الأسرى في الإسلام

راغب السرجاني

مبدأ العفو عن الأسرى عند رسول الله جوهرة أخرى بالغة الإشعاع في شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يكن حث الرسول على العفو عن الأسرى، والمن عليهم أمرًا خياليًا يجمل به صورة المسلمين، بل كان أمرًا واقعيًا أفرز مجموعة من المواقف يعجز المرء عن استيعاب عظمتها.

  • التصنيفات: السيرة النبوية -

مبدأ العفو عن الأسرى عند رسول الله:
كان العفو جوهرة أخرى بالغة الإشعاع في شخصية الرسول [1].
ضمن سلسلة الانتهاكات التي تواجهها الأمة الإسلامية قام بعض الجنود من أفراد الجيش الألماني المشارك في احتلال أفغانستان بعمل شنيع، وذلك عندما قام الجنود بقتل مجموعة من الأفغان ثم قاموا بالتمثيل بجثثهم بتقطيع أعضاء من جسدهم وسحبهم بسيارات عسكرية أمام الأفغانيين [2].
هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!

قال رسول الله: «‏فكوا العاني -[3]- وأطعموا الجائع وعودوا المريض» [4] ويقول عندما سأله رجل: ‏فقال: "يا رسول الله ‏علمني عملاً يدخلني الجنة"، فقال: «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق ‏ ‏النسمة ‏وفك الرقبة» فقال: "يا رسول الله أوليستا بواحدة" قال: «لا، إن عتق ‏النسمة ‏أن تفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في عتقها» [5].

لم يكن حث الرسول على العفو عن الأسرى، والمن عليهم أمرًا خياليًا يجمل به صورة المسلمين، بل كان أمرًا واقعيًا أفرز مجموعة من المواقف يعجز المرء عن استيعاب عظمتها، وأجمل ما فيها أنها لم تكن مواقف عابرة حدثت نتيجة ظروف خاصة، أو تحت ضغوط معينة، إنما كانت منهجًا ثابتًا، وسنة ماضية، وتشريعًا خالدًا استحال أن يجود الزمان بمثله، ولنمر سريعًا على بعض الأمثلة التي تظهر رحمته وعفوهعن أسرى أعدائه، وذلك من خلال النقاط الآتية:

أسيرًا سرية نخلة:
أسر المسلمون في هذه السرية -وكانت في رجب من السنة الثانية من الهجرة- اثنين من المشركين هما أول أسيرين في الإسلام؛ (الحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله)، فأما الأول -الحكم- فنظرًا لما وجده من المعاملة الكريمة فإنه أسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله حتى استشهد يوم بئر معونة في السنة الرابعة للهجرة، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرًا [6].

ومع أن هذين هما أول أسيرين يظفر المسلمون بهما بعد طول العناء والتعذيب من مشركي مكة الذين ينتسب لهم هذان الأسيران؛ إلا أن ذلك لم يكن دافعًا لرسول الله أن يمسهما بأذى، بل على العكس كان الإكرام والصفح عنهما، وهذا الموقف له دلالات كبيرة جدا، حيث إنه وضح من البداية سياسة رسول الله في التعامل مع الأسرى، ومع أن هذا كان من الممكن أن يطمع فيه المشركون إلا أنها سياسة الرحمة التي لا بديل عنها في الرؤية النبوية، وقد ازداد هذا المعنى رسوخًا عندما رأينا رؤيته للتعامل مع أسرى بدر بعد أقل من شهرين من سرية نخلة.

أسرى بدر:
كانت معركة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين، وقد تم النصر فيها للمسلمين مع قلة عددهم وعدتهم؛ بل إنهم مع هذا النصر أسروا من المشركين سبعين، واستشار الرسول أصحابه رضي الله عنهم في شأن هؤلاء الأسرى، وماذا يفعل معهم؟ يروي عمر بن الخطاب فيقول: "قال أبو بكر: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا، فقال رسول الله: «ما ترى يا ابن الخطاب؟»، قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان -قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوداة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم"، فهوى الرسول ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت -أي عمر- وأخذ منهم الفداء [7].

