صورٌ مُشرقةٌ من احتسابِ ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه
إن عثمان بن عفان رضي الله عنه من الأئمة الذين يتأسى الناس بهديهم وأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، فسيرته رضي الله عنه من أقوى مصادر الإيمان، والفهم السليم لهذا الدين، وفي هذه الصفحات قمت بجمع ما تيسر لي من الصور المشرقة التي قام بها عثمان رضي الله عنه في مجال الاحتساب.
- التصنيفات: قصص الصحابة - سير الصحابة -
إن عثمان بن عفان رضي الله عنه من الأئمة الذين يتأسى الناس بهديهم وأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، فسيرته رضي الله عنه من أقوى مصادر الإيمان، والفهم السليم لهذا الدين، وفي هذه الصفحات قمت بجمع ما تيسر لي من الصور المشرقة التي قام بها عثمان رضي الله عنه في مجال الاحتساب.
- حسبته في مجال العقيدة:
من أبرز الأمور الاحتسابية التي قام بها عثمان بن عفان رضي الله عنه حرصه على نشر عقيدة التوحيد، واحتسابه على كل ما يكدر صفوها، فقد قام رضي الله عنه بهدم بيتٍ لصنمٍ بصنعاء، قال ابن الجوزي رحمه الله في معرض بيانه لبيوت الأصنام التي بُنيت: "والخامس بيت بصنعاء بناه الضحّاك على اسم الزهرة، فخربه عثمان بن عفان رضي الله عنه" (تلبيس إبليس [1/56]).
وهذا الاحتساب من ذي النورين رضي الله عنه كان اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أول شيءٍ فعله لما فتح مكة أن قام بتكسير الأصنام التي حول الكعبة.
وكان عثمان رضي الله عنه يعلم مدى خطورة الارتداد عن دين الله تبارك وتعالى؛ ولذلك احتسب رضي الله عنه على من كفر بعد إيمانه، فدعاه إلى الإسلام ثلاثاً فأبى فقتله. (مصنف عبد الرزاق [10/164]، برقم: [18692]).
ومرةً كتب إليه عبد الله بن مسعود يخبره عن رجالا بالكوفة ينعشون حديث مسيلمة الكذاب ويدعون إليهم، فما كان من عثمان رضي الله عنه إلا أن كتب: "أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فمن قبلها وبرئ من مسيلمة فلا تقتله، ومن لزم دين مسيلمة فاقتله"، فقبلها رجال منهم فتركوا، ولزم دين مسيلمة رجال فقُتِلوا(سنن البيهقي الكبرى [8/201]، برقم [16629]).
ومن هنا يستفيد المحتسب والقائم على حدود الله أن يتمهل في الاحتساب ويتدرج فيه، فعثمان بن عفان رضي الله عنه لم يلجأ إلى قتل من كان ارتد عن دين الله مباشرة، بل كان يدعوهم إلى الإسلام، ويُكرّر الدعوة لهم، فإن استجابوا فبها ونعمت، وإلا قُتِلوا، وهذا يدل على حرمة دم من شهد ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
وحرصاً من ذي النورين رضي الله عنه على عقيدة التوحيد فقد سدّ كل ذريعة تؤدي إلى الإشراك، ومن ذلك أنه خرج فأمر بتسويَة القبور فسويت إلا قبر أم عمرو، ابنة عثمان، فقال: ما هذا القبر؟ فقالوا: قبر أم عمرو فأمر به فسوِّي (مصنف ابن أبي شيبة [3/341]، برقم [11917]).
وهذا العمل الموفق من عثمان رضي الله عنه كان اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يدع تمثالاً إلا طمسه ولا قبرا مشرفاً إلا سواه.
فما أقبح ما ابتدعه جهلة المسلمين من زخرفة القبور، وتشييدها والبناء عليها، فيا علماء الدين، أي وزر للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضرُّ عليه من عبادة غير الله؟ وأي مصيبة يُصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكرٍ يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البيّن واجباً.
