ولا تهنوا
قال أحد المستشرقين على فترة ضعف المسلمين أيام الغزو التتاري والصليبي: " كانت المقولة في بداية القرن الثاني عشر الميلادي متى سيموت جيش محمد، وما إن قارب القرن على الإنتهاء حتى تبددت المقولة أي شيء سيوقف جيش محمد"؟
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
لا يخفى على أحد الفتن التي تحدث كل يوم في أمتنا الإسلامية من انتهاك لحرمتها وتدنيسٍ لمقدساتها واستهزاء بها، ومن ناحية أخرى فقد بدأ الوهن ينتشر في قلوب كثير من الناس وفقدوا الثقة في استعادة مجد تلك الأمة بل ربما فقدوا الثقة في ربهم هل تخلى عنهم أم لا يستطيع نصرهم؟! واستبد بهم اليأس من إمكانية التغيير من وضع الهزيمة إلى نصر.
أريد في هذه الأسطر أن أوضح للقارئ أن مرحلة الضعف التي تمر بها الأمة الآن ليست أولَ مرحلةِ ضعفٍ تمُر بها، وليس أولَ انهزامٍ تراه الأمة على مر تاريخها وعصورها، ولكنها دائمًا ما حاول أعداؤها القضاءَ عليها فإذا بها تقوم من جديد، قال أحد المستشرقين على فترة ضعف المسلمين أيام الغزو التتاري والصليبي: "كانت المقولة في بداية القرن الثاني عشر الميلادي متى سيموت جيش محمد، وما إن قارب القرن على الإنتهاء حتى تبددت المقولة أي شيء سيوقف جيش محمد؟".
وأريد أيضًا أن أوضح أن الإسلام لا يهزم قط وإنما تهزم أجيال؛ لأنها ليست جديرة بالنصر ولا بالتمكين، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
وقال أيضا: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:39].
وهاك بعض مراحل الضعف التي ألمّت بالأمة على مدى عصورها لترى أن كل هذه المراحل لم تزدها إلا قوة إلى قوتها وكانت كالأسد في براثنه.
1- في بداية البعثة واجه المسلمون مِحنًا وضعفًا وانهزامًا كثيرًا وعظيمًا ولكنَّ روحَهُمْ كانت تطَّلع إلى النصر حتى جاء بعد عشر سنين ـبهجرتهم إلى المدينةـ قضوها بين آلام التعذيب والمقاطعة المالية والمعنوية التي دامت ثلاث سنوات، ومع كل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم ويقول لهم ـوهذا ما نود أن نقوله للناس اليوم مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم ـ « » (قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح).
2- وعندما طلب منه أصحابه النصرة خاطبهم بقوله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري).
3- في غزوة أحد انقلب نصرنا أمام أعيننا إلى هزيمة كادت نهايتها أن تكون بمقتل رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سلم، فسبب الهزيمة مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس قوة الأعداء، وكانت في السنة الثانية للهجرة يوم السبت، ولكن ونحن مثخنون بجراح الانهزام نودينا من فوق سبع سماوات بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. حتى ونحن في حال انهزامنا وانكسارنا نحن الأعلون بنص كتاب الله؛ لأننا ونحن منهزمون لا نزال الطائفة الوحيدة على وجه البسيطة وربوعها تقول لا إله إلا الله.
ومع تلك الجراحات التي أصابت المسلمين يوم السبت يؤمروا بأن يخرجوا يوم الأحد لملاقاة المشركين في حمراء الأسد، بل زيادة في العزة لا يخرج إلا من خرج بالأمس معهم، وتحقق ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم فلما رأى أبو سفيان هذا تراجع عن مهاجمة المدينة وقفل راجعا إلى مكة المكرمة.
4- وعندما أحيط المسلمون بعشرة آلاف مقاتل من جُلِّ قبائل العرب واليهود، بل أحيط من خارج المدينة ومن داخلها -أرى أن التاريخ يعيد نفسه من جديدـ، وانظر إلى الموقف ساعتها، قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11].
