(7) الوقفة الرابعة: المبادرة إلى تخطئة المخالف للدليل محبةً له

عبد العزيز بن محمد السدحان

  • التصنيفات: تربية النفس - سير الصحابة -

المبادرة إلى تخطئة المخالف، ولو كان أقرب الناس، محبةً له ونصحًا له ودفعًا له عن خطئه، فمن الجهالة بمكان أن يظن الإنسان أن تخطئة من يُحب من عدم كمال الأخوة، وهذا دليلٌ على قلة الفقه، وعلى عدم معرفة حق الأخوة!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومِن الناس من إذا أحب شخصًا تغاضى عن جميع سيئاته، ومنهم من إذا أبغض شخصًا تغاضى عن جميع حسناته،، وهذا من أعمال أهل البدع من الخوارج والجهمية والمعتزلة".

إذن انظر كيف بادر الصّديق فخطّأ عمر رضي الله عنه ولم يتردد في ذلك، وانظر إلى الأسلوب فقد بدأ الصّديق رضي الله عنه بفقهه فخاطب عمر رضي الله عنه بنفسه، فلما رأى إصراره تركهُ، وأقبل على الناس. والتصريح بخطأ المخالف ليس من باب الطعن؛ بل من باب المحبة له. فحُسن النية لا تشفع لصحة العمل، حتى يوافق الدليل.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تحكُم الصّديق رضي الله عنه عاطفته فيجاري عُمر رضي الله عنه بحكم القرابة اللصيقة الوثيقة بينهما محبة لله؟ أو هل يُغلّب الحق على العاطفة، ويقرر ما ثبت عنده من خطأ ما يُحب؟

فعندما أصرَّ عمر رضي الله عنه على عدم الجلوس وعلى موقفه، تركه الصّديق رضي الله عنه ثم أقبل على الناس، وبدأ بدعوة التوحيد فقرر التوحيد في نفوسهم، لأن التوحيد –كما قال أهل العلم- هو النور الدافع للشبهات وللشهوات، وبقوة توحيد العبد يقوى دفعه لشهوات نفسه وشبهاتها، فقال الصّديق رضي الله عنه كلمة تشرف التاريخ بحفظها، وسجلها بين طيات صفحاته، قال: "أيها الناس من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات".

فغرس التوحيد في قلوبهم أولا، وذكّرهم به في تلك الساعة لتستيقظ فطرهم وتتفطن نفوسهم، وأنتَ يا عبد الله تعلم أن عظم المصيبة يذهل النفس وينسيها النص، ولهذا قال بعض أهل العلم: "عند النوازل تذهل النفوس عن النصوص".

ولا بد من قائد يقود الأمة إلى بر الأمان، وكان الصّديق رضي الله عنه أحق بها وأهلها، حيث ذكر هذه الكلمة التي تدل على عميق إيمانه وثاقب علمه، ثم ثنى بالدليل الشرعي وهو قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].

كما قال أحد أهل العلم: "إن المفتي إذا كان يفتي بالدليل الشرعي يكون على فتواه نور يصل به إلى أعماق قلوب المخاطَبين". فعند النوازل العظيمة ينبغي أن يتقي العبد ربه وألا يتكلم إلا بعلم، والفتن والنوازل لا يحسمها إلا الدليل الشرعي.

وانظر كيف أن الصّديق رضي الله عنه تكلم وترك عمر رضي الله عنه وأعرض عنه وخالف قوله لأن المصلحة أعظم من أن يُسكِت عمر رضي الله عنه، ومع ذلك لا لوم على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعا لأن المصيبة عظيمة والأمر جلل.

وشاهد القول أن الصّديق رضي الله عنه طوى هذه الصفحة بفضل الله أولا، ثم بعلمه ثانيًا، وبثباته ثالثًا. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: فلما سمع الناس الصّديق يتلو الآية انصرفوا في الطرقات يتلونها كأنها لتوها نزلت.

وكما سبق فالعلماء قالوا: "عند النوازل تذهل النفوس عن النصوص". فإذا ذكّرت الناس في وقت النازلة بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية المنطبقة على الواقعة قَبِل الناس ذلك {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.

إذًا انصرف الناس وعلموا أن الأمر قد حصل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، ولكن يا تُرى أمر آخر: ماذا حدث لعمر رضي الله عنه بعد ذلك؟

هذا ما سنتحدث عنه في الوقفة التالية بإذن الله تعالى...

 

ملخص من كتاب: وقفات منهجية تربوية دعوية من سير الصحابة.