العلمانية والصراع الأيدلوجي

ياسر منير

منذ أن جاء الإسلام وبزغت شمسه في ربوع العالمين، وأعداؤه يحاربونه ويحاصرونه ويكيدون له وللمسلمين كل عداء، ويتربصون به الدوائر، وقد هاجت أنفسهم بالحسد، وقلبوا في وجوه حرية الفكر تحت مسمى العولمة؛ فخرجوا إلينا بادعاء فاسد هو القراءة الجديدة أو المعاصرة للتراث الإسلامي..

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

الحمد الله فالق الحبّ والنوى، والصلاة والسلام على سيد الورى، وبعدُ: فقد تغيرت ملامح العالم كثيرًا منذ بزوغ شمس القرن الواحد والعشرين تغيرًا يكاد يعيد تشكيل خريطة العالم الروحية، وأنا زاعم أنها تغيرت بالفعل، ولا شكّ أنّ هذا يُعجز المرء عن اتخاذ فرصة للتفكير واتخاذ الموقف الملائم، بل يجعله يتخبط في غياهب مُدلهمة، وهذه التغيرات نابعة من قِيَم العولمة والحداثة التي طالت المسلمين، وساهمت في تزييف وعيهم.

ومنذ أن جاء الإسلام وبزغت شمسه في ربوع العالمين، وأعداؤه يحاربونه ويحاصرونه ويكيدون له وللمسلمين كل عداء، ويتربصون به الدوائر، وقد هاجت أنفسهم بالحسد، وقلبوا في وجوه حرية الفكر تحت مسمى العولمة؛ فخرجوا إلينا بادعاء فاسد هو القراءة الجديدة أو المعاصرة للتراث الإسلامي، مستخدمين المناهج الألسنية والتفكيكية، ويرجو أعداء الإسلام من هذا السعي الأثيم إثارة شكوك المسلمين بما يؤمنون به، وتقويض الترابط في منظومة المجتمع الإسلامي برمته..

ثم خرج علينا بفكره الخبيث مَنْ يزعم أن الخطاب الإسلامي ملىء بالنقائض، وأنا واثق أنّ من أهم مشاكل المسلمين في القرن الحادي والعشرين هي ظهور الأفكار الغربية الخبيثة، التي جعلت طائفة ممن ينتسبون -ادِّعاءً- إلى الفكر تخلط بين الفكر الذي هو نتاج بشري وبين الوحي الإلهي، بل ومحاولة جعل الإسلام نتاجًا فكريًا إنسانيًا حاله حال أي تراث بشري إنساني، يمكن التعامل معه بأدوات غربية! وأنت واجد أنّ أبرز أيدلوجية فكرية تساقط فيها الكثير من مدعي الفكر الحضاري هي العلمانية، التي جعلت الكُثُر من المنافحين عن حِياض الإسلام يرددون قول أوس بن حجر:
 

وليس أخوك الدائمُ العهد بالذي *** يذمُّك إنْ ولَّى ويُرْضيك مُقبِلا
ولكنّه النائي إذا كنت آمنًا *** وصاحبُكَ الأدنى إذا الأمر أعضلا

 

شكايةً من أبناء الوطن المنتسبين للإسلام قولًا بلا حقيقة تؤكد ذلك، بحيث تسمع المرء منهم يَهْرِف بما لا يعرف قائلًا: أنا علماني مسلم، كيف ذلك؟! العلمانية -أيها الأحمق- ليست من الإسلام في شيء، وهذا يجعلنا نُعرِّج على العلمانية نفهم معناها وجذورها في الغرب، لعلنا نميط اللِّثام عن شبهات ألقى بها الأوغاد وولوا كأشباح الظلام! إنَّ مدلول كلمة العلمانية قد أخذ بعدين فكريين هما: البعد الأول: (مدلولها في المفهوم الغربى)، البعد الثانى: (مدلولها في الفكر العربي المعاصر)، من هنا كان اتجاهنا للولوج إلى تعريف العلمانية من هذين الفكرين، فكيف وردت أولًا في المفهوم الغربي؟

أولًا: المفهوم الغربى للعلمانية: يعود أصل كلمة العَلْمانية (Secularism) إلى اللاتينية، وتعني الدنيا، أو الدنيوية واللادينيّة، والعَلْماني (Secular) نسبة إلى العَلْم، بمعنى العَالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي (د. إنعام أحمد قدوح: العلمانية في الإسلام، ص 9، 10، طـ1، 1995، دار السيرة بيروت)، هذا وقد وردت العَلْمانية في قاموس أكسفورد Oxford كما يلي: "The view that morality and education should not be based on religion" ومعنى العبارة: "العَلْمانية مفهوم يرى ضرورة أن تقوم الأخلاق والتعليم على أساس غير ديني".