في تحالف الأشرار وقتئذ ـكما هو الحال الآن ـ انقسم الناس إلى أقسام: قسم المنافقين ـ يمثلهم في الوقت الحاضر المنافقين والضعفاء والعملاءـ قالوا: { وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً . وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} [الأحزاب:12-13].
وقسم المؤمنين الثابتين الواثقين بنصر لله ـيمثلهم في عصرنا المتفائلين العاملين في الدعوة بروح تحمل حلاوة النصر واستنشاق رياحه من قريب ـ: {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً . مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [ الأحزاب: 22-23].
وقسم النبي صلى الله عليه وسلم الذي مثل أقصى حالات الشموخ في زمن الانكسار والثقة بنصر الله والتفاؤل وأجمل معاني الأمل، إذ لما استعصت الصخرة على أصحابه استدعوه فكسرها على ثلاث ضربات، كل ضربة يخرج منها برقة ويبشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه مع الضربة الأولى فتح الله لي اليمن، والضربة الثانية فتح الله لي الشام والمغرب، والضربة الثالثة فتح الله لي المشرق .... [ رواه ابن إسحاق في السيرة والنسائي ]، والمنافقون والمرجفون يثبطون الهمم ويحبطون الآمال: "يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط".
5- ومات القائد والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وكانت المصيبة العظمى في تاريخ الأمة، وهام الصحابة على وجوههم، ولكن أبو بكر فهم الأمر فهما عميقًا لذلك صار أكمل الأمة إيمانًا: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت"، ما كان قوله هذا إلا لإيضاح أن هذا الإسلام ليس مرتبطًا بأحد، وإلا لانتهى بموته صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مرتبط بالله فقط، ورتل الآية التي أنزلها الله يوم أحد يوم أُعْلِنَ موتُهُ صلى الله عليه وسلم فاتنبه لذلك الصحابة فبين الله لهم أن محمدًا بشرٌ يجري عليه شئون الكون مجريها، وأن الجهاد يكون لله والنصر بيد لله ليس بيد أحد من مخلوقاته: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [ آل عمران:144].
6- وتكالب الأعداء مرة أخرى على هذه الأمة من خلال فئات ثلاث:
الفئة الأولى: مانعو الزكاة وأصر أبو بكر على محاربتهم.
والفئة الثانية: حروب الردة وحاربهم أبو بكر حتى قضى عليهم.
والفئة الثالثة: الروم على حدود الدولة وأنفذ لهم أبو بكر جيش أسامة، وعندما دخل عليه الفاروق بأمر من أصحابه بأن يكف عن إرسال جيش أسامة لحاجة المدينة لمن يحميها قال رضي الله عنه قولته المشهورة: "والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، وأن الكلاب جَرَتْ بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشًا وجّهه رسول الله ولا حللت لواءً عقده، والله لو لم يكن في القرى غيري لأنفذته، أو أطيعه حيًا وأعصيه ميتًا ؟!" لأنه كان واثقًا في نصر الله لهذه الأمة مهما تكالب عليها أعداؤها ومهما رأى المثبطون أن الأمة ضعيفة عن مواجهة كل هذا الكم من الهجمات، لذلك مات رضي الله عنه بعدها بسنتين وجيوشه تغزو في اليرموك.
7- وفي بدايات القرن الرابع الهجري دخل القرموطي كما يروي لنا ابنُ كثير بيت الله الحرام يوم التروية، ووقف هو وجنوده في ساحته يفتكون بالحجيج وبكل من تعلق بأستار الكعبة، وما فتئ يقول: أنا اللهُ أنا الذي أحي أنا الذي أميت، أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ واقتلع -عليه من الله ما يستحق ـ الحجر الأسود وأخذه معه إلى خراسان، حتى عاد إلى مكانه بعد ثلاث وعشرين سنة. هل هزم الإسلام؟ هل وقف الطواف طيلة هذه المدة؟ لأن الإسلام ليس مرتبطًا بمدينة ما وإنما هو مرتبط بالله لا غير.