وعلى الرغم من نزول الآيات بعد هذا الموقف تعاتب النبي أنه أخذ بالرفق واللين مع هؤلاء الأسرى في هذا الموقف {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، رغم ذلك؛ لم يكن هذا دافعًا لأن يسيء الرسول معاملة هؤلاء الأسرى، أو يغير من تعامله معهم بعد أن أخذ قرارًا بإعفائهم من القتل، وقبول الفدية ممن يستطيع منهم.

وقد تفاوت مقدار هذه الفدية بحسب حالة كل أسير..
فقد أطلق الرسول بعض الأسرى كـ(عمرو بن أبي سفيان) مقابل أن يطلق المشركون سراح (سعد بن النعمان بن أكال)، الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر، ومن الأسرى من كان يفدي نفسه بالمال، وكان يراعي الحالة المادية لكل أسير، فمنهم من دفع أربعة آلاف درهم كـ(أبي وداعة، وأبي عزيز، واسمه زرارة بن عمير) وهو أخ لمصعب بن عمير دفعتها أمه، وكانت صاحبة مال وفير، ومنهم من دفع مائة أوقية كالعباس بن عبد المطلب، ومنهم من دفع ثمانين أوقية كـ(عقيل بن أبي طالب)، وقد دفعها له العباس، ودفع بعض الأسرى أربعين أوقية فقط [8].

أما من لم يكن معه مال، وكان يعرف القراءة والكتابة فكان فداؤه أن يعلم بعض المسلمين القراءة والكتابة؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: "‏كان ناس من الأسرى يوم ‏ ‏بدر ‏لم يكن لهم فداء ‏فجعل رسول الله ‏‏‏فداءهم أن يعلموا أولاد ‏‏الأنصار" [9]، ومن هؤلاء الأسرى من من الرسول عليه بغير فداء مثل: (المطلب بن حنطب، وأبي عزة الشاعر، وصيفي بن أبي رفاعة) [10]، ومن الواضح أنه تم إطلاق سراح من بقي من أسرى بدر خلال أقل من عام من غزوة بدر، ومما يؤكد هذا الأمر أن المشركين في أحد لم يتفاوضوا على أي أسرى.

أسرى الحديبية:
وهذا من مواقف الرحمة العجيبة في السيرة!
قال عبد الله بن مغفل المزني: "‏كنا مع رسول الله ‏‏بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله‏ ‏‏وعلي بن أبي طالب‏ ‏وسهيل بن عمرو‏ ‏بين يديه، فقال رسول الله‏ ‏‏لعلي:‏ «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»، فأخذ ‏سهيل بن عمرو‏ ‏بيده فقال: ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم اكتب في قضيتنا ما نعرف قال: اكتب باسمك اللهم فكتب هذا ‏ما صالح عليه ‏‏محمد رسول الله ‏‏‏أهل ‏‏مكة ‏فأمسك ‏سهيل بن عمرو‏ ‏بيده وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: «اكتب هذا ما صالح عليه ‏‏محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ‏وأنا رسول الله»، فكتب، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله ‏‏فأخذ الله بأبصارهم، فقدمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله:‏ ‏«هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانًا» فقالوا: لا فخلى سبيلهم فأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح:24]، [11].

فهذا عفو في موقف عجيب، فالمسلمون ممنوعون من دخول مكة، وقريش قد أعدت العدة لحربهم، ومع ذلك لا يأخذ الرسولهؤلاء الأسرى رهينة، بل يمن عليهم بغير فداء، ولا يجعلهم ورقة ضغط على المشركين حتى في هذا الموقف الصعب! إنها الرحمة في أرقى صورها!

ويتكرر بعد صلح الحديبية موقف آخر عجيب من مواقف الرحمة والعفو!
يقول سلمة بن الأكوع: "ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا قال: وكنت ‏‏تبيعًا ‏لطلحة بن عبيد الله‏ ‏أسقي فرسه وأحسه وأخدمه وآكل من طعامه وتركت أهلي ومالي مهاجرًا إلى الله ورسوله ‏‏قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل ‏مكة ‏‏واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرةً ‏فكسحت ‏‏شوكها فاضطجعت في أصلها قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل ‏مكة‏ ‏فجعلوا يقعون في رسول الله، ‏‏فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى وعلقوا سلاحهم واضطجعوا فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا ‏للمهاجرين ‏‏قتل ‏ابن زنيم، ‏‏قال: فاخترطت سيفي ثم ‏‏شددت‏ ‏على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم فجعلته ‏ضغثًا [12] ‏في يدي قال: ثم قلت: والذي كرم وجه ‏محمد‏ ‏لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله ‏‏قال: وجاء عمي ‏عامر [13] ‏برجل من ‏العبلات [14] ‏يقال له ‏‏مكرز ‏‏يقوده إلى رسول الله ‏‏على فرس‏ ‏مجفف [15] ‏في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله ‏فقال: «دعوهم يكن لهم بدء الفجور ‏وثناه» ‏‏فعفا عنهم رسول الله [16]،[17]، هكذا ببساطة.. لم ينتقم، فيسفك الدماء، وينتهك الأعراض، وينهب الدور، بل العفو هو شيمته في كل وقت، وفي مواجهة كل عدو.

أسرى مكة:
وهذا من أعظم المواقف في السيرة النبوية، -وخاصة إذا وضعت التاريخ المظلم لقريش مع رسول الله- فقد فتح رسول الله مكة، ودان له كل من فيها، وأصبحوا ملك يده، وله حق التصرف فيهم كما يشاء، فماذا فعل؟ لقد قال لهم: «يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب»، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، ثم قال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟» قالوا: "خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم"، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» [18]، ويتضح لنا بجلاء من لفظ الطلقاء أنهم كانوا في حكم الأسرى، ومن عليهم الرسول بإطلاق سراحهم، ولم يمسهم بأدنى سوء؛ بل إنه أكرمهم وأنزلهم منزلة عالية، مما يدل على سمو أخلاقه ورحمته.

أسرى هوازن:
بعد معركة حنين غنم المسلمون غنائم كثيرة من الإبل والشياه، وأسروا عددًا مهولاً من المشركين بلغ في بعض الروايات ستة آلاف [19]، وبعد انتهاء توزيع الغنائم بكاملها، ورضا كل فريق بما أخذ سواء من الجزء الرئيسي من الغنيمة، أو من الخمس الذي وهب للبعض، حدثت مفاجأة ضخمة لم تكن متوقعة..!

لقد جاء وفد من قبيلة هوازن إلى وادي الجعرانة [20]، لإعلان الإسلام أمام النبي، وكان الوفد يمثل كل بطون هوازن ما عدا ثقيف، وذلك بعد أقل من شهرين من حرب حنين الهائلة، بعد أن فقدوا كل شيء فخسروا نساءهم وأبناءهم، وأموالهم، وأنعامهم، وكانوا قد فروا إلى الطائف مع ثقيف، وما استطاعوا الخروج لحرب المسلمين، وكان من الممكن أن يفقدوا ديارهم ويعيشوا عمرهم لاجئين عند ثقيف في الطائف، ولكنهم فكروا في العودة إلى رسول الله، فقد يقبل منهم إسلامهم، ويعيد إليهم بعض الممتلكات.

وأعلن وفد هوازن الإسلام أمام النبي، وقالوا: "يا رسول الله إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا من الله عليك" [21]، لقد أصبح الموقف في غاية الحرج، فها هي القبيلة الضخمة هوازن تأتي لتعلن إسلامها، ولتسترد بعض ما ذهب منها، وتحتمل ردتهم إن لم يستردوا أسراهم، وكان النبي قد قسم كل شيء في الغنائم على الجيش، فأربعة أخماس الغنائم قسمت على أفراد الجيش العام، وقسم الخمس الباقي على سادة القبائل والعظماء، وطلقاء مكة وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، فقد أعطى النبي هذه العطايا ليتألف بها الناس، ولو أخذ النبي منهم ما أعطاهم لارتدوا عن الإسلام، فهو يريد إسلام هوازن، وفي نفس الوقت يريد ثبات أهل مكة وزعماء القبائل، فكيف خرج النبي من الأزمة؟!

قال لهم الرسول: «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: "يا رسول الله خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا"؛ فقال الرسول: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس؛ فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا. فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم».

فلما صلى رسول الله بالناس الظهر؛ قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله؛ فقال: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم»؛ فقال المهاجرون: "وما كان لنا فهو لرسول الله"، وقالت الأنصار: "وما كان لنا فهو لرسول الله"، وقال الأقرع بن حابس: "أما أنا وبنو تميم فلا"، وقال عيينة [22]: "أما أنا وبنو فزارة فلا"، وقال العباس بن مرداس السلمي[23]: "أما أنا وبنو سليم فلا"، فقالت بنو سليم: "بل ما كان لنا فهو لرسول الله"، فقال عباس بن مرداس لبني سليم: "وهنتموني"، فقال رسول الله: «من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من أول فيء نصيبه. فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم» [24].

وبهذا وصل رسول الله مع هوازن إلى حل وسط، بإعادة نسائهم وأبنائهم، مع إشعارهم أنه معهم قلبًا وقالبًا، وأقنع المسلمين في ذات الوقت بترك الأسرى والسبي ابتغاء مرضاة الله، وترك لهم الغنائم، وما فعله الرسول هو منتهى الحكمة، وبه انتهت مشكلة هوازن، ودخلت في الإسلام بنفس راضية، وقد تيقنت أنها تتعامل مع رسول، وليس مع مجرد زعيم أو قائد، وما أعتقد أن في تاريخ الأمم مثل هذا الرقي في التعامل مع الأسرى.

ثمامة بن أثال:
كان ثمامة بن أثال زعيمًا مشهورًا من زعماء بني حنيفة، وكان قد قرر أن يأتي للمدينة المنورة ليقتل رسول الله [25]، فأسره أصحاب النبي، وجاءوا به إلى المسجد النبوي، فماذا كان رد فعل رسول الله مع من جاء ليقتله؟! إن الرجل الآن أسير، والأسير يجب إحسان معاملته، والقاعدة لا استثناء فيها، ومن ثم قال لأصحابه: «أحسنوا إساره» [26]، وقال أيضًا: «اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه» [27]، فكانوا يقدمون إليه لبن لقحة الرسول [28].

ثم انظر إلى هذا الحوار الراقي الذي دار بين رسول الله والرجل الذي جاء ليقتله، فأصبح أسيرًا:
قال رسول الله: ‏«ماذا عندك يا ‏ثمامة؟»، فقال: "عندي يا‏ محمد ‏خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله‏ حتى كان بعد الغد فقال: «ما عندك يا ‏ثمامة؟»، قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله ‏‏ ‏حتى كان من الغد فقال: «ماذا عندك يا ‏ثمامة؟»، فقال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله: «أطلقوا ‏ثمامة»، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن ‏محمدًا ‏عبده ورسوله يا‏ ‏محمد،‏ ‏والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ‏‏ترى؟ فبشره رسول الله ‏‏‏وأمره أن يعتمر فلما قدم ‏مكة ‏‏قال له قائل:‏ ‏أصبوت؟‏ ‏فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله ‏ولا والله لا‏ ‏يأتيكم من ‏اليمامة ‏حبة ‏‏حنطة ‏حتى يأذن فيها رسول الله" ‏‏[29].

فهذه المعاملة الكريمة من رسول الله تركت في نفس ثمامة أثرًا طيبًا إلى درجة أنه غير دينه، وأسلم لله رب العالمين دون ضغط أو إكراه، بل إن إسلامه ولد قويا إلى الدرجة التي دفعته إلى مقاطعة قريش من أجل أنها تحارب رسول الله، مضحيًا بذلك بثروة هائلة كانت تأتيه من تجارته معها، ومضحيًا كذلك بعلاقات اجتماعية مهمة مع أشراف قريش.
 

وسبحان الذي أدب رسولنا؛ فأحسن تأديبه!

--------------------------------------------------------------------------------

[1] استانلي لين بول (مستشرق بريطاني): تاريخ الخلفاء والسلاطين في الإسلام، ترجمة عباس إقبال ـ الدار العربية للموسوعات 2006
[2] موقع وكالة الأنباء السعودية على شبكة الإنترنت، 4 شوال 1427هـ - 26 أكتوبر 2006م، الرابط الكتروني
http://www.spa.gov.s...s.php?id=398206
[3] العاني: هو كل من وقع في ذل واستكانة وخضوع.
[4] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فكاك الأسير (2881)، وأبو داود (3105)، وأحمد (19535)، والدرامي (2465)، وابن حبان (3324)، والطيالسي (489)، والطبراني في الأوسط (2592)، والبيهقي في شعب الإيمان (9165)، وفي سننه الكبرى (6367)، والنسائي في السنن الكبرى (7492).

