حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه

في هذا الزمان الذي كثر فيه التحاسد والتباغض والذي نتج عنه الكره والتناحر... كان لزامًا علينا جميعًا أن نعوّد أنفسنا على حب الخير لإخواننا حتى تسلم قلوبنا من الحقد والضغينة وحتى نصل إلى درجة عالية من الإيمان والتسليم.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

في هذا الزمان الذي كثر فيه التحاسد والتباغض والذي نتج عنه الكره والتناحر... كان لزامًا علينا جميعًا أن نعوّد أنفسنا على حب الخير لإخواننا حتى تسلم قلوبنا من الحقد والضغينة وحتى نصل إلى درجة عالية من الإيمان والتسليم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (أخرجه البخاري ومسلم).

[قال العلماء يعني لا يؤمن من الإيمان التام وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة والمراد : يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات... قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك إذ معناه : لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص عليه شيء من النعمة وذلك سهل قريب على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله تعالى وإخواننا أجمعين.

وقال أبو الزناد : ظاهر هذا الحديث التساوي وحقيقته التفضيل لأن الإنسان يحب أن يكون أفضل الناس فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل هو في جملة المفضولين ألا ترى أن الإنسان يحب أن ينتصف من حقه ومظلمته ؟ فإن أكمل إيمانه وكان لأخيه عنده مظلمة أو حق بادر إلى إنصافه من نفسه وإن كان عليه فيه مشقة... وقال بعض العلماء : في هذا الحديث من الفقه أن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة فينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من حيث إنهما نفس واحدة كما جاء في الحديث الآخر: «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»] (شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد).

 

فهذا هو المعنى إذا.. فما الذي يضيرك أخي المسلم أن تحب الخير لإخوانك كما تحبه لنفسك؟ بل ما الذي يضرك أن تبذل لإخوانك الخير وتدلهم عليه؟ لقد تبدلت مفاهيم الناس وظنوا أنهم إن بذلوا الخير لإخوانهم حُرموا منه أو نقص من عندهم.. وهذا فهمٌ خاطئ. إذ إن حب الخير للآخرين له ثمرات جلية جليلة، ومنها:

- أنه يرتقي بصاحبه في مراتب الإيمان.

- أنه يجعل صاحبه من المفلحين؛ قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].

- أن يسلم قلب صاحبه من الحقد ويطهره من الأثرة.

- أن يحبه الخلق ويقدروا له صنيعه، فيحصل بذلك الألفة والمحبة بين الناس.

- وهو دليل على علو الهمة والارتقاء بالنفس عن الدنايا.

 

وقد ضرب لنا سلفنا الصالح أمثلة لحب الخير الآخرين سواء في الدنيا أو الدين. فقد كان أحد الصالحين في دكانه إذا باع أول النهار وجاء أحد يشتري منه قال: "اذهب لجاري فإنه لم يبع منذ الصباح"! سبحان الله! علم أن الأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى وارتقى بنفسه عن حب الدنيا والمال وآثر أخاه على نفسه.. فيا ليتنا نقتدي.

بل فلننظر معًا إلى تلك القلوب التقية النقية التي سلمت من الكره والبغضاء؛ بل وسمت وتسامت فوق كل دنية حتى أحبت لغيرها الخير في الدين كما الدنيا: كانَ إبراهيمُ النخعيُّ رحمهُ اللهُ تعالى أعورَ العينِ. وكانَ تلميذهُ سليمانُ بنُ مهرانٍ أعمشَ العينِ (يعني: ضعيفَ البصرِ) وقد روى عنهما ابنُ الجوزيّ في كتابهِ (المنتظم) أنهما سارا في أحدِ طرقاتِ الكوفةِ يريدانِ الجامعَ، وبينما هما يسيرانِ في الطريقِ قالَ الإمامُ النخعيُّ: يا سليمان! هل لكَ أن تأخذَ طريقًا وآخذَ آخرَ؟ فإني أخشى إن مررنا سويًا بسفهائها، لَيقولونَ أعورٌ ويقودُ أعمشَ! فيغتابوننا فيأثمونَ. فقالَ الأعمشُ: يا أبا عمران! وما عليك في أن نؤجرَ ويأثمونَ؟! فقال إبراهيم النخعي : يا سبحانَ اللهِ! بل نَسْلَمُ ويَسْلَمونُ خيرٌ من أن نؤجرَ ويأثمونَ (المنتظم في التاريخ: [7/15]).

(نَسْلَمُ ويَسْلَمونُ خيرٌ من أن نؤجرَ ويأثمونَ).. إنها قلوب تزينت بالإيمان حتى حلقت في السماء لتصل بأصحابها إلى أعالي الجنان. إنها قلوب تشربت ووعت حديث المصطفى العدنان: «حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

بل تعالوا بنا نتأمل فعل هذا الصحابي الكريم مع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلّا الماء. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من يضمّ -أو يضيف- هذا؟» فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: ما عندنا إلّا قوت صبياني. فقال: هيّئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيّأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها، ثمّ قامت كأنّها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه أنّهما يأكلان فباتا طاويين فلمّا أصبح غدا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: «ضحك اللّه اللّيلة أو عجب من فعالكما» فأنزل اللّه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (أخرجه مسلم، والبخاري واللفظ له). عجب الله سبحانه من فعلهما.. ونحن كذلك نعجب والله إذ لو حدث هذا الموقف في مثل يومنا هذا لأسمعت الزوجة زوجها ما لا يرضى من القول وأنبته وعاتبته بل ورفضت أصلا استضافة الضيف. فوا عجبا لتلك القلوب الطاهرة!

 

وإننا في يومنا هذا قلما نجد من يحب الخير لإخوانه حتى في أبسط الأمور.. بل تجد المرء يضلل إخوانه حتى لا يصلوا إلى الخير الذي يريده ويصل هو قبلهم أو دونهم.. وتجد من يبخل على إخوانه حتى بالنصيحة.. وتجد من يحقد على أخيه بسبب وصوله لمكانة رفيعة، حتى وإن كان هو أعلى منه مكانة.. كل هذا بسبب بعد هذه القلوب عن الهدي النبوي وإيثارها الدنيا على الآخرة.

فهلا ارتقينا بأنفسنا قليلا عن حب الدنيا وشهواتها، وأصلحنا قلوبنا وأزلنا عنها صدأ الأنانية لتسمو بعد ذلك في جنات النعيم.

سدرة المُنتهى