(9) ضيف إبراهيم، والبشرى بإسحاق

  • التصنيفات: قصص الأنبياء -

لما خضع إبراهيم عليه السلام لأمر ربه في السابق بذبح ولده إسماعيل عليه السلام، أراد الله سبحانه وتعالى أن يكافئه مرات عدة فرزقه ولدًا آخر لتقر به عينه ويكثر نسله؛ قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112].

قال ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة): "وأنبهك على خصلة واحدة مما أكرمه الله به في محنته بذبح ولده؛ فإن الله تبارك وتعالى جازاه على تسليمه ولده لأمر الله بأن بارك في نسله وكثَّره حتى ملأ السهل والجبل فإن الله تبارك وتعالى لا يتكرم عليه أحد وهو أكرم الأكرمين. فمن ترك لوجهه أمرا أو فعله لوجهه، بذل الله له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافا مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافا مضاعفة. فلما أُمِر إبراهيم بذبح ولده فبادر لأمر الله ووافق عليه الولد أباه رضاء منهما وتسليما، وعَلِم الله منهما الصدق والوفاء، فداه بذبح عظيم وأعطاهما ما أعطاهما من فضله. وكان من بعض عطاياه أن بارك في ذريتهما حتى ملؤوا الأرض. فإن المقصود بالولد إنما هو التناسل وتكثير الذرية ولهذا قال إبراهيم: {رب هب لي من الصالحين}، وقال: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي}؛ فغاية ما كان يحذر ويخشى من ذبح ولده انقطاع نسله. فلما بذل ولده لله وبذل الولد نفسه ضاعف الله له النسل وبارك فيه وكثر حتى ملؤوا الدنيا وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة وأخرج منهم محمدا صلى الله عليه و سلم".

وبعث الله سبحانه وتعالى الملائكة لتبشر إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة بهذا الولد بل وبولد هذا الولد أيضًا كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:69- 71].

جاءت الملائكة على هيئة ضيوف ودخلوا على إبراهيم عليه السلام وهو لا يعرف أنهم من الملائكة، وكان عليه السلام معروفًا بإكرامه للضيف.. فذهب وجاء بعجل سمين شواه على النار وقدمه لضيوفه ليأكلوا منه ظنًا منه بأنهم من الآدميين. ولكن هؤلاء الضيوف لم يكونوا مثل باقي الضيوف.. فإنه لما وضع الطعام لهم لم يمدوا أيديهم إليه ولم يأكلوا منه. فخاف إبراهيم عليه السلام لأنه من عادة العرب أن الذي لا يأكل الطعام يضمر شرًا لأهل البيت أما إن أكل من الطعام الذي يقدمونه فمعنى ذلك أنه لا ينوي الشر فلما رأى الملائكة من إبراهيم عليه السلام الخوف طمأنوه وأخبروه بأنهم ملائكة أرسلهم الله تعالى إلى قوم لوط ليوقعوا عليهم العذاب والهلاك.

فلما سمعت بذلك زوجته السيدة سارة فرحت بذلك لعملها بسوء ما يفعل هؤلاء القوم.. فبشرتها الملائكة بالولد بأن الله رزقها إسحاق عليه السلام بل وأنها سترى ولد ولدها وهو يعقوب عليه السلام.. وهنا استغربت السيدة سارة من هذا وتعجبت وتساءلت كيف تلد وهي المرأة العجوز التي لم تلد في سن الشباب فكيف ستلد في هذه السن الكبيرة وكذلك زوجها أصبح عجوز.. ثم إنها عقيم لا تلد {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود:72]. فردت الملائكة وقالت: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73]. وذلك لأن أمر الله لا عجب فيه، لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا تزال رحمة الله وإحسانه وبركته تتنزل على أهل هذا البيت المبارك.

ومن فرط رحمة إبراهيم عليه السلام وطيبة قلبه كما سبق وأشرنا إلى ذلك فإنه لما اطمأن قلبه بالبشرى، تذكر قوم لوط وما سيحل بهم من عذاب الله، ثم ذكر أن فيها لوط عليه السلام وهو ابن أخيه كما ذكرنا، وأراد أن يخفف الله عنهم العذاب وتضرع إليه وأقبل إليه يرجوه ذلك، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يُعرِض عن هذا الجدال لأن أمر الله بإهلاكهم قد نفذ ولن يُرَد.. وطمأنه الله تعالى بأنه سينجي لوط وأهله إلا امرأته الكافرة؛ قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:74- 76]، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ . قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:31، 32].

 

وأقف وإياكم مع كلام ابن القيم رحمه الله في كتابه (جلاء الأفهام) عن إبراهيم عليه السلام وضيوفه المكرمين قال:

"وتأمل ثناء الله سبحانه عليه في إكرام ضيفه من الملائكة حيث يقول سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:23- 27]. ففي هذا الثناء على إبراهيم من وجوه متعددة:

- أحدها: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون. وهذا على أحد القولين: أنه إكرام إبراهيم لهم، وأنهم المكرمون عند الله. ولا تنافي بين القولين فالآية تدل على المعنيين.

- الثاني: قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} فلم يُذكَر استئذانهم. ففي هذا دليل على أنه كان قد عُرِف بإكرام الضيفان واعتياد قراهم، فبقي منزله مضيفة مطروقا لمن ورده لا يحتاج إلى الاستئذان بل استئذان الداخل دخوله. وهذا غاية ما يكون من الكرم.

- الثالث: قوله لهم {سَلَامٌ} بالرفع، وهم سلموا عليه بالنصب. والسلام بالرفع أكمل فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد. فإبراهيم حياهم أحسن من تحيتهم فإن قولهم {سَلَامًا} يدل على سلمنا سلامًا، وقوله {سَلَامٌ} أي سلام عليكم.

- الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ يُنفر الضيف لو قال: (أنتم قوم منكرون)؛ فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام.

- الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله فقال: {مُنْكَرُونَ} ولم يقل: (أني أنكركم) وهو أحسن في هذا المقام وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.

- السادس: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم. والروغان هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف. وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام. بخلاف من يسمع ضيفه ويقول له أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه.

- السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة فدل على أن ذلك كان مُعدًا عندهم مُهيئًا للضيفان، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه.

- الثامن: قوله تعالى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: (فأمر لهم)، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه، ولم يبعثه مع خادمه وهذا أبلغ في إكرام الضيف.

- التاسع: أنه جاء بعجل كامل ولم يأت ببضعة منه. وهذا من تمام كرمه.

- العاشر: أنه سمين لا هزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم ومثله يُتخَذ للاقتناء والتربية فآثر به ضيفانه.

- الحادي عشر: أنه قربه إليهم بنفسه ولم يأمر خادمه بذلك.

الثاني عشر: أنه قرَّبه، ولم يُقربهم إليه. وهذا أبلغ في الكرامة أن يجلس الضيف ثم يُقَرَّب الطعام إليه ويحمله إلى حضرته، ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب إليه.

- الثالث عشر: أنه قال {أَلَا تَأْكُلُونَ} وهذا عرض وتلطُف في القول. وهو أحسن من قوله: (كلوا أو مدوا أيديكم) وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه. ولهذا يقولون: بسم الله أو ألا تتصدق أو ألا تجبر، ونحو ذلك.

- الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الإذن في الأكل، بل كان إذا قدَّم إليهم الطعام أكلوا. وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الأكل قال لهم: {أَلَا تَأْكُلُونَ} ولهذا أوجس منهم خيفة أي أحسها وأضمرها في نفسه، ولم يبدها لهم، وهو الوجه:

- الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من أكل طعامه خاف منهم، ولم يُظهِر لهم ذلك. فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا: لا تخف وبشروه بالغلام.

فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب وما عداها من التكلُفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم وكفى بهذه الآداب شرفا وفخرا فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين".

سدرة المُنتهى