الإيجابية

علي بن نايف الشحود

  • التصنيفات: قصص الأمم السابقة -

يقول الحق ـ سبحانه ـ إن الـرسـل ـ عليهم الصـلاة والسلام ـ قد جاؤوا إلى القرية، وتحركوا إليها ولم يقعدوا في مكانهم؛ وذلك كما نستشعر مغزى الوصف القرآني: {إذْ جَاءَهَا} ؛ أي إنهم قد تحركوا منطلقين بعقيدتهم، وبدؤوا تجربتهم الدعوية التغييرية بالوصول إلى تلك القرية.


ولم يحدد السياق القرآني أي قرية تلك، وإن كان بعض المفسرين قد حدد أنها (أنطاكية)، فالعبرة ليست بالاسم، والبحث عنه لن يفيد تربوياً. ولم يقعد هؤلاء الرسل في مكانهم ليأتيهم الناس، بل حضروا إليهم.


ولأن من هذه الظواهر المميزة لهذا الوجود الكبير ظاهرة الحركة المستمرة، أو الحيوية المتجددة التي لا تأسن، أو (الظاهرة الارتحالية) التي تشمل الكون والحياة وكذلك الإنسان.


وهذه الظاهرة الحيوية، يستشعرها المرء في كل شيء، في هذا الوجود الكبير.
والله ـ عز وجل ـ يصور هذه الحركة الكونية المستمرة في أكبر جرم كوني نراه، وهو الشمس؛ فهي في حركة دائبة سرمدية لا تهدأ، أو هي تجري فعلاً، لمستقر ونهاية لا يعلمها إلا الله ـ عز وجل ـ:  {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِـمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38].


وهذه الحركة الدائبة ليست عشوائية، بل تحكمها قوانين ثابتة، وهي سنن إلهية لا تتبدل ولا تتغير إلا بإذنه ـ تعالى ـ تحافظ على سيرها في توافق عجيب ينتظم فيه كل شيء، بما فيه ظاهرتا الليل والنهار: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].


وكذلك لو تأملت أصغر جرم كوني وهو الذرة؛ لوجدت أن العلماء قد أثبتوا أن الحركة المستمرة الدائبة لمكوناتها هي إحدى سماتها ومميزاتها الثابتة.


لذا فإن المسلم يدرك أنه جزء من هذا الوجود الكبير الساجد المسبح لربه سبحانه، ويعلم أن الله ـ عز وجل ـ لا يهب نعمه العظيمة إلا لمن يسعى في أسباب الحصول عليها؛ أي يتعامل بطبيعة إيجابية مع النعم والمقدرات التي وهبها له الحق سبحانه.


وذلك كما ورد عن الرجل الصالح ذي القرنين: {إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . فَأَتْبَعَ سَبَبًا } [الكهف: 84 - 85].
وتدبر سنة الله ـ عز وجل ـ في مجال نعمة الرزق: {وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25]. إن الرزق وإن كان محتوماً؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد وكَّل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، والأمر بتكليف كسب الرزق سنة الله ـ تعالى ـ في عباده. وإن ذلك لا يقدح في التوكل.

أما في مجال التربية؛ فإن الأساس هو الحركة والانطلاق والاختلاط في دنيا الناس؛ لأن الله ـ عز وجل ـ قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها للناس لكل الناس، لتتحمل واجبات القوامة والشهادة، وذلك لتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، حاملة عقيدتها الربانية الخالدة السامية، ألا وهي الإيمان بالله ـ تبارك وتعالى ـ  {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وبناء هذه الأمة لا يكون إلا من خلال الواقع، والحركة بالمنهج خلال هذا الواقع.


وشواهد القرآن الكريم كثيرة، وكلها تدل على أن من يحمل رسالة عليه أن يقوم بها، ويتحرك بها، ويدرك تبعاتها.
لذا فقد كانت الخطوة الأولى للحبيب -صلى الله عليه وسلم- هي القيام بالأمر العظيم، وهو الدعوة، وتطليق الراحة والدعة، وذلك استجابة للأمر الإلهي: {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 1 - 2].


وعندما حكى القرآن الكريم عن ذلك الصحب المؤمن، وتجربتهم الدعوية التغييرية، وضّح أنهم قد تحركوا بعقيدتهم إلى عالم الواقع {  إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا} [الكهف: 14].

والداعية عندما يعلم أنه جزء من كل، فهو أحد أعضاء ذلك الركب العظيم، (ركب المرتحلين) الذي يشمل هذا الوجود الكبير.لذا كان عليه أن يفهم معنى ومدى أهمية التوافق والتناغم مع حركة الوجود المطيع والمسبح لربه، ويدرك خطر النشاز.


فالمطلوب منه ليتوافق ولا يشذ شرطان:
أولاً: عليه أن يتوافق عقدياً بأن يتطور ويستزيد ويتحرك، ولا يقف أسيراً لمرحلة فكرية معينة؛ وذلك من خلال فقه جيد وواع، ليوازن بين ثوابت لا يحيد عنها، ومتغيرات تعطيه حقه من المرونة والحركة والإبداع.


ثانياً: عليه أن يتوافق عملياً ويتناسق جسدياً ومادياً، بالحركة والقيام والانطلاق والاختلاط والخروج للناس لنشر رسالته. فلا يكون مثل بعض الناس الذين يُؤْثِرون التصومع والتقوقع والتحوصل بل والتشرنق، سواء في ذلك الفكري العقلي أو المادي الجسدي. وهذا لا ينطبق فقط على الأفراد، بل على الدعوات والجماعات.
فالحياة حركة حيوية تتميز بالظاهرة الارتحالية.


والوجود ما فيه إلا معبود يُعبد؛ ولا يتغير سبحانه وعابد يَعبد؛ يتميز بأنه متغير وارتحالي.