"A. S. Hornby:Oxford Advanced Learner's Dictionary Of Current English. p. 771. 3rd ed. 1974.New York"، ومعنى هذا: "أن مفهوم العَلْمانية في الفكر الغربي تنحصر عناصره في نقاط رئيسة هي: الدنيا، اللادين مقابل الدين، وفصل العلم والأخلاق عن الدين، وإقامة مؤسسات سياسية على أساس غير ديني" (د. إنعام أحمد قدوح: العلمانية في الإسلام. ص:12).

ثانيًا: المفهوم العربي للعلمانية: يرى البعض أن المقصود بالعلمانية: "أن يتولى قيادة الدولة -الحكم وأجهزته ومؤسساته- رجال زمنيون، لا يستمدون خططهم وأساليبهم في الحكم والإدارة والتشريع من الدين" (د. إنعام أحمد قدوح: العلمانية في الإسلام. ص:16). كما عُرِّفت العلمانية على أنها: "النزوع إلى الاهتمام بشئون الحياة الدنيا، وقد يُقصد بها أحيانًا -العلمنة-، أى نزع الصفة الدينية، أو سلطان رجال الدين عن نشاطات مؤسسة من المؤسسات" (أ. منير بعلبكي: موسوعة الموارد العربية. جـ2، ص:776، ط1، 1410هـ،1990م. دار العلم للملايين بيروت)، وأصدق تعبير عن العلمانية هو إقامة الحياة على غير الدين، ولا شك في مخالفة العلمانية للإسلام لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

هذا وقد نشأ مفهوم العلمانية إبّان عصر التنوير والنهضة في أوروبا في مواجهة الكنيسة، وعارض سيطرتها على الدولة وهيمنتها على المجتمع، وتنظيمه على أساس الانتماءات الدينية والطائفية، ورأى أنّ من شأن الدين أن يُعنى بتنظيم العلاقة بين البشر وربهم، وهذا لمن أراد أن يؤمن بالدين. وقد نادى بقوة بفصل الدين عن الدولة، وأن تنظم العلاقات الاجتماعية على أسس إنسانية بحتة، وهذا المفهوم ينطلق مما يُسمّى النظرة الإنسانية (Humanism) التي مجّدت الإنسان كمحور للكون، وجعلته سيد نفسه وحرّ الإرادة، ورافضًا للفكر والعقائد الغيبية، وقد اعتمد النظرة المادية البحتة في تفسير أحداث العالم وقوانينه وحياة الإنسان، واعتمد ما يُسمّى العقلانية (Rationalism) كمنهج لتفسير حياة ومبادئ ونظم الإنسان، كما اعتمد ما يُسمّى العلميّة (Scientism) أي اتّخاذ العلوم التجريبية، والمنهج التجريبي المبني على الشكّ في كلِّ شيء، وعدم اعتماده إلا بعد إجراء التجارب والانتهاء إلى النتائج، -ولا يقتصر المنهج العلمي على ما يسمّى بالعلوم التجريبية مثل: (علوم البيولوجيا، والفلك، والبحار.. إلخ)- لذا يعتبر المنهج الوحيد المقبول، باعتباره يتخذ التجارب والإحصاء والمنطق والعقلانية وسيلة للوصول إلى الحقيقة، أو ما نعتبره الحقيقة.

ويرفض هذا المنهج الإيمان بالغيب، ويقف على طرفي نقيض مع ما يسمّى العلم الوهبي -العلم اللدني- وتعرف علوم الوحي لدى الغربيين بالعلوم الغنوصية (Gnostics) وهي تأتي عن طريق الإلهام من الله تعالى. ويفسر الوحي بأنه حالات نفسية خاصة تعتري هؤلاء الأشخاص، كما قد يفسّرها أحيانًا بنوع من الصرع مبدؤه في الفصّ الصدغي من الدماغ (Temporal Lobe Epilipsy) والذي تظهر فيـه آثـار نفسية بالغة (انظر: د. محمد على البار: العلمانية جذورها وأصولها. ص 33-35. ط1. 1429هـ/ 2008م. دار القلم- دمشق). إذًا مفهوم العلمانية المعاصر هو فصل الدين عن الدولة، أو عن الحياة، وحصر نطاق الدين في أماكن العبادة (علي جريشة، الاتجاهات الفكرية المعاصرة، ص 73). ويقول محمد أركون: "كلمة العلمانية لا تدل على شيء، وليست لها أرضية مفهومية -ولا تاريخية ولا فلسفية- في اللغة العربية، إنما هي كلمة معلقة في الهواء" (التفاعل بين دولة الحقوق والمجتمع المدني ظاهرة جديدة لم نكتسبها بعد، جريدة الشرق الأوسط، العدد 9385، سنة 2004). ويفهم أركون من خلال التعريف أن العلمانية تفصل بين مكون ديني ناتج عن التراث، و بين مسعى أساسي هو الحداثة.

