(8) الوقفة الخامسة: رجوع المخالف عند سماع الحق

عبد العزيز بن محمد السدحان

  • التصنيفات: تربية النفس - سير الصحابة -

سرعة رجوع المخالف عند بلوغ الدليل الشرعي له، وهذا لا يوفَق له إلا صاحب القلب السليم؛ لأن الإنسان قد يسمع الدليل، ولكن لعناده قد يصعب عليه الرجوع، والعاقل يفرح إذا سمع الدليل.

قال عمر رضي الله عنه وهو الصادق البار: "فلما سمعت الصّديق يتلوها عقرتني قدماي فجلستُ فعلمت أنه الحق".

ماذا نستفيد من هذه القصة؟؟

نستفيد أن أوقات الفتن والنوازل ينبغي على الإنسان أن يفتح صدره قلبه قبل أذنه لسماع الدليل بقصد الحق، فإذا علم الله تعالى أنك تقصد الوصول على الحق، حبب الله الحق إليك ووفقك إليه.

نستفيد أن الإنسان إذا خالف غيره، فإنه يجب أن يتقي الله تعالى في قول المخالف، وأن يرى وينظر بعين البصيرة قبل البصر، وأن ينظر في الدليل وفي قول المخالف له قبل القول فيه والحكم عليه. فإن كان المخالف له قد جاء بالدليل الموافق للنازلة، فإن من الديانة أن يرجع عن قوله، وأن يعترف بخطئه.

وانظر إلى ديانة عمر رضي الله عنه وإلى قوة ورعه وقوة يقينه واستسلامه للحق، فمنذ أن سمع الصّديق يتلو الآية تراجع من فوره، واعترف بخطئه وعدّ ذلك من التقرب إلى الله عز وجل وأذعن بأن الصّديق قد أصاب في قوله، وأنه أخطأ في رأيه. وهذه منقبة في حق الفاروق رضي الله عنه وهو أهلٌ لها؛ فقد رجع إلى الحق منذ أن سمعه ولم يتلكأ، ولم يقل يعزُ عليّ أن أتراجع هذه الساعة أمام الناس، ويعز عليّ أن أعترف بخطئي وسأصر على رأيي، وألتمس لنفسي أعذارًا، بل رجع رضي الله عنه أمام الناس وعلى مشهد منهم في اللحظة نفسها، وهذا من كمال إيمانه ومن قوة صدقه ويقينه رضي الله عنه.

وهذا كان ديدن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في نفسه، كما كان يوصي به عماله وولاته؛ فقد كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في كتابه المشهور في القضاء: (ولا يمنعنك قضاء قضيتَ به اليوم فراجعتَ فيه رأيك، وهُديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطله شيء ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل).

وانظر كيف كان عمر رضي الله عنه في أوج خلافته وبين وزرائه وكبار أصحابه في وقت قد تستنكف النفس أن تنتقد أو أن ترضى بالغلبة عليها، ولكن إذا كانت التقوى حاكمة، والنفس محكومة ترى العجب. ففي صحيح البخاري: كان مجلس عمر فيه الكهول والشبان، وكان من ضمنهم الحُر بن قيس الفزاري؛ فجاءه عيينة بن حصن وقال: يا ابن أخي (يخاطب الحُر بن قيس) هل لك وجه عند هذا المير؟ فاستأذن لي عليه؟ -يعني هل لك وجه عند عمر فتستأذن لي عليه؟- قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو راوي القصة، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة فدخل على عمر رضي الله عنه فقال: يا ابن الخطاب. –لاحظ الخطاب المجرد من مقام تعظيم لمثل عمر أمير المؤمنين- والله ما تعطينا الجزَل وما تحكم بيننا بالعدل. قال الراوي: فغضب عمر رضي الله عنه فقام وهمّ أن يقع به؛ فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وإن هذا من الجاهلين، قال الراوي: "فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله".. رضي الله عنه.

ويزيد العجب إذا علمنا أن عمر رضي الله عنه كان الرجل الأول في الدنيا ساعتها، وأنه قد تعرض فيه للكذب عليه في مجلس خلافته، وأهين. والإهانة إذا كانت أمام الناس أثقل على النفوس من الجبال. وانظر لما سمع الدليل وهو القدوة في فعله وقوله كيف سارع رضي الله عنه إلى الكف عما أراد أن يفعل، فأين هذا من أناس يضيق أحدهم ذرعًا إذا انتقد؟؟ وقد يكون على خطأ ويكون الناقد مصيبًا في نقده.

ومن الأمثلة على المبادرة في الرجوع إلى الحق من أمير المؤمنين الفاروق عمر رضي الله عنه قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه المشهورة في البخاري وغيره عندما بعث كتابًا للمشركين، وفي آخر القصة رجوع عمر رضي الله عنه وامتثاله للدليل الشرعي وعدم التقدم بين يدي الله تعالى حينما قال عمر رضي الله عنه: "يا رسول الله دعني أضرب عنقه"، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عمر وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر رضي الله عنه، فقال: "الله ورسوله أعلم".

وهذه المواقف هي قطرة من بحر، وغيض من فيض، وإلا فدواوين السنة ملأى بهذه الأمثلة، وليس المراد حصرها وإنما المراد منها العبرة والفائدة:

وهو أن يتمثل ذاك المنهج كل أحد في أرض الواقع، فلا خير فيمن دعا إلى خير وكان الدليل بخلافه وأصر على رأيه. ولا خير فيمن أقر ذلك المخطئ على رأيه الخطأ.

وليفرح الإنسان بالدليل في مواطنه أشد من فرحه بطعام على جوع أو بشرابٍ على عطش؛ يقول ابن تيمية رحمه الله: "والناس بحاجة إلى الوحيين أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ فإن الطعام والشراب فيه حياة الأبدان، وإن الوحيين فيهما حياة القلوب، وذهاب الوحيين أي عدم العمل بهما فيه موت للقلوب، وذهاب الطعام والشراب فيه موت للأبدان؛ فحياة القلوب أعظم من حياة الأبدان، وموت القلوب أعظم من مموت الأبدان".

وهذه الأمثلة وأمثالها يحتاجها طالب العلم وبخاصة عند مواطن الخلاف.

 

ملخص من كتاب: وقفات منهجية تربوية دعوية من سير الصحابة.