- احتسابه رضي الله عنه في كتابة المصحف وجمع القرآن:
سار القرَّاء من الصحابة مع الفتوحات، وتفرّقوا في الأمصار وأخذ كل مِصرٍ عمن وفد إليهم من الصحابة قراءته، ووجوه القراءة التي كانوا يقرؤون بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها، فكانوا إذا اجتمعوا في موطنٍ وتدارسوا القرآن عجب البعض من وجوه الاختلاف، ثم يدور الكلام حول فصيحها وأفصحها، وقد يؤدي هذا إلى الاختلاف والتفرّق إن تركوا على ما هم عليه، فكانت مشكلة تتطلّب علاجاً فحسم ذلك النزاع الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد مشورة مع كبار الصحابة رضي الله عنهم، فاتفقوا على ضرورة جمع الناس على قراءةٍ واحدة، وهذا ما قام به عثمان رضي الله عنه فكان في عمله هذا ناصحاً لله ولكتابه ولرسوله ولعامة المسلمين.
أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن حذيفة بن اليمان قدِم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، فافعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أُفقٍ بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرَق" (رواه البخاري [4/1908]، برقم [4702]).
ولا ريب أن جمع القرآن وتوحيد المصاحف واجتماع الأمة على نص موحَّد لدستورها المهيمن على حياتها، من أعظم الاحتساب الذي قام به ذو النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
- احتسابه في العبادات:
ازدهرت الأسواق في عهد عثمان رضي الله عنه وكثر الناس، فرأى رضي الله عنه الحاجة إلى حث الناس إلى التبكير إلى صلاة الجمعة قبل النداء الأول الذي يكون بين يدي الإمام حين يصعد المنبر يوم الجمعة؛ فعن السائب بن يزيد رضي الله عنهم قال: "كان النداء يوم الجمعة أوّله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء" (رواه البخاري [1/309]، برقم [870]).
وهذا الفعل من عثمان رضي الله عنه إنما هو لمصلحة ظاهرة، وهو أن الناس عندما كثروا، وتباعدت منازلهم عن المسجد، رأى هذا الأذان نافعاً لدعوة الناس إلى الاستعداد لصلاة الجمعة، ويعتبر هذا الفعل من المصالح المرسلة.
- ومن احتساب ذي النورين رضي الله عنه في مجال العبادات:
إنكاره على قاصدات الحج والعمرة وهن في العِدّة، فعن مجاهد قال: "كان عمر وعثمان يرجعانهن حجاجٍ ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة" (مصنف عبد الرزاق [7/33]، برقم [12071]).
وهذا يدل على متابعته رضي الله عنه لكل من يرتكب منهيا، سواءً كانوا ذكوراً أو إناثاً، وفيه أهمية قيام المحتسب بالاحتساب على النساء إذا علم أنهن يتركن واجباً وهو البقاء في المنزل أثناء العدة.
- ومن صور احتسابه رضي الله عنه:
إنكاره على يعلى بن أمية رضي الله عنه طلبه منه استلام الركن الغربي للكعبة في الطواف، فعن يعلى بن أمية رضي الله عنه: "طفتُ مع عثمان فاستلمنا الركن، قال يعلي: فكنتُ مما يلي البيت فلما بلغنا الركن الغربي الذي يلي الأسود جررتُ بيده ليستلم، فقال: ما شأنك؟ فقلتُ: ألا تستلم؟ قال: فقال ألم تطف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلتُ: بلى، قال: أرأيته يستلم هذين الركنين الغربيين؟ قلتُ: لا، قال: أفليس لك فيه أُسوةٌ حسنة؟ قلتُ: بلى، قال: فانفذ عنك" (مسند أحمد بن حنبل [1/70]، برقم [512]، قال محققوا المسند صحيح لغيره).
-احتسابه في المصالح العامة:
لما رأى عثمان رضي الله عنه ضيق المسجد الحرام والمسجد النبوي بالمصلين قام بتوسعة المسجدين، ففي سنة 26 هـ زاد في المسجد الحرام ووسعه، واشترى أماكن للزيادة، وفي سنة 29 هـ زاد في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسّعه وبناه وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه ستةً على ما كانت عليه في زمن عمر بن الخطاب (انظر: البداية والنهاية [7/154]، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 155).
- احتسابه في الأخلاق والآداب العامة:
كان ذي النورين رضي الله عنه يحتسب على الناس ويلزمهم بالتقيد بأحكام الشرع وآدابه، ومن ذلك أنه عيّن رجلاً من بني ليث، وكلّفه مراقبة من يُطيِّرون الحمام بالجلاهق، فيزعجون الناس ويطّلِعون على عوراتهم، فقضى على تلك الظاهرة ومنع الناس منها وعاقب في ذلك (انظر: البداية والنهاية [7/214]، وتاريخ الإسلام لحسن إبراهيم حسن [1/264]).
(الجلاهق بضم الجيم: البندق المعمول من الطين، الواحدة "جلاهقة" وهو فارسي معرب؛ لأن الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة عربية. انظر: المصباح المنير[1/106]، والمعجم الوسيط [1/132]).
ومن ذلك أنه رضي الله عنه عين شخصاً لمنع الناس من شرب النبيذ، فقد ذكر الإمام الطبري عن القاسم بن محمد عن أبيه أنه قال: "حدث بين الناس النشو قال: فأرسل عثمان رضي الله عنه طائفاً يطوف عليهم بالعصا فمنعهم من ذلك، ثم اشتد فعل ذلك من الناس حتى انتشر ما يوجب الحد ونبأ بذلك عثمان وشكاه إلى الناس فاجتمعوا على أن يجلدوا في النبيذ فأخذ منهم نفر فجلدوا" (انظر: تاريخ الطبري [2/680]).
وفي أيام خلافته ضرب رجلاً في منازعة استخف فيها بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عن عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له عن مبررات ضربه، فقال: "نعم، أيفخّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه وأرخص في الاستخفاف به، لقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك ومن رضي به منه" (انظر: تاريخ الطبري [2/681]).
وكان رضي الله عنه ينهى الناس عن اللعب بالنرد وأمرهم بتحريقه أو كسره، فقد روى الإمام البيهقي عن زبيد بن الصلت أنه سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو على المنبر يقول: "يا أيها الناس إياكم والميسر -يريد النرد- فإنها قد ذُكِرت لي أنها في بيوت ناسٍ منكم فمن كان في بيته فليحرقها أو فليكسرها"، وقال مرة أخرى وهو على المنبر: "يا أيها الناس إني قد كلمتكم في هذا النرد ولم أركم أخرجتموها فلقد هممتُ أن آمر بحزم الحطب ثم أُرسِلُ إلى بيوت الذين هي في بيوتهم فأحرقها عليهم" (السنن الكبرى [10/215]، برقم [20745]).
وكان من احتسابه أيضاً أنه كان يُنكِر على من يراه على شرّ أو كان يحمل معه سلاحاً ويأمر بإخراجه من المدينة، فقد جاء عند الطبري عن سالم بن عبد الله رضي الله عنه قال: "وجعل عثمان رضي الله عنه لا يأخذ أحداً منهم -أي من أهل المدينة- على شرّ أو شهر سلاح عصاً فما فوقها إلا سيره" (انظر: تاريخ الطبري [2/680]).
- حسبته على الولاة:
كان عثمان رضي الله عنه يكتب إلى الأمصار بأن يرافقه العمال في كل موسم، ومن يشكوهم لينظر في قضاياهم وينصف للرعية من الراعي، وكتب إلى الناس في الأمصار أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، وأخبرهم بأنه مع الضعيف على القوي ما دام مظلوماً" (انظر: تاريخ الطبري [2/679]).
وكتب إلى ولاته؛ أوّل ولايته يقول: "أما بعد فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة لم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء" (تاريخ الطبري [2/590]).
ومن أعظم صور احتسابه رضي الله عنه، أن تم في عهده فتح إفريقية، وبلاد فارس، وسارت الفتوحات الإسلامية براً وبحراً، مؤيدة منصورة لا يستطيع أي طاغوت أن يصدها أو يوقفها (انظر: فتوح البلدان للبلاذري [153،223،326]).
ولا شك أن نشر دين الله تبارك وتعالى من أعظم الحسبة والقرب التي يتقرب بها العبد إلى الله.
لقد كان عثمان من الخلفاء الراشدين الذين اصطفاهم الله ليوطدوا في الإنسانية دعائم العدل والرحمة، ويسنُّوا بالناس سنن الهداية والرشد، وليتأسى بهم قادة الإصلاح ودعاة الخير وكل محتسب في كل عصر ومصر، رحم الله ذا النورين عثمان بن عفان ورضي عنه.
عبد الله علي العبدلي