8- وفي عام اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل الصليبيون بيت المقدس، ويصور دخولهم وما فعلوه ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: "استحوذ الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل ـأي: مليون ـ فقتلوا في وسطه أزيد من سبعين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولًا.
قال ابن الجوزي وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلًا من فضة زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنورًا من فضة زنته أربعون رطلًا بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلًا من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هازعين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان ..." ولكن لم ينجدهم أحد.
وتصور كتب الغربيين الموقف من شدة سفك جنودهم لدماء المسلمين أن خيولهم غاصت في هذا الدماء. وصار المسجد الأقصى مشتى لخنازيرهم، وظل هكذا المسجد أسيرًا لا تقام فيه الصلاة ولا يرفع فيه الآذان ثنتين وتسعين سنة ـ عمر اليهود في المسجد الأقصى واحد وستون سنة والصلاة تقام فيه والآذان يرفع فيه ـ حتى قيض الله لفتحه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله. فتأمل كم جيلًا مر وعاش ومات ولم يرَ المسجد الأقصى حرًا في أيدي المسلمين؛ لأنها أجيال لم تستحق النصر، ولكن جيل صلاح الدين جيل يستحق أن يتوج بطلًا للملحمة الإسلامية لذلك فتح الله على يديه القدس، وسيقيض الله لهذه الأمة من هو مثل صلاح الدين لإعادة مجدها من جديد، ولكنكم قوم تستعجلون.
9- وفي القرن السابع الهجري بدأ التتار التحرش بالدولة الإسلامية فسفك أعراض المؤمنات في بخارى وسمرقند وترمذ وغيرها من البلاد، بل كانت النساء يربطن من أثدائهن ويشددن منها، وقتل خلق كثير وغدر وفجر وبقر بطون الحوامل واستباحت بيضة الإسلام. ثم كانت الفجيعة الكبرى والحدث الضخم وهو دخوله بغداد، معتقدًا ـكما يعتقد أحفاده اليوم ـ أنه بالقضاء على بغداد دار الخلافة وقَتْلِ الخليفة يكون قد قضى على الإسلام.
ولكن أريد أن أنقل لك بالنص تصوير ابن كثير لهذا الموقف: "وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنشاب من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه وكانت من جملة حظاياه وكانت مولدة تسمى عرفة جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعًا شديدًا". وقد أحصى ابن كثير عدد القتلى الذين قتلهم التتار في بغداد فقط من بين ثمانمائة ألف قتيل إلى ألف ألف قتيل إلى قول بعضهم أنهم ألفا ألف قتيل، حتى ذكر أن الناس في دمشق قد مرضوا بسبب تعفن الجثث في بغداد مما أفسد الهواء، بل كان الرجل(يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه، فيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويُؤسر من يختارون من بناته وجواريه). وبل كان التتاري إذا مر على المسلم في بغداد ولم يكن حاملًا سيفه يقول للمسلم انتظر هنا حتى آتي بسيفي وأقتلك فينتظره المسلم المغلوب على أمره.
وقد أعمل السيف فيها أربعين يومًا، وجرت أنهار بغداد مرة باللون الأسود لكثرة ما أغرق فيها من الكتب، ومرة باللون الأحمر لكثرة قتل المسلمين. يقول ابن كثير: "ولما انقضى أمد الأمر المقدر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول ـجمع تل ـ، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوباءُ والفناءُ والطعنُ والطاعونُ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمغاير كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباءُ الشديدُ فتفانوا ولحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا في البلى تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى. وانطلقوا بعد ذلك إلى الديار الشامية ـكما يخطط أحفادهم اليوم الذين لم يقرؤوا تاريخناـ يأسرون ويقتلون ويفتكون بالمسلمين وأحرقوا أسوار قلعة دمشق ودكوها دكًا، وساندوا النصارى على المسلمين في دمشق فظل النصارى يشربون الخمر في المساجد ويسكبونها على عتبات المساجد.
