الرحمة في الإسلام
راغب السرجاني
إنَّ أول ما يلفت الأنظار في كتاب رب العالمين، وهو دستور المسلمين، وأهم مصادر التشريع، أن كل السور فيه -باستثناء سورة التوبة- قد صُدِّرت بالبسملة، وأُلحِق بالبسملة صفتا (الرحمن الرحيم)، وليس يخفى على أحد أن تصدير كل السور بهاتين الصفتين أمر له دلالته الواضحة على أهمية الرحمة في التشريع الإسلامي..
- التصنيفات: أخلاق إسلامية -
جـاء في التوراة: "اقتَرِبوا واَسمَعوا أيُّها الأمَمُ!، أصغوا إلي أيُّها الشُّعوبُ!, لتَسمَعِ الأرضُ وكُلُّ مَنْ فيها، العالَمُ وكُلُّ ما يُخرِجه، الرّبُّ غاضِبٌ على الأُمَمِ، ساخطَ على كُلِّ جيوشِهِم، فحَلَّلَ سَفكَ دِمائِهِم، ودَفَعهُم دَفعًا إلى الذَّبحِ، فتُطرَحُ قَتلاهُم في الشَّوارِعِ ويفوحُ النَّتْنُ مِنْ جيَفِهِم، تسيلُ الجبالُ مِنْ دِمائِهِم" [1]، هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر..
إننا لن نستطيع أن نستوعب مفهوم الرحمة في عين رسول الله إلا بالرجوع أولاً إلى المصدر الرئيسي الذي كَوَّن هذا المفهوم عنده، وهو (القرآن الكريم) إنَّ أول ما يلفت الأنظار في كتاب رب العالمين، وهو دستور المسلمين، وأهم مصادر التشريع، أن كل السور فيه -باستثناء سورة التوبة- قد صُدِّرت بالبسملة، وأُلحِق بالبسملة صفتا (الرحمن الرحيم)، وليس يخفى على أحد أن تصدير كل السور بهاتين الصفتين أمر له دلالته الواضحة على أهمية الرحمة في التشريع الإسلامي، ولا يخفى على أحدٍ أيضًا التقارب في المعنى بين الرحمن والرحيم، والعلماء لهم تفصيلات كثيرة وآراء متعددة في الفرق بين اللفظين [2]، وكان من الممكن أن يجمع الله مع صفة الرحمة صفة أخرى من صفاته كالعظيم أو الحكيم أو السميع أو البصير..
وكان من الممكن أن يجمع مع الرحمة صفة أخرى تحمل معنى آخر يحقق توازنًا عند القارئ بحيث لا تطغى عنده صفة الرحمة، وذلك مثل الجبار أو المنتقم أو القهار، ولكن الجمع بين هاتين الصفتين المتقاربتين في كل بداية لسور القرآن الكريم يعطي الانطباع الواضح جدًا، وهو أن الرحمة مُقدَّمَة بلا منازع على كل الصفات الأخرى، وأن التعامل بالرحمة هو الأصل الذي لا ينهار أبدًا، ولا يتداعى أمام غيره من الأصول..
ويؤكد هذا المعنى ويُظهره أنَّ أول السور التي نراها في ترتيب القرآن الكريم -وهذا الترتيب توقيفي، بمعنى أن الله أوحى لرسوله أن يرتب القرآن هذا الترتيب الذي بين أيدينا اليوم مع أن الآيات والسور نزلت بترتيب مختلف [3]- نجد أن أول السور في هذا الترتيب الفاتحة، وأن هذه السورة قد افتُتِحت بالبسملة -وفيها صفتا الرحمن الرحيم- كبقية السور، ثم تجد فيها صفتي الرحمن الرحيم قد تكررتا في السورة ذاتها، وهذا التصدير للقرآن الكريم بهذه السورة بالذات له دلالته الواضحة أيضًا..
وكما هو معلوم فسورة الفاتحة هي السورة التي يجب على المسلم أن يقرأها في كل ركعة من ركعات صلاته كل يوم، ومعنى ذلك أن المسلم يردد لفظ الرحمن مرتين على الأقل، ويردد لفظ الرحيم مرتين على الأقل، فهذه أربع مرات يتذكر فيها العبد رحمة الله في كل ركعة من ركعات الصلاة، وهذا يعني ترديد صفة الرحمة في كل يوم ثمانية وستين مرة في خلال سبعة عشر ركعة تمثل الفروض التي على المسلم، مما يعطيك تصورًا جيدًا لمدى الاحتفال بهذه الصفة الجليلة: (صفة الرحمة).
