم، ثم خرج هارباً إلى البصرة". أ.هـ

بطبيعة الحال أيّ واحد منّا قد يعجب لهذا الموقف من سفيان، الخليفة يفتح له المجال ليعمل بالكتاب والسنّة وهو يأبى ويمتنع؟ أيّ سلبيّة هذه؟ وهذا كان موضوع احتجاج من أصحاب سفيان عليه.

لكن سفيان استصغر عقولهم؛ لأنّه يعلم أنّ الخليفة إنّما أراد أن يتخذ من وجود سفيان في بطانته حجّة على غيره من أهل العلم حين ينكرون عليه، وكان يعرف أنّ مخالطتهم تغيّر القلوب، فكان يقول: إن الرجل ليستعير من السلاطين الدابة والسرج أو اللجام فيتغيّر قلبه لهم.

قال ابن المبارك: "قيل لسفيان الثوري: لو دخلتَ عليهم، قال: إني أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلت فيه، قيل له: تقول وتتحفظ، قال: تأمروني أن أسبح في البحر ولا تبتل ثيابي، ليس أخاف ضربهم، ولكني أخاف أن يميلوا عليَّ بدنياهم، ثم لا أرى سيئتهم سيئة".

نعم هذه هي الطّامة وهي ما نعاني منه اليوم: أنّ بعض فقهائنا ودعاتنا للأسف لم يعد يرى السيّئة سيّئة، وأصبح يتأوّل للسيئات بأقبح ما يكون من تأويل.

نعود لسفيان: لماذا لم يقتنع بدعوة الخليفة، سأله رجل عن ذلك فقال: لأي شيء تهرب من الرجل -أي الخليفة- والرجل يقول: لو جاء لخرجت معه إلى السوق فأمرنا ونهينا، فقال له سفيان: "يا ناعس! حتى يعمل بما يعلم فإذا عمل بما يعلم لم يسعنا إلاّ أن ننصَب فنعلّمه ما لا يعلم" أ.هـ

أي أنّه مفرط في كثير مما يعلم أنّه مخالف فيه للشريعة ويصرّ على مخالفته، فلو صدق في نيته استكمال تطبيق الكتاب والسنة لبدأ بما يعلمه، فعند ذلك يجب علينا أن ننصب ونتكلّف تعليمه ما يجب من الأحكام التي يجب تطبيقها على الناس.

عرف سفيان بنور البصيرة الّتي وهبه الله إيّاها أنّه من الخير للعالم الذي يحترم علمه، ويحترم مبادئه ألاّ يشارك في تزكية الباطل، ولو كان بالتضحية في المشاركة في شيء من الإصلاح.

وهنا تتجلّى لنا ميزة يتميّز بها فقهاء السلف هو الفطنة والبصيرة في الدين، فإنّ الواحد منهم لشدّة تعلّقه بالله وتديّنه بدين الله وشدّة اقتفائه الأثر نوّر الله بصائرهم، وأمر آخر لا يقل عمّا مضى وهو تطلبهم الآخرة وشدّة احتقارهم للدنيا، سواء كانت منصباً أم مالاً، أم زوجة، أم غير ذلك من متاعها.

العبرة من قصة سفيان:

كثيراً ما نسمع اليوم مطالبات من هنا وهناك بأمور تدخل تحت ما حُرّم لأنّه ذريعة للحرام، وأصبحنا نرى تسارع بعض المتفقّهة في تلقّي ما يُلقى إليهم من مطالبات تستظهر الحق وتستبطن الباطل، ويخرج علينا كثير منهم وقد تمّ تلميعهم وتزويقهم ليحتجّوا بظواهر النصوص وعموماتها منزوعة من سياقاتها وسباقاتها على بعض ما يسمّونه حقوقاً، وأكثرها سوءاً وخبثاً ما تم طيّه تحت عنوان حقوق المرأة.

لا ينكر عاقل أنّ المرأة مثلها مثل كل ضعيف تُنتهك حقوقها، وأهل الشريعة هم أوّل من يقف في صفها وصف كل ضعيف مادام المطلب شرعياً لصيقاً بضرورات الحياة وحاجاتها دون أن يكون معبراً للتغريب، وجسراً للعلمنة، وأداة لأهل المنكر.

