فـي السفر وشيء من آدابه وأحكامه
محمد بن صالح العثيمين
- التصنيفات: فقه الحج والعمرة -
السفر: مفارقة الوطن، ويكون لأغراض كثيرة؛ دينية ودنيوية.
حكمه: حكم الغرض الذي أُنشئ من أجله: فإن أُنشئ لعبادة كان عبادة؛
كسفر الحج والجهاد. وإن أُنشئ لشيء مباح كان مباحاً: كالسفر للتجارة
المباحة. وإن أُنشئ لعمل محرّم كان حراماً كالسفر للمعصية والفساد في
الأرض.
وينبغي لمن سافر للحج أو غيره من العبادات أن يعتني بما يلي:
( 1 ) إخلاص النية لله ـ عز وجل ـ، بأن ينوي التقرب إلى الله عز وجل
في جميع أحواله لتكون أقواله وأفعاله ونفقاته مقربة له إلى الله
سبحانه وتعالى، تزيد في حسناته، وتكفّر سيئاته، وترفع درجاته.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «
إنك
لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعله في
فِي امرأتك » أي: فمها، متفق
عليه.
( 2 ) أن يحرص على القيام بما أوجب الله عليه من الطاعات واجتناب
المحرمات، فيحرص على إقامة الصلاة جماعةً في أوقاتها، وعلى النصيحة
لرفقائه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله عز وجل
بالحكمة والموعظة الحسنة. ويحرص كذلك على اجتناب المحرمات القولية
والفعلية، فيجتنب الكذب والغيبة والنميمة والغش والغدر، وغير ذلك من
معاصي الله عز وجل.
( 3 ) أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة من الكرم بالبدن والعلم والمال،
فيُعين من يحتاج إلى العون والمساعدة، ويبذل العلم لطالبه والمحتاج
إليه، ويكون سخياً بماله، فيبذله في مصالح نفسه ومصالح إخوانه
وحاجاتهم. وينبغي أن يُكثر من النفقة وحاجات السفر، لأنه ربما تعرض
الحاجة وتختلف الأمور. وينبغي أن يكون في ذلك كله طَلْقَ الوجه، طيب
النفس، رضي البال، حريصاً على إدخال السرور على رفقته ليكون أليفًا
مألوفًا. وينبغي أن يصبر على ما يحصل من جفاء رفقته ومخالفتهم لرأيه،
ويداريهم بالتي هي أحسن، ليكون محترمًا بينهم، مُعظّمًا في
نفوسهم.
( 4 ) أن يقول عند سفره وفي سفره ما ورد عن النبي صلى الله عليه
وسلّم؛ فمن ذلك: إذا وضع رجله في مركوبه فليقل : بسم الله، فإذا ركب
واستقر عليه فليذكر نعمة الله عليه بتيسير هذا المركوب له، ثم ليقل :
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا
هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
لَمُنقَلِبُونَ } [الزخرف: 13-14]
اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى،
اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بُعدَه، اللهم أنت الصاحب في
السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة
المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل. وينبغي أن يُكبر كلما صعد
مكاناً عُلواً، ويُسبح إذا هبط مكاناً منخفضًا.
وإذا نزل منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فمن نزل
منزلاً ثم قالها لم يضرَّه شيء حتى يرتحل من منزله ذلك.
الصلاة في السفر: يجب على المسافر أن يحافظ على أداء الصلاة في
أوقاتها جماعةً، كما يجب على المقيم كذلك. قال الله تعالى: {
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ
فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ
وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن
تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ
لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
} [النساء: 102]
فأوجب الله الجماعة على الطائفتين في حال الحرب والقتال مع الخوف، ففي
حال الطمأنينة والأمن تكون الجماعة أوجب وأولى. ولقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يُواظبون على صلاة الجماعة حَضرًا وسفرًا
حتى
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:
" ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا
منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى
يُقام في الصف ". رواه مسلم.
ويجب أن يعتني بوضوئه وطهارته، فيتوضأ من الحدث الأصغر، كالبول
والغائط والريح والنوم المستغرق، ويغتسل من الجنابة كإنزال المني
والجماع. فإن لم يجد الماء، أو كان معه ماء قليل يحتاجه لطعامه
وشرابه، فإنه يتيمم لقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً
فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء
أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ
تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
}[المائدة: 6] .
وكيفية الوضوء والغُسل معلومة. وكيفية التيمم أن يضرب الأرض بيديه
فيمسح بهما وجهه وكفيه؛ ففي (صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه
وسلّم قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه: « يكفيك الوجه والكفان
»، وفي رواية: «
ضرب
النبي صلى الله عليه وسلّم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه وفي رواية مسلم
ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة
».
وطهارة التيمم طهارةٌ مؤقتة، فمتى وجد الماء بَطلت ووجب عليه
استعماله، فإذا تيمم عن جنابة ثم وجد الماء وجب عليه الاغتسال عنها،
وإذا تيمم من الغائط ثم وجد الماء وجب عليه الوضوء عنه. وفي الحديث: «
الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين
فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته
».
والسنة للمسافر أن يقصر الصلاة الرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء
إلى ركعتين، لما في (الصحيحين) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:
صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان لا يزيد في السفر على
ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك. وفي (صحيح البخاري) عن عائشة رضي
الله عنها قالت: « فُرِضت الصلاة ركعتين ثم هاجر
النبي صلى الله عليه وسلّم ففرضت أربعاً، وتُركت صلاة السفر على
الأولى ». فالسنة للمسافر قَصرُ
الصلاة الرباعية إلى ركعتين من حين أن يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه،
سواء طالت مدة سفره أم قَصرُت. وفي (صحيح البخاري) عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم أقام بمكة تسعة عشر يومًا
يصلي ركعتين يعني عام الفتح. إلا أن يصلي المسافر خلف إمام يُصلي
أربعًا فيلزمه أن يُصَلي أربعًا، سواءً أدرك الإمام من أول الصلاة أم
من اثنائها لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «
إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه
».
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «... فما أدركتم فصلو وما فاتكم
فأتموا ». وسُئل ابن عباس رضي الله
عنهما: ما بال المسافر يُصلي ركعتين إذا انفرد وأربعًا إذا ائتم
بمقيم؟ فقال: تلك السنة. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى مع
الإمام صلى أربعًا، وإذا صلى وحده صلى ركعتين، يعني في السفر.
وأما الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فهو سنة للمسافر
عند الحاجة إليه، إذا جد به السير واستمر به، فيفعل ما هو الأرفق به
من جمع التقديم أو التأخير؛ ففي (الصحيحين) من حديث أنس بن مالك رضي
الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا ارتحل قبل أن تزيغَ
الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس
قبل أن يرتحلَ صلى الظهر ثم ركب.
وللبيهقي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا كان في سفر وزالت
الشمس صلى الظهر والعصر جمعًا. وأما إذا لم يكن المسافر محتاجًا للجمع
فلا يجمع، مثل أن يكون نازلاً في مكان لا يريد أن يرتحل منه إلا بعد
دخول وقت الثانية، فالأولى عدم الجمع لأنه غير محتاج إليه، ولذلك لم
يجمع النبي حين كان نازلاً في منى في حَجّة الوداع لعدم الحاجة
إليه.
وأما صلاة التطوع، فيتطوع المسافر بما يتطوع به المقيم، فيصلي صلاة
الضحى وقيام الليل والوتر وغيرها من النوافل سوى راتبة الظهر والمغرب
والعشاء فالسنة أن لا يُصليها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
محمد بن صالح العثيمين