ومن خلال ما سبق يتأكد لك أنّ هذه الكلمة –العلمانية- غريبة عن المسلمين، ومع ذلك نجد مَنْ يحاول أن ينقل هذا المفهوم إلى المجتمع الإسلامي مرة أخرى كمحمد أركون، متناسيًا أن هذا المصطلح قد نشأ في بيئة وظروف خاصة لا يمكن أن ينطبق على المجتمع الإسلامي. ويؤكد (أ. علي جريشة): "أنّ الذين يحاولون نقل مفهوم العلمانية إلى الشرق الإسلامي قد غفلوا عن هذه الظروف؛ لأنه ليس في ظروف الشرق الإسلامي التاريخي ما يبرر فصل الدين عن الدولة، فلم يكن ثمة اضطهاد من علماء المسلمين للعلم والعلماء، ولم يكن في تاريخنا محاكم تفتيش، ولا صكوك غفران، وقرارات حرمان، كما أن الدولة في فقه الإسلام هي قسم للدين لا قسيم" (انظر: أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي. ص61. ط3. 1979م. دار الاعتصام - المدينة المنورة).

بهذا المعنى يتسنى لنا أن ندرك إن العولمة هي نمط سياسي اقتصادي ثقافي لنموذج غربي متطور، خرجت تجربته عن حدوده لعولمة الآخر، بهدف تحقيق أهداف وغايات فرضها التطور المعاصر، ويحاول الغرب فرضها على العالم الإسلامي، من خلال الأيدلوجيات المختلفة، ومنها العلمانية -تسير ضد منطق التاريخ-، إذ ليس من المعقول أن يتم تهميش الهويات أو إلغاؤها وقد تشكلت عبر عشرات الآلاف من السنين وتحولت إلى مكون للأمم، ليس مجرد مكون ثقافي أو ديني أو أخلاقي، بل يمكن على سبيل الاستعارة أن نقول: إنها مكون بيولوجي مثل الكروموزوم المسئول عن نوع الجنس البشري، فالبشر مختلفون ومتفقون، متميزون ويمكنهم العيش بهذا التمايز والإسهام في سعادة الإنسان، أما تحويل البشرية إلى هوية ثقافية واحدة فأمر مناقض للتاريخ، فـ"ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام، وإنما وجدت، وتوجد وستوجد ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها، على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة، من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع" (د.محمد عابد الجابري: العولمة والهوية الثقافية: عشر أطروحات، مجلة فكر ونقد، الرباط، العدد:10، ص:43).

والواقع والتجربة يشهدان على إخفاق البناء الثقافي الغربي -القائم على العلمانية- في أن يقدم شيئًا لأمم العالم الثالث بعامة، وبلدان العالم الإسلامي بخاصة، ونشير هنا إلى أن استقراء التاريخ وقراءة الواقع يؤكدان أن أية محاولة للنهوض والتجديد من الخارج الإسلامي بالنسبة لأمتنا مصيرها الإخفاق والفشل؛ إذ العرب جنس فريد لا يُصلحهم إلا الإسلام، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، إذًا العلمانية فكرة مستوردة لا يشك في ذلك أعداؤها ولا يُماري فيه أحد من دعاتها؛ لذلك وجب على المسلمين أن ينظروا إليها على أنها بضاعة مستوردة، نحن في غنى عنها، ثم إننا لسنا مخيرين في قبول هذه الفكرة أو رفضها، فديننا يحتم علينا رفض العلمانية قولًا واحدة (د. سفر الحوالى: العلمانية، نشأتها وتطورها، ص:648. د. ت. دار الهجرة).

يقول شارح الطحاوية: "إن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق -يقصد الإيمان المجمل بعيد عن الاختلاف والجدل في المحكم والمتشابه-، فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والاستدلال الموصل الى معرفته فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا" (ابن أبى العز الحنفي: شرح العقيدة الطحاوية، ص:77، تحقيق د. عبد الله التركي، شعيب الأرناؤوط. الرسالة). قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123-126]، وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

وعود على بدء أقول: لا بد للعقل أن يخضع لمنهج الوحي؛ فـ"مهمة الرسل أن يوجهوا الفطرة السليمة وجهتها إلى الله، وأن يحفظوها من الانحراف، حتى لا يعبد الإنسان إلا الله ولا يشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعض المخلوقات بعضهم أربابًا من دونه" (د. يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام، ص:137).

آمل من الله العلي القدير أن أكون قد ساهمت في توضيح جانب من الحق لكثير من الدهماء، وأوصي القارئ الكريم أن يتمهل كثيرًا فيما يأتيه من عدوه الذي لا يبغي له إلا الشر، وإذا كان (فرانكلين) قد نصح أن يتمهل المرء عند اتخاذ الصديق الذي تخضع صداقته -غالبًا- لوصف (لاروشفوكو): "بأنها مصالح وتبادل منافع"، أقول: إذا كان الأمر كما ذكرت أفلا يتمهل المرء، ويُمعن النظر فيما يرد إليه من أفكار وأيدلوجيات صيانةً لدينه؟! على المرء المسلم أن يدرك أن عالم تجديد المفاهيم في ضوء الحفاظ على الهُوِيّة هو مِفْتاح النهضة.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام