أنا والشتاء

فآتي أنا وأُنزل زخاتي، فأبدأ بتنظيف الفضاء وتنقيته، وأغسل الأرض، وأسقي الزرع، لكي ينبت ويكبر، ويغني صاحبه بعد حين، كالاستغفار والتسبيح يبدأ بتنظيف قلبك وعقلك وينقيهما ويصفيهما، ويسقيهما لكي ينبت الخوف من الله، ويزداد إيمانك به.

كنت جالسة مستغرقة في التفكير، فسمعت صوت طقطقة ترتطم بنافذتي, كان صوتا أشبه بقرع الطبول الإفريقية، ركضت لأرى من أين يأتي؛ فإذا بصوت يدق النافذة دقا متقطعا، نظرت فإذا هو صوت المطر. وقفت لأستمتع قليلا بذلك الصوت، الذي كلما أغمضت عيني وأصغيت ذكرني بلحظات جميلة عشتها في حياتي.

فالمطر الأول مرحلة انتقالية جميلة تأتي ما بين الصيف والشتاء. هي حبيبات مائية ينتظرها الناس بعد حرّ وجفاف طويلين، وفيها يحس الطفل بالمتعة حين يتبلل لأول مرة من أمطار السماء وتبقى في ذاكرته، فهي كضيف جديد يحلّ في البلدة ويخرج الناس جميعًا لاستقباله.

تلك الزخات المباركة التي تنقي الفضاء من الغبار والدخان الذي يخلفه الإنسان، وتجعل السماء زرقاء صافية.

وكلما زادت تلك الزخات علا الصوت أكثر فأكثر. أردت أن أغلق النافذة ولكن! فوجئت بالمطر يكلمني.

قال: انتظري قليلا، لا تغلقيها؛ نريد التحدث إليك.

فعجبت من قوله: "نريد"؟ وسألته أمعك أحد آخر؟

قال: نعم، البرق والرعد، وكلنا نريد التحدث إليك.

قلت: ماذا تريدون مني؟

سألني: هل تشعرين بالفرح عند قدومنا؟

أجبته: بالتأكيد، ففصل الشتاء هو المفضل عندي.

فرأيت زخاته تكثر فعرفت أنه فرح بجوابي. خفضت رأسي قليلا، وبدت ملامح الحزن على وجهي، فانتبه وقال: لماذا أرى علامات الحزن على وجهك؟

قلت: الرعد. نعم الرعد صوته يخيفني جدا، مع أنني أعلم بأن الشتاء لا يكمل من دونه، وأعرف بأنك والبرق لا يمكنكما المجيء من دونه، فهل تستطيع أن تعطيني بعض النصائح لأحبه، وأتمكن من سماعه دون وجل؟

فرح لكلامي، ورشني ببعض قطراته وقال: سأعطيك تشبيها سيجعلك وكل من يرانا يستمتع برؤيتنا وسماعنا، فتوجهت إليه ببصري وسمعي وانتباهي.

فأكمل قائلا: انظري إلينا إلى فصل الشتاء كأنه درس لك يعلمك فيه أغلى الأمور، فقلت متشوقة: ما هو هذا الدرس؟ وما هي تلك الأمور؟ تبسم وقال: بهدوء، كلمة كلمة كي تفهمي وتستوعبي، وتروي لغيرك .

افرضي أن السماء والبساتين والمزارع التي تحدثت عنها منذ قليل هي أنت، وكل الأمور التي تحدث فيها سببها عقلك، قلبك، هواك، ونفسك، سواء أكانت أمورا حسنة أم سيئة، مفرحة أم محزنة، مضحكة أم مبكية، كل تلك الأمور التي تحدث أنت سببها، ولكنك لا تعرفين كيف تتعاملين معها بحكمة وعقل سليمين، فهل تعرفين الدواء لكل ذلك؟ أجبت بسرعة: لا، ما هو؟ فردَّ: الإيمان، نظر إلي يتوقع مني قول شيء، ولكني لم أنبس بكلمة، ثم أكمل: لنفترض أن الأرض هي أنت، وأننا نحن جزء من الإيمان.

اعتبريني الاستغفار والتسبيح...

والبرق هو النور الذي كلما ظهر يذكّرك بأنك على الطريق الصحيح.

والرعد هو حدود الشرع التي لا يمكنك تجاوزها.

فآتي أنا وأُنزل زخاتي، فأبدأ بتنظيف الفضاء وتنقيته، وأغسل الأرض، وأسقي الزرع، لكي ينبت ويكبر، ويغني صاحبه بعد حين، كالاستغفار والتسبيح يبدأ بتنظيف قلبك وعقلك وينقيهما ويصفيهما، ويسقيهما لكي ينبت الخوف من الله، ويزداد إيمانك به، وتقواك له، ويكبر، ويغنيك بعدها، ويضبط لك نفسك وهواك، ويبعدهما عن ارتكاب الأخطاء والمعاصي.

ويظهر البرق ليريك ويفرحك بأنك على طريق الهدى، على الصراط المستقيم، ويفاجئك الرعد بصوته المدوّي ليذكرك بأن الدين له حدود، فإياك ثم إياك وتجاوزها، ثم يأتي صوته مرات عديدة؛ لكي لا تنسي ذلك.

انتهى من حديثه ونظر في عيني وقال: ما رأيك بما قلت؟

مرت ثوان عديدة وأنا أنظر إليه متأملة في كلامه، وهو مستغرب من سكوتي، فقلت له: والله لقد أدهشني هذا التشبيه الرائع، ثم نظرت إليه وقلت: ولكن هناك شيء يحيرني! قال: ما هو؟ قلت: لماذا إذا تلك الفيضانات والسيول التي تُحدِث خسائر بشرية كثيرة وخسائر مادية هائلة؟ فأجاب بحزن: لك كل الحق بأن تحزني لحصول ذلك، ثم سكت للحظات وقال: ألا ترين إلى البشر ماذا يفعلون؟ إن الله سبحانه وتعالى له الحكمة، يريد أن يمتحن الذين آمنوا ليذكرهم بأنه على كل شيء قدير، وبأن لا يغفلوا عن أنه واحد أحد، صمد، بيده كل شيء، وينبههم على أن يعبدوه وحده لا شريك له، يسبحونه ويستغفرونه، يخشونه ويخافونه، يدعونه صبحا وعشية، كما أنه سبحانه يعاقب الذين كفروا لكفرهم وإعراضهم.

استأذن المطر بعد ذلك، وقال: حان وقت راحتي، فلدي عمل كثير لأقوم به فما زلت في بداية فصل الشتاء.

آيات الحسن

 

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي