نظرات تربوية لابن تيمية
عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
التربيةُ فِعلٌ وتركٌ، فهي فعل المحبوب وترك المكروه، والقيام بالمأمورات، والكفّ عن المنهيات، فالتربية النافعة تكون أيضًا بالأعمال والأفعال، وليس بمجرد الترك والامتناع.
- التصنيفات: تربية النفس -
مع صخب الدنيا وبريقها، وغَلَبة القيل والقال، وكثرة الخصومة والجدال، والعكوف على الملذات؛ تقسو القلوب، ويعتريها شَعَثٌ ووَحْشة، وتستحكم الغفلة، وتنغمر النفوس فيما تهواه من شهوات.
فلعل في هذه السطور التربوية لأبي العباس ابن تيمية، ما يوقظ غافلًا، ويحرّك قاسيًا، ويروّض جامحًا، ويحرّر النفوس من رقّ العوائد والمألوفات، وأَسْر الشهوات والملذات.
أشار ابنُ تيمية إلى معنى التربية عند تفسيره قوله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران من الآية:79]، فقال: "والرباني: منسوب إلى ربّان السفينة -على الأصح-؛ لأنهم منسوبون إلى تربية الناس، وكونهم يربّونهم. ولما مات ابن عباس رضي الله عنهما قال محمد ابن الحنفية: اليوم مات ربّاني هذه الأمة؛ لكونه كان يؤدِّبهم بما أعطاه الله من العلم، فيأمرهم وينهاهم، ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربّون الناس بصغار العلم قبل كباره، فَهُمْ أهلُ الأمر والنهي والأخبار، يدخل فيهم مَنْ أخبر بالعلم، ورواه عن غيره وحدّث به، وإنْ لم يأمر وَيَنْهَ، وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني". (جامع المسائل [3/ 36-65] باختصار).
فالحاصل: أن التربية -عند هؤلاء السلف- بمعنى التأديب والتعليم، والأمر والنهي. والتربية بهذا المعنى قريبةٌ من معنى التزكية، فالتربية لغةً تتضمن معنى الزيادة والنمو، وكذلك التزكية هي النمو والارتفاع، ثم إنَّ التزكية ليست تطهيرًا من الذنوب فحسب، بل هي نماءٌ وصعودٌ بفعل المأمورات، وهذا ظاهر في معنى التربية، فهي أمرٌ ونهيٌ، وتأديب وتعليم.
قال ابن تيمية: "الزكاة في اللغة: النماء والزيادة في الصلاح، فالقلب يحتاج أنْ يتربى فينمو ويزيد حتى يكمُلَ ويصلح، كما يحتاج البدنُ أنْ يُرَبَّى بالأغذية المصلِحة له، ولابد مع ذلك مِنْ منع ما يضره، فلا ينمو البدن إلا بإعطائه ما ينفعه، ودفع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتمّ صلاحه إلا بحصول ما ينفعه، ودفع ما يضره". (مجموع الفتاوى [10/ 96]، وانظر: [10/ 628]).
فيُلْحَظ -في هذا التقرير- أنَّ التزكية بمعنى التربية، فكلاهما نماء وزيادة، ثم إنَّ التزكية والتربية لابد فيهما مِن فعلٍ وتركٍ، وجلبِ ما ينفع ودفعِ ما يضر، كما هو مبيّن فيما يلي:
- التربيةُ فِعلٌ وتركٌ، فهي فعل المحبوب وترك المكروه، والقيام بالمأمورات، والكفّ عن المنهيات -كما سبق-، وكذا التزكية بفعل الحسنات، وترك السيئات؛ فالتربية النافعة بالأعمال والأفعال، وليس بمجرد الترك والامتناع، إذ إنَّ العمل يبعث على الترك، والعمل بالمأمورات مقصودٌ لذاته بخلاف ترك المنهيات. وهذا مَعْلَم تربويٌّ جليلٌ احتفى به أبو العباس ابن تيمية في عدة مواطن:
فقال -رحمه الله-: "والنفوس خُلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما التركُ مقصودٌ لغيره، فإنْ لم يشتغل بعملٍ صالحٍ، وإلا لم يترك العمل السيئ، أو الناقص". (اقتضاء الصراط المستقيم [2/ 617]).
فتَرْكُ المشروع يُوقِع في الممنوع، والإعراضُ عن التربية بالعلم النافع والعمل الصالح يُوقِع في التربية بجهالة وابتداع؛ ولذا قال: "هكذا أهل البدع لا تجد أحدًا تَرَكَ بعضَ السُّنَّة التي يجب التصديق بها والعمل؛ إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحبَ بدعة؛ إلا ترك شيئًا من السُّنَّة، فمن لم يفعل المأمور فَعَلَ بعض المحظور، ومَن فَعَلَ المحظور لم يفعل جميع المأمور". (الإيمان ص [164-165] باختصار).
فالصوفية -مثلًا- لما أعرضوا عن السماع المشروع، وفتروا عن سماع مواعظ القرآن؛ أقبلوا على التعبُّد بسماع القصائد، والوَلَع بالنشيد المبتدع وتوابعه، "ومتى اغتذت القلوب بالبدع؛ لم يبقَ فيها فضلٌ للسنن، فتكون بمنزلة مَن اغتذى بالطعام الخبيث". (اقتضاء الصراط المستقيم [2/ 597]).
ولئن كان أبو العباس ابن تيمية إمامًا كبيرًا محقِّقًا في تقرير الصفات الإلهية ونقض مقالات المعطِّلة الذين يَصِفُون الله بالسُّلُوب والنفي؛ فقد كان ربانيًّا عالمًا بالله في ترسيخ التربية العملية، ونقد أرباب الرياضة والتربية والتزكية القائمة على النفي والترك، كما في قوله: "وأما المعطِّلة من المتفلسفة ونحوهم؛ فيغلب عليهم النفي والنهي، فإنهم في عقائدهم الغالب عليهم السَّلْب: ليس بكذا، ليس بكذا...وفي الأفعال الغالب عليهم الذم والترك من الزهد الفاسد، والورع الفاسد: لا يفعل، لا يفعل...من غير أنْ يأتوا بأعمالٍ صالحةٍ يعملها الرجل فتنفعه، وتمنع ما يضره من الأعمال الفاسدة، ولهذا كان غالب مَن سَلَكَ طرائقهم بَطَّالًا مُتَعطِّلًا". (الفتاوى [20/ 126]).
- التربية تقوم على الدراية بحقيقة النفس وطبيعتها، ومعرفة آفاتها وأدوائها، وطالما تحدَّث أبو العباس عن هذه القضية، ومِن خلال علمٍ عميقٍ بالنصوص الشرعية، ودراية متينة بطبائع النفوس وكمائنها وعِلَلها.
فأصدق ما يُسَمَّى الإنسان أنه حارث وهمام، كما ثبت في الشرع والواقع، وأنَّ الإنسان له قوتان: قوة علمية وقوة عملية. (ينظر: الفتاوى [4/ 32]، والدرء [3/ 274]، والرد على المنطقيين ص [144، 433])، وأنَّ الإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا؛ لأنه لابد له من حركةٍ تجلب منفعته، وتدفع مضرته، والشرع هو الميزان في تحقيق وضبط تلك المنافع والمضار في المعاش والمعاد. (ينظر: التدمرية ص [500]، والمجموعة العلية [2/ 201]، وجامع الرسائل [2/ 221]).
فالإنسان بطبيعته لا ينفك عن علمٍ وفِكْرٍ (همام)، كما لا ينفك عن عملٍ وسعيٍ (حارث)، وجاءت نصوص الوحيين مستوعبة لتلك الطبيعة والجِبِلّة، وجاءت محقِّقة لكمالها ونجاتها وسعادتها في الدارين.
كما تحدّث أبو العباس عن آفات النفس البشرية وأدوائها، وسُبُل علاجها وشفائها، فكان رحيمًا بنفوس الخَلْق، عليمًا بالحق، فطالما تحدّث عن هذه الأدواء بعلمٍ وعدلٍ، وعالجها بإنصاف وواقعية، مجانبًا المثالية الجامحة عند المتصوفة ونحوهم -كما هو مبسوط في موضعه-.
- نجزم أنَّ القرآن العظيم في الشفاء والغَناء في كل مجالات الحياة، وفيه مِن الحِكَم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه. (ينظر: النبوات [2/ 876]).
قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:٣٣]. قال ابن تيمية: "والقرآن قد دلّ على جميع المعاني التي تَنازَع الناس فيها؛ دقيقها وجليلها". (الدرء [5/ 56]).
وقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت من الآية:٥١]. قال ابن تيمية: "فزجر مَن لم يكتفِ بالكتاب المنزَّل". (الفتاوى [19/ 67]). فالقرآن فيه الهداية والكفاية لتحقيق منهج تربوي تام.
وقد جرّب وذاق الأستاذ الكبير محمد قطب هذه الحقيقة الجليلة، فقال: «كنت في ضائقة نفسية شديدة لا يبدو في ظلمتها بصيص من النور...وكان القرآن كتابنا الأوحد الذي نقرأ فيه...وكنت إلى تلك الليلة قد قرأته -كله- ثلاث مرات أو أربعًا، وعشتُ فيه كل لحظة من النهار والليل. وفجأة -في تلك الليلة- أحسستُ بصفاءٍ ذهني وروحي غير معتاد، وفجأة كذلك أحسستُ بمجموعة من الخواطر تنثال على نفسي متتابعة، كأنها درس محفوظ، يا عجبًا! هذا منهج متكامل للتربية الإسلامية لم يخطر في نفسي أبدًا مِن قَبْلُ! منهج متكامل لا يترك صغيرة ولا كبيرة". (منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب ص [8-9] باختصار).
