قراءة بين سطور كرة الثلج التنويرية
يحتاج المتابع للحراك الفكري المحلي في السعودية إلى نفسٍ طويلٍ ومتابعة دقيقةٍ للتحولاتِ الفكرية للعديد من الأشخاص والتيارات، ليحصل على رؤية أقرب للصواب في التشخيص، فلو قال قائل إن غالبية التيارات الفاعلة في الوسط السعودي لا تكشف عن أجندتها بشكل صريح لاعتبارات سياسية أو اجتماعية أو مذهبية، لما أبعد النجعة، إلا أن طبيعة الأحداث وتجددها وتنوعها يسهم ولا شك في إزالة تلك الغلالة التي كانت تلقي بظلالها على مصداقية الخطاب الإعلامي لذلك التيار أو تلك الجهة.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
يحتاج المتابع للحراك الفكري المحلي في السعودية إلى نفسٍ طويلٍ ومتابعة دقيقةٍ للتحولاتِ الفكرية للعديد من الأشخاص والتيارات، ليحصل على رؤية أقرب للصواب في التشخيص، فلو قال قائل إن غالبية التيارات الفاعلة في الوسط السعودي لا تكشف عن أجندتها بشكل صريح لاعتبارات سياسية أو اجتماعية أو مذهبية، لما أبعد النجعة، إلا أن طبيعة الأحداث وتجددها وتنوعها يسهم ولا شك في إزالة تلك الغلالة التي كانت تلقي بظلالها على مصداقية الخطاب الإعلامي لذلك التيار أو تلك الجهة.
(التيار التنويري) الذي برز إعلاميًا بعد الحادي عشر من سبتمبر وفي وسط حلقة محكمة من السباع الضارية حول المائدة السلفية، ظهر له وللوهلة الأولى أن بإمكانه استثمار تلك الأجواء المشحونة في (نقد الفكر السلفي وتفكيك بنيته التقليدية)، وأن الأولوية الإصلاحية التنويرية تقتضي وضع الجسد السلفي على المشرحة قبل الاستبداد، وصرَّح بشكل واضح لا مداورة فيه أنه امتداد لمدرسة (الإسلام المستنير) ورموزها الفكرية، كمحمد عمارة ومحمد سليم العوا وفهمي هويدي، مع العلم بأن هؤلاء المفكرين لا يزعمون ابتداء انتسابهم للسلفية، وليس ثمة عالِم سلفي معاصر يعتبرهم سلفيين كذلك.
طوال تسع سنوات من الضجيج الإعلامي عبر الفضائيات وشبكة المعلومات لم يفلح التيار في تقديم (مؤلفات فكرية رصينة) تُسوق لأفكاره بوضوح، ولم ينجح كذلك في استيلاد الرمز الفكري أو الشرعي أو الدعوي (صاحب الكايرزما)، الذي بإمكانه أن يستقطب الأتباع.
ويمكن أن نقارن هنا بين شخصية سلفية برزت في الساحة حديثًا، كإبراهيم السكران ومدى ثقلها في الساحة الفكرية حتى لدى المناوئين لفكره، وبين عجز التيار التنويري عن إفراز أنموذج مقارب أو مواز له وانجذاب الكثيرين إلى أطروحاته وإن اختلفوا معها، وأنا هنا أتحدث من باب التحليل للواقع ولا أبحث في أسباب بروز هذا وخفوت ذاك.
غياب الرمز التنويري (صاحب الكاريزما)، أفرز محاولة الالتصاق ببعض الرموز العلمية والفكرية التي لا ترتبط معه إلا في خلافها مع التيار السلفي السائد في المجال السياسي أو الفقهي، ومحاولة تشكيل مجموعة غير متجانسة كتيار إصلاحي ناهض وهذا ضرب من التسويق الثقافي الساذج، فهل ثمة مراقب موضوعي يمكن أن يجعل الشيخ حاتم العوني، عضو مجلس الشورى السعودي، مع الدكتور حاكم المطيري، صاحب كتابي (الحرية أو الطوفان) و(تجريد الطغيان)... ضمن تيار إصلاحي واحد!! الحقيقة أنه ليس ثمة إطار مشترك يستحق الذكر هنا سوى خلاف هاتين الشخصيتين العلميتين مع التيار السلفي السائد في مجموعة من المسائل والقضايا التي لا يربطها رابط.
ثمة عامل آخر أسهم في بروز النبرة الجديدة للتنويريين، الادعاء بأنهم جزء من التيار السلفي، إذ يعتبرون أنفسهم أبناء المدرسة السلفية، وفي تقديري أن هذا ضرب من (التقية الفكرية) التي يمارسها بعض هؤلاء بقصد تجنيد أكبر عدد من الأتباع بين الشباب السلفي أو قطع (تذكرة قبول) في الوسط السلفي، سيما وهم يضربون على وتر بعض الأخطاء الموجودة فعلا، ولكنهم يوظفونها للتسويق لرؤيتهم الخاصة في الإصلاح، وليس في كلامي هنا طعنًا في النيات، وإنما هو ربط منطقي لعاملين:
الأول: أن التنويريين أعلنوا أجندتهم واضحة جلية قبل سنوات، وأنهم امتداد لمدرسة فكرية مصرية عقلانية لها رموزها وتراثها، ولم يعلنوا قط تراجعهم أو تحفظهم على تلك الأجندة.
الثاني: أن رؤيتهم لمفاهيم (الحرية) و(الديمقراطية) و(النهضة)، تتعارض مع أصول المنهج السلفي وقواعده.
المتأمل لذلك الضجيج التنويري على الشبكة العنكبوتية حول الحرية والنهضة ومناوءة الاستبداد وطبيعة الأفراد المتأثرين به، يجد غلبة الحماس وحداثة التجربة وضعف التأصيل وكثرة الحديث وقلة الفاعلية في الميدان، ومعضلة الاستبداد العربي تقاصرت دون حلها همم رجال كبار ونخب عريقة وتيارات عريضة، فضلاً عن تلك (الأرستقراطية الفكرية) التي يرفل فيها المشروع التنويري، فأصغر أفران الاستبداد كافية لإذابة كرة الثلج التنويرية خلال ثوانٍ معدودة، وليس الحديث هنا عن الأشخاص، فهذا (سقوط أخلاقي) لا يرتضيه المرء لنفسه، وإنما الحديث عن أصل الفكرة والمشروع.
الحقيقة أني أنظر بإجلال واحترام وتقدير للنخب السلفية التي تحرص على مد جسور التواصل مع الإخوة التنويريين، ومحاولة احتواء خطابهم الثائر، ولكن هذا لا يمنع أن يقوم بعض التلاميذ من تجلية ما يظنه صوابًا تجاه خط فكري، يسهم ولو بحسن نية في إحداث ثقوب في السفينة السلفية، يبقى أن أختم بالقول إن ما كتبته موجه بالدرجة لعموم الشباب السلفي، وهم الدائرة الواسعة من المجتمع المحلي، فكاتب المقال لم يرد بمقاله الرد التفصيلي على هذا الشخص أو ذاك، وإنما تقديم قراءة شخصية لما يسمى بتيار (التنوير الإسلامي).
الشيخ عبدالرحيم التميمي
11ذي القعدة1431هـ