[5] أحمد (18670)، وابن حبان (374)، والحاكم (2861)، والبخاري في الأدب المفرد (69)، والدارقطني في سننه 2/135، والطيالسي (739)، والبيهقي في سننه (21102)، عن البراء بن عازب، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله ثقات 4/438، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الألباني: صحيح.
[6] ابن كثير: السيرة النبوية 2/366 بتصرف.
[7] ابن كثير: السيرة النبوية 2/457.
[8] ابن سعد: الطبقات الكبرى 4/ 14.
[9] أحمد عن ابن عباس (2216)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن، وقال الهيثمي: رواه أحمد عن علي بن عاصم وهو كثير الغلط والخطأ ووثقه أحمد، مجمع الزوائد 4/172.

[10] ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/352.
[11] أحمد (16846 )، والحاكم (3716)، والبيهقي في سننه (12612)، والنسائي في سننه الكبرى (11511) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح. والآية من سورة الفتح: 24.
[12] الضغث: الحزمة.
[13] هو عامر بن سنان الأنصاري، عم سلمة بن عمرو بن الأكوع، استشهد يوم خيبر، وهو الذي جعل يرتجز حين خرج يومها ويقول: بالله لولا الله ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلينا. أسد الغابة 2/19 ? الإصابة، الترجمة (4391).
[14] العبلات: من قريش، وهم أمية الصغرى، والنسبة إليهم (عبلي)، لأن اسم أمهم عبلة. انظر: شرح النووي على مسلم 6/267.

[15] أي عليه تجفاف بكسر التاء، وهو ثوب يلبسه الفرس ل?يقيه من السلاح. شرح مسلم للنووي 6/267.
[16] البدء: أي ابتداؤه، وثناه: أي عودة ثانية
[17] مسلم، كتاب الجهاد والسير باب غزوة ذي قرد وغيرها (1807)، وأحمد (16566).
[18] ابن هشام: السيرة النبوية 2/411، ابن القيم: زاد المعاد 3 / 356، السهيلي: الروض الأنف 4/170، ابن كثير: السيرة النبوية 3/570. وقال الألباني: نقله الحافظ ابن كثير في "البداية و النهاية" ساكتًا عليه، و هذا سند ضعيف مرسل.
[19] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 173، ابن هشام: السيرة النبوية 5/162، ابن كثير: السيرة النبوية 3/667.

[20] وادي الجعرانة: شمال شرق مكة، ويبعد عن الحرم المكي 25 كم. و (الجعرانة) ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، نزلها النبي r لما قسم غنائم هوازن بعد حنين، وأحرم منها r. معجم البلدان 2/142.
[21] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 173، ابن هشام: السيرة النبوية 5/162.
[22] هو عيينة بن حصن بن الفزاري يكنى أبا مالك، من المؤلفة قلوبهم، أسلم بعد الفتح وقيل قبله، وشهد الفتح مسلمًا وشهد حنينا أو الطائف أيضا، ثم ارتد مع طليحة الأسدي فأخذ أسيرًا إلى أبي بكر t فكان صبيان المدينة يقولون: يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك! فيقول ما آمنت بالله طرفة عين. ثم أسلم وأطلقه أبو بكر. الإصابة الترجمة (6151)، أسد الغابة4/31.
[23] عباس بن مرداس السلمي، أسلم قبل فتح مكة بيسير، وكان من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه منهم، وكان شاعرًا محسنًا وشجاعًا مشهورًا. وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية. انظر: الاستيعاب2/362 ? الإصابة 4509- الكاشف للذهبي 1/ 536.
[24] الطبري: تاريخ الأمم والملوك2/173، ابن كثير السيرة النبوية 3/667.

[25] البيهقي: السنن الكبرى (17810)، ابن حجر: الإصابة 1/302، ابن الأثير: أسد الغابة 1/337.
[26] ابن هشام: السيرة النبوية: 6/51.
[27] انظر: ابن حجر: فتح الباري: 8/88.
[28] لقحة: الناقة الحلوب.
[29] البخاري: كتاب أبواب المساجد باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضًا في المسجد (450)، مسلم: كتاب الجهاد والسير. باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، واللفظ له (1764)، وأبو داود (2679)، والنسائي مختصرًا (712 )، وابن خزيمة (252)، والحنطة القمح.