ولم يكن هذا الاحتفال المهيب بهذه الصفة في أول القرآن فقط، ولا في أوائل السور فحسب، ولكنه كان كذلك في كل السور القرآنية، وبشكل لافت للنظر، ولقد قمت بإحصاء عدد المرات التي جاءت فيها صفة الرحمة بمشتقاتها المختلفة في القرآن الكريم، وكذلك إحصاء عدد المرات التي تكررت فيها صفة من الصفات الأخرى كالحلم والعدل وغيرها من الصفات فوجدتُ عجبًا! لقد انفردت صفة الرحمة في القرآن الكريم بالصدارة، وبفارق كبير عن أي صفة أخلاقية أخرى، فبينما تكررت صفة الرحمة بمشتقاتها ثلاثمائة وخمس عشرة مرةً، جاءت صفة الصدق مثلاً مائة وخمسًا وأربعين مرةً، وجاءت صفة الصبر تسعين مرة، وجاءت صفة العفو ثلاثًا وأربعين مرة، وجاءت صفة الكرم اثنتين وأربعين مرةً، وجاءت صفة الأمانة أربعين مرةً، وجاءت صفة الوفاء تسعًا وعشرين مرةً، وهكذا..! إنَّ هذا ليس مصادفة بحال من الأحوال، وحاش لله أن تكون هناك أمور عشوائية في كتاب رب العالمين، فهو الحق الذي لا باطل فيه، وكل كلمة وحرف فيه نزل بقَدَر ولهدف.
قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. وإذا تتبعت دعاء الأنبياء في القرآن لوجدت أن الدعاء بالرحمة قاسم مشترك بينهم جميعًا، فمن دعاء آدم مثلاً ومعه زوجته حواء: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، ودعاء نوح: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]، ودعاء موسى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155]، وحصر ذلك يصعب ويطول لكثرة تكراره.
إن هذا كله يفسِّر لنا الكثير من الأحاديث التي ذكرها رسول الله، والتي تصف رحمة ربِّ العالمين، فيروي أبو هريرة أن رسول الله قال: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ" [4]، فهذا إعلانٌ واضح أن الرحمة مقدمة على الغضب، وأن الرفق مقدم على الشدة، وليست هذه الرحمة الغامرة في الدنيا فقط، بل إن الرحمة الأعظم والأشمل ستكون يوم القيامة، وهذا ما بشَّرنا به رسول الله عندما قال: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؛ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ» [5].
إن الأمر غير متخيَّل فعلاً، والله جعل الرحمة يوم خلق السموات والأرض، أي أنه جعلها قبل أن يَصدُرَ أمرٌ إلهيٌّ بأفعال العباد، بل قبل أن يخلقهم أصلاً، وهذا من عظيم فضله، وواسع جوده، بل إن النص القرآني العظيم يشير إلى أن هذه الرحمة قد كتبها ربنا على نفسه، قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، إنها الحقيقة التي لا ريب فيها.
يقول الإمام الطبري [6] رحمه الله في تفسير هذه الآية: "قضى سبحانه أنه بعباده رحيم، لا يَعْجَل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة، وهذا من الله تعالى ذِكرُه استعطاف للمُعرِضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة" [7]، فإذا أضفنا إلى كل ما سبق أن الله وضَّح الهدف من الرسالة والبعثة بأنه فقط رحمةٌ للعالمين، وذلك حين قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، إذا أضفنا هذا المعنى إلى كل ما سبق أدركنا حقيقةَ أنَّ أقوال وأفعال رسول الله ما هي إلا ترسيخ لمعنى الرحمة، وما هي إلا تطبيق فريد لهذا الخُلُق العظيم في كل كلمة من كلماته، وفي كل حركة من حركاته..
إنَّ رسول الله ما بُعِثَ إلا لهذا الأمر، كما تشير الآية، بل إنَّ الطبري رحمه الله يرجِّح أن هذه الرحمة تشمل المؤمنين والكافرين، فيقول بعد أن يعرض اختلاف العلماء في قضية: هل تشمل هذه الرحمة المؤمنين فقط، أم المؤمنين والكافرين؟ "وأَوْلى القولين في ذلك بالصواب: أن الله أرسل نبيه محمدًا رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم، فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنةَ، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله" [8].
ويؤكد على هذا الفهم أن الرسوللم يُبعَث لقومٍ معينين دون قومٍ آخرين، إنما بُعِث -على خلافٍ ما حدث مع مَن قبله من الأنبياء- إلى الناس عامة، يقول رسول الله: "وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّة" [9]، فهذا تصريح منهأن رسالته لكافة أهل الأرض، وبالتالي فهي رحمة للعالمين.
