أنحجّ ولا نتغير ؟!

مهدي بن علي قاضي

  • التصنيفات: فقه الحج والعمرة -

أيّها المسلمون .. أيّهـا المـسلــمون

طال ليل الأنين .. دمعكم في العيون

مالكم تلبسون.. حلــــة البــائسيـن



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:

ونحن في هذا الموسم العظيم وفي أوقات التهيؤ والبدء وحتى الانتهاء من هذا الركن الهام, وبلمحة لما مضى من سنوات عديدة نعيشها, نرسل عتاباً من القلب لأمتنا الطيبة الخيرة أن كيف تأتي من شتى بقاع الأرض لتؤدي هذه العبادة الكثيرة الحِكَمْ والمقتضيات ثم تعود بعدها كما كانت بدون أن تصلح حالها مع الله في كل الأمور, وتلتزم بأحكام دينه كاملة, وتجتهد وتعبده حق عبادته, وتنصره سبحانه لينصرها بفضله ويعود لها عزها ