(5) إبراهيم عليه السلام وملك بابل
- التصنيفات: قصص الأنبياء -
ساق لنا القرآن الكريم موقف إبراهيم عليه السلام من دعوة ملك البلاد التي كان يعيش فيها وكيف أنه عليه السلام لم يخف في الله لومة لائم، ولا مُلك ملك متجبر.
وكان إبراهيم عليه السلام يعيش في مدينة بابل من أرض العراق.. وقيل أن هذا الملك اسمه النمرود.. وعمومًا فإن الله سبحانه وتعالى لم يُشِر إلى اسمه وهذا لأن الأسماء ليست مهمة في سياق القصة وإنما المهم هو العبرة.
لما سمع هذا الملك الذي حكم مدة طويلة من الزمن –قالوا إنها وصلت أربعمائة سنة- بأمر إبراهيم عليه السلام وأنه يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا ولد.. ولما علم بأمر خروجه عليه السلام من النار سالمًا من غير أن يُصاب بأذى.. أراد أن يُحضره ليجادله في أمر دعوته إلى الله تعالى.
فلما حضر إبراهيم عليه السلام عند الملك.. سأله الملك: من ربك؟ فأجاب إبراهيم بكل يقين وثقة: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فهو القادر المتصرف في حياة الناس وجميع الخلائق.. قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة".
فقال هذا الملك: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}.. أي أنا أفعل كما يفعل الرب.. وقيل إنه أمر برجلين محكوم عليهما بالسجن.. فأمر بواحد منهما فعفا عنه وقال: هذا عفوت عنه فأحييته، وأمر بالآخر فقُتل، وقال: هذا أمته. وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره، وطول مدته في الملك.. فادعى لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة.
فأبهة الملك تنسي الطغاة أصلهم وتخدعهم قوتهم وسطوتهم، فيحسبون أنهم يفعلون ما يشاؤون، ولا يكون إلا ما يريدون، وأنهم على كل شيء قادرون... وربما يزداد الطغيان فينسى المسكين ربه الرحمن ويدعي أنه هو رب العالمين كما فعل النمرود مع إبراهيم عليه السلام.
لكن إبراهيم عليه السلام أراد أن يقيم عليه الحجة الدامغة فقال له إن الذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الكون، فإن كنت إلهًا كما تدعي لنفسك فاجعل الشمس تشرق من المغرب بدلًا من المشرق.. وهذا الدليل الثاني مُكمل لمعنى الدليل الأول ومُبين له ومقرر لتضمن الدليلين أفعال الرب الدالة عليه وعلى وحدانيته وانفراده بالربوبية والإلهية.. وحينئذٍ لم يدرِ هذا الملك جوابًا وانقطعت حجته فسكتَ ولم يُجب وذلك لأنه لا يستطيع القيام بهذا الأمر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "خاف أن يقول لإبراهيم فسل ربك أن يأتي بها من مغربها فيفعل ذلك فيظهر لأتباعه بطلان دعواه وكذبه وأنه لا يصلح للربوبية فبُهت وأَمسك" (مفتاح دار السعادة).
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
وقال بعض المفسرون أن هذا الملك الطاغية كان يحتكر الطعام وكان لا يصرفه للناس إلا بعد أن يسجدوا له.. فلما جاء إبراهيم عليه السلام ليأخذ الطعام له ولأهله رفض أن يسجد لهذا الملك وقال أنا لا أسجد إلا لربي، فسأله الملك: ومن ربك؟ فقال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ثم جرت هذه المناظرة بينهما.. فلما أفحمه إبراهيم عليه السلام رفض هذا الملك أن يعطيه الطعام فرجع إلى أهله دون أن يحضر الطعام ثم ملأ الأمتعة التي كانت معه بالتراب حتى لا يحزن أهله فلما وصل إليهم نام من شدة التعب فقامت امرأته لتُحضر له الطعام ووجدت الأمتعة التي أحضرها مليئة بالدقيق فخبزت منه فلما استيقظ إبراهيم عليه السلام سألها من أين أتت بهذا الطعام فأخبرته أنه من الدقيق الذي أحضره.. فعلم أن الله سبحانه وتعالى قد ساق له هذا الرزق.
قال ابن القيم رحمه الله: "وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدًا وهي أن شِرك العالم إنما هو مُسنَد إلى عبادة الكواكب والقبور ثم صُورت الأصنام على صورها. فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يُحيي ويُميت، ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته؛ فإن له ربًا قادرًا قاهرًا مُتصرِفًا فيه إحياء وإماتة، ومن كان كذلك فكيف يكون إلهًا حتى يُتخَذ الصنم على صورته! ويُعبد من دونه! وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مُدبرة مُسخَرة لا تَصرُف لها في نفسها بوجه ما، بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته فهي مربوبة مسخرة مدبرة لا إله يُعبد من دون الله" (مفتاح دار السعادة).
سدرة المُنتهى