عند وضع كل هذه الخلفيات في الذهن، فإننا نفهم سلوك رسول الله في حياته، ونفهم أقواله وأفعاله، إنه كان ينطلق من هذه المبادئ المهمة: (إن الله رحمن رحيم، وإن رسول الله رحمة مُهداة إلى العالمين، وإن الرسالة في أصلها وطبيعتها رحمة بالناس أجمعين)، من هذا المنطلق أيضًا جاءت كلماته في قضية الرحمة عمومية شاملة، تحوي مع قلة ألفاظها معانٍ هائلة، وتشمل مع إيجازها المعجز كل من يعيش على ظهر الأرض..
قال رسول الله: «من لا يَرْحَم لا يُرْحَم» [10].
هكذا على إطلاقها تأتي العبارة، مَن لا يَرحم العباد -دون تحديد ولا تقييد- لا يرحمه الله،ويقول أيضًا: «ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» [11]، وكلمة «مَنْ» تشمل كل مَن في الأرض، ويقول كذلك: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» [12]، إن الرحمة التي ظهرت في كل أقوال وأعمال رسول الله لم تكن رحمة مُتكلَّفة، تحدث في بعض المواقف من قبيل التجمل أو الاصطناع، إنما كانت رحمة طبيعية تلقائية مُشاهَدة في كل الأحوال، برغم اختلاف الظروف، وتعدُّد المناسبات،
لقد رأينا رحمته مع الكبار والصغار، ورأيناها مع الرجال والنساء، ورأيناها مع القريب والبعيد، بل ورأيناها مع الصديق والعدو، بل إن رحمته تجاوزت البشر لتصل إلى الدواب والأنعام، وإلى الطير والحشرات، إننا نرى في سيرته أنه يرحم الهِرَّة، فيُخبِر أن امرأة دخلت النار لقسوتها على هرة! يقول: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» [13].
بل نرى في سيرته أنه يخبر عن زانية غفر الله لها لتحرك الرحمة في قلبها لكلب! قال: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» [14]، إن هذا المثال السابق ليدلنا أشد الدلالة على اختلاف الموازين والمقاييس في أذهاننا عن حقيقته? التي هي عليها، فكلنا يقول: وما كلب ارتوى إلى جانب جريمة زنا! بل إنها ليست جريمة زنا واحدة! إنَّ المغفرة كانت لِبَغِيٍّ احترفت الفاحشة! إن رحمة الله واسعة، والراحمون يرحمهم الله، والذنوب تتصاغر أمام رحمته، ولكنه سبحانه لا يرحم إلا الراحمين، هذه هي المقاييس الصحيحة، والموازين الدقيقة التي بها تُقَّوم الأعمال، لذلك تدخل امرأة النار في هِرَّة، وتدخل أخرى الجنة في كلب!
إن القضية ليست قضية الآثار المترتبة على الفعل، فلعلها هنا قليلة ومحدودة بالحيوان الذي جاء في القصة، ولكن القضية حقيقةً هي ما وراء الفعل، وهي الرحمة التي في قلب الإنسان، وعلى ضوئها تكون قراراته وأعماله، لقد رحم رسول الله الحيوان الأعجم من أن يُجوَّع أو يُحمَّل فوق طاقته، فقال في رحمة بالغة حين مَرَّ على بعير قد لحقه الهزال: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً» [15].
بل هو يرحم الحيوان حتى في حالة ذبحه، فإن كان لا بد أن يُذبَح فلتكن عملية الذبح هذه رحيمة، فيقول: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» [16]، بل إنه يتجاوز البهائم إلى الطيور الصغيرة التي لا ينتفع بها الإنسان كنفعه بالبهائم، وانظر إلى رحمته بعصفور! يقول رسول الله: «مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ فُلانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ» [17]، ولسنا نقصد هنا الحصر، بل هي مجرد أمثلة، والحديث في ذلك يطول ويتشعب، إنها ليست رحمة خاصة بالبشر فقط.. إنما هي رحمة بكل الخلق.
وفوق كل ما سبق ينبغي أن نشير إلى أن رحمته قد شملت ما لا روح فيه أصلاً! إنه يتعاطف مع جبل أُحُد الصخر الأصم، ولا يريد للناس أن تتشاءم منه لحدوث مصيبة للمسلمين عنده، ولا يريد لهم أن يكرهوه دون جريرة ولا جريمة! فقال، وهو يشير إلى جبل أُحد: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» [18]، أية رحمة، وأي رفق، وأي عطف، وأي حنان! إنه يرحم الحياة بكاملها، يرحم من يعرف ومن لا يعرف، إنه يُطَبِّق ما أراده الله مِنْ خلقه ولخلقه، إنه سبحانه أراد منهم الرحمة، وأراد لهم الرحمة، وهذه هي رسالة الإسلام في حقيقتها، وهذا هو رسول الله في حقيقته، إن الناس لا تفهم الإسلام حق الفهم، إنهم قصروه على بعض العبادات والحدود، ولكنه ليس هذا فقط، وليس الذي يدخل الجنة من أدى العبادات وأقام الحدود، ثم هو ينطلق في الأرض مفسدًا لها، ظالمًا لأهلها، قاسيًا على من يعيشون فيها..
إن أهل الجنة هم الرحماء أصحاب القلوب الرقيقة والمشاعر المرهفة، أما أهل النار فهم الغلاظ الجفاة الذين تحجَّرت قلوبهم، واستكبرت نفوسهم فلم يرحموا خلق الله، ولم يرأفوا بحالهم، إن البون بين الطائفتين شاسع، والمسافة هائلة، كما بين السماء والأرض، أو أبعد! إنه الفارق بين من فَهِم الإسلام ومن لم يفهمه! وصدق الله العظيم إذ يقول مخاطبًا نبيه الكريم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
إن السبب الذي جمع الناس حول رسول الله ليس أبدًا قوة السلطان، ولا سطوة السلاح، إنما الذي جمعهم حقيقةً -كما ذكر ربنا- هو رحمة الله التي ألانت قلب رسول الله فجاء على هذه الصورة الرحيمة متناهية الرحمة كما بيَّنا، ولا أريد أن أترك هذا الفصل إلا مع كلمات رسول الله الرقيقة، وعاطفته الرحيمة..
يقول رسول الله: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ!» [19].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] التوراة، سفر إشعيا، إصحاح 34.
[2] ابن حجر: فتح الباري، 13/358،359.
[3] أبو عبد الله الزركشي: البرهان في علوم القرآن 1/260.
[4] البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ} (7115)، واللفظ له، ومسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى (2751)، وابن ماجة (189)، وأحمد (9148)، وأبو يعلى (6422)، وفي رواية غلبت بدلاً من سبقت البخاري كتاب بدء الخلق (3022)، وابن حبان (6145).
[5] مسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى (2753)، وابن حبان (6146)، والطبراني في الكبير (6144).
[6] أبو جعفر محمد بن جرير، الطبري، صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير، كان إمامًا في فنون كثيرة منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك، ومن أشهر مؤلفاته تاريخ الملوك والرسل، توفي سنة310هـ. وفيات الأعيان4/191.
[7] الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 5/154.
[8] الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 9/99.
[9] البخاري: كتاب التيمم (328)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (521)، وأحمد (14303)، والدارمي (1389)، وابن حبان (6398)، وابن أبي شيبة (31642)، والبيهقي في سننه الكبرى (958)، وأبو نعيم في حلية الأولياء 8/316.
[10] البخاري: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (5667)، ومسلم: في الفضائل، باب رحمتهبالصبيان والعيال (2319)، أبو داود (5218)، والترمذي (1911)، وأحمد (7121).
[11] رواه الترمذي (1924)، وأحمد (6494)، والحاكم (7274)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم (3522) في صحيح الجامع.
[12] البخاري: كتاب الجنائز، باب قول النبييعذب الميت ببكاء أهله (1224)، ومسلم في الجنائز باب البكاء على الميت (923)، وأبو داود (3125)، والنسائي (1868)، وابن ماجة (1588)، وأحمد (21827)، وابن حبان (461).
[13] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3140)، مسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2619)، وابن ماجة (4256)، وأحمد (7538)، والدارمي (2814)، وابن حبان (5621)، والطبراني في الأوسط (531)، وكلهم عن أبي هريرة، إلا الدارمي فقد رواه عن نافع عن ابن عمر.
[14] البخاري: كتاب الأنبياء، باب "أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم" (3280)، ومسلم: كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (2245)، والبيهقي في سننه الكبرى (15597).
[15] أبو داود (2548)، وابن خزيمة (2545)، وقال الألباني: صحيح.
[16] مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955)، وأبو داود (2815)، والترمذي (1409)، والنسائي (4405)، وابن ماجة (3170)، وأحمد (17154)، والدارمي (1970)، وابن حبان (5883).
[17] النسائي (4446)، وأحمد (19488)، وابن حبان (5894)، والطبراني في المعجم الكبير (7245)، والبيهقي في شعب الإيمان (11076)، والضحاك في الآحاد والمثاني (1572).
[18] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل الخدمة في الغزو (2722)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي(1392)، والترمذي (3922)، وابن ماجة (3115)، وأحمد (9013)، وابن حبان (6501).
[19] البخاري: عن أنس، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منها (2195)، ومسلم: كتاب المساقاة باب فضل الغرس والزرع (1553)، والترمذي (1382)، وأحمد (13413)، وأبو يعلى (2851)، والبيهقي في السنن (11527).