(الضوابط الشرعية)...! هذه العبارة اعتدنا سماعها عند الحديث عن قيادة المرأة للسيارة ووجود المسرح والسينما والاختلاط -وهو حديث الساعة - يردّدها المتفقهة والسياسيون والمثقفون، بل إنّ من ابتذالها أن يحتجّ بها الليبراليون، وهم أكثر الناس كفراً بها، وتمرّداً عليها..

وكلّ فقيه حقيقي نوّر الله بصيرته وألقى عن عينه غشاوة الدنيا، أو غفلة الصالحين وإفراطهم في إحسان الظنّ يعرف أنّ الضوابط الشرعية على الرغم من كثرة من يدافع عنها، ويطالب بتطبيقها من أكثر الضوابط انتهاكاً بلا رادع..

نحن نعيش في حياتنا حالات كثيرة لا يُراعى فيها ضوابط القانون، ولا النظام، ولا الشرع، وفي أمور في غاية اليسر وفيها أصول مسطورة وقواعد مقدورة، ومع هذا فلا راعي لها.

خُذ على سبيل المثال الضوابط الشرعية في نظام المواد الإعلامية، فإنّك إذا تتبعتها وجدت غالبها في حكم المهجور أو الملغى.

فعندما يغترّ بعض المتحدثين عن حقيقة ما يُراد تمريره تحت عباءة الضوابط الشرعية فهو بعيد جداً عن حكمة وحنكة فقهاء السلف الذين لم يكونوا يغترون بالكلام والشعارات..

لا ينبغي للعالم والفقيه والداعية أن يجعل من جاهه وصِيته عند الناس وسيلة لتزكية مشاريع التغريب وتسليسها وتليينها لتمر بلا نكير حتى تصبح واقعاً يصعب الانفكاك منه.

الموقف الصحيح عند معايشة واقع مثل واقعنا أن نترك التغريب والتغيير عارياً مفضوح النزعة والدوافع والأهداف؛ لأنّ ذلك أجدر وأحرى أن يُغيّر..

أمّا إذا حاول الفقيه المشاركة فيما هو أكبر منه فإنّه لن يمكنه أكثر من يكون بطاقة مرور للمشروع وشهادة تزكية مزوّرة.

عندما قال ميمون بن مهران -وغيره من السلف-: ثلاث لا تبلون نفسك بهن وذكر منها: "لا تدخل على السلطان وإن قلتَ آمرُه بطاعة الله" لم يكن غافلاً عن فقه المقاصد وفقه المفاسد والمصالح، كما يظن بعضنا أنّه يتقن هذا الفن أكثر منهم، ولهذا لم يختلفوا في القرب من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ لأنّهم يعرفون منه الصدق في تطبيق الكتاب والسنة، لا الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، كما يفعل بعض أهل السياسة في عصورنا هذه، ومن الحماقة أنّ يظنّ شخص أنّهم أكثر قرباً إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأكثر رغبة في تطبيق الشريعة من خلفاء بني أمية.

وعوداً على بدء فإنّ توظيف الضوابط الشرعية في الاستدلال لجواز هذه المطالبات هو كلام لا معنى له؛ إذ نظرة واحدة فيما حولنا ندرك أنّ كثيراً من الأمور تسير في حياتنا دون اهتمام ولا مراعاة للضوابط الشرعية، فكيف يمكن لعاقل أن يصدق واقعية أو حقيقة التعهّد بمراعاة الضوابط الشرعية في قيادة المرأة أو السينما أو الاختلاط البريء أو غير ذلك من شعارات أهل الباطل لمرحلة جديدة وخطيرة تمر بها بلادنا؟

مرحلة إن لم نتنبّه لها ونعي خطورة المشروع التغريبي الذي يُبنى فيها، ويُؤسّس له على أرضنا، وندرك أبعاده فستكون نقلة كبيرة واسعة تزيد من عرض البرزخ الذي يفصلنا عن الكتاب والسنة.

والله المستعان.

 

أحمد بن صالح الزهراني

المصدر: الدرر السنية