ورحم الله أبا الوليد الباجي لما قيل له: هل قرأتَ "أدب النفس" لأفلاطون؟ فقال: قرأت أدب النفس لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
- تحدَّث ابن تيمية عن الباطن، والقلب، وصلاح الإرادة، وصحة القصد والنية، وأنَّ هذا هو الأصل، فإذا صلُح القلب صلُح الجسد كله، والقلب مَلِكٌ، فإذا طاب الملك طابت جنوده، كما جاءت بذلك النصوص الشرعية والحقائق الواقعية، فإنَّ ذلك يجده الإنسان في نفسه، وأن الإرادة القلبية هي أصل كل حركة وفعل.
"وقد كانت هذه الحقيقة معروفة في الفكر الإغريقي، ثم تبنّتها في القرن العشرين المدرسة النفسية المسماة (الغرضية)، وقد كان لها رواج خصوصًا على يد (مكدوجل)، الذي قال: إن وراء كل سلوك إنساني نزعة أو غريزة فطرية دافعة، ولكن هذه المدرسة اندثرت في غَمْرة رواج المدارس التجريبية التي تُفَسِّر السلوك الإنساني تفسيرًا حيوانيًّا، بل آليًا، ومِن أكثرها مناقضةً: (بافلوف)، التي عكست فجَعَلت الأفعال الخارجية هي مصدر المشاعر الداخلية، وعلى مِنوالها تسير المدارس التجريبية الأمريكية المعاصرة". (ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي [1/ 132] باختصار).
- وفي عصرنا المكتظ برُكام الشهوات، وأكوام الشُّبُهات، ومع غَلَبة الجهالات، وفتور حجج الرسالات، وانحسار العلم الشرعي، واندراس التعبُّد النبوي؛ قد توجد مُدافَعة لهذا التيار الجارف عبر مَحَاضِن تربوية، تسعى إلى التَّوَقِّي مِن هذا الواقع المتردي، لكن هذه المَحَاضِن لا تخلو مِن مُحدَثات وتَجَاوزات.
وقد حرَّر ابن تيمية الجواب عن هذه النازلة بعلمٍ وتحقيق، ودرايةٍ بقواعد الموازَنة بين المصالح والمفاسد؛ فقال: "قد يتعذَّر أو يتعسَّر على السالك سلوكُ الطريقة المشروعة المحضة إلا بنوعٍ من المحدَث؛ لعدم القائم بالطريقة المشروعة علمًا وعملًا، فإذا لم يحصل النور الصافي، بأنْ لم يُوجَد إلا النور الذي ليس بصافٍ، وإلا بَقِيَ الإنسانُ في الظُّلْمة، فلا ينبغي أنْ يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظُلْمة، إلا إذا حَصَلَ نورٌ لا ظُلْمة فيه، وإلا فكم ممن عَدَلَ عن ذلك يخرج عن النور بالكلية". (مجموع الفتاوى [10/ 364]، وينظر: اقتضاء الصراط المستقيم [2/ 616]).
فأبو العباس يعالج واقعًا مكرورًا عبر القرون والأزمان، فبقاءُ مَحَاضِن تربوية إسلامية -مصحوبة بخَلَلٍ وابتداعٍ- خيرٌ من زوال ذلك كلّه، ثم يَعْقِب ذلك ريحٌ عاصفٌ مِنَ الشهوات الموبقة، لا تُبْقِى ولا تَذَر!
ولا يعني ذلك أنَّ أبا العباس يجعل ذلك مشروعًا مأثورًا، إذ الشرع ما شَرَعَه الله ورسوله، فالجهةُ هاهنا منفكة، كما في موقفه مِن الذين يُصْعَقون عند سماع القرآن، فهذا واقعٌ لبعض المتعبّدة بلا تصنُّع ولا تكلُّف، وحال هؤلاء خيرٌ من قساة القلوب الذين لا تحرّك زواجر القرآن فيهم ساكنًا، ومع هذا فإنَّ ذلك الصَّعْق ونحوه ليس عملًا مشروعًا، إذ لم تَرِدْ به نصوصُ الوحيين، وليس من حال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وهم أعمقُ هذه الأمة علمًا، وأبرّها قلوبًا، وأزكاها نفوسًا، والله المستعان.
جمادى الآخرة 1435هـ، إبريل 2014م.