وبعد هذا الانهزام والانكسار الذي مرت به الأمة الإسلامية بعده بسنتين في عين جالوت ينتصر المسلمون عليهم بقيادة الملك المظفر قطز، ويهزمونهم شر هزيمة، بل بدأ التتاريون في الهروب من الديار الشامية فتتبعهم المسلمون ـكما يقول ابن كثيرـ: "من دمشق يقتلون ويأسرون وينهبون الأموال فيهم، ويستفكون الأسارى من أيديهم قهرًا ولله الحمد والمنن على جبره الإسلام ومعاملته إياهم بلطفه الحسن. وجاءت بذلك البشارة السارة فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة وفرح المؤمنون يومئذ بنصر لله فرحًا شديدًا، وأيد الله الإسلام وأهله تأييدًا، وكبت أعداء الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون، ونصر الله دينه ونبيه ولو كره الكافرون".
10- وفي سنة ستة عشر وستمائة دخل الصليبيون دمياط وقتلوا أهلها وظلوا يفجرون بالنساء في المساجد ويفتضون العذارى، وأخذوا نسخة من القرآن وأرسلوها إلى الجزائر. وبعد سنتين استنجد الملك الكامل بأخيه الأشرف فنجد وحاصروا الصليبيين في دمياط حتى اضطروهم على الصلح وطردوا شر طردة وقتل منهم عشرة آلاف كافر بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
11- وفي عام سبع وستين وتسعمائة وألف قام اليهود بضرب مصر وسوريا فدكوا الأراضي المصرية وضربوا المطارات المصرية، وحتى ضربوا الطائرات على الأرض قبل أن تقلع، وتاه الجنود في الصحراء وضلت أمة قيل أنها سترمي اليهود ومن ورائهم في البحر. وفي عام ثلاث وسبعين أي بعدها بست سنين ـبما تبقى منها من إيمان ـ انتصر المسلمون وعبروا خط بارليف واستردت الأمة كرامتها لتعلم الدرس: {إِنْ تَنْصُروا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبْتَ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
12- وعندما تدخل شارون المسجد الأقصى عام 2000 وظن أنه بهذا الصنيع يهزم المسلمين هزيمة روحية انطلقت انتفاضة لم تكن في حماس والفتح فقط، وإنما ـبحسب تعبير بعض الجرائد الإسرائيليةـ امتدت لتشمل عناصر لم تشملها من قبل.
وفي الختام لن تنتصر هذه الأمة إلا عندما تؤتى صبر نوح على قومه فقد دعاهم عشرة قرون ولم ييأس ويستعجل النصر حتى أتاه بعد عشرة قرون ـ عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى الآن خمسة عشر قرنًاـ وظل يدعو بين قومه سرًا وجهارًا، يدعو بالصوت والقدوة حتى إذا استغشوا ثيابهم دعاهم بالإشارة عليه السلام ثم يؤمر ببناء السفينة فيسخر قومه منه فيسخر منهم، وفي نهاية هذه القصة قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]. وحاول أن تتأمل ختام هذه الملحمة.
وتؤتى يقين موسى بنصر ربها في أشد وأصعب الأوقات، فانظر إلى موقفه مع السحرة وقد جمعوا له سبعين ألف ساحر إذ قال لهم بعزة المؤمن الواثق بنصر الله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ} [يونس:80]، قمة الاستهزاء بمكرهم وألاعيبهم، حتى إذا ألقوا: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} [يونس:81] فكانت النتيجة: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ} [يونس:82].
ولما لحقه فرعون فصار فأحاطه من الخلف وأحاطه البحر من الأمام وظن قومه أنهم هالكون على يد فرعون لا محالة، كان موسى يردد: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فكانت النتيجة: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ}[الشعراء:63].
وتؤتى ابتسامة محمد صلى الله عليه وسلم وشموخه وثقته بنصر ربه له وهو في الغار مع صاحبه وقريش كلها تطلبه حيًا أو ميتًا: « » (متفق عليه).
اعلم أخي الكريم أنه لن يهزم قوم نزل فيهم: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
والحمد لله رب العالمين...
الشيخ الدكتور سليمان بن صالح الجربوع
22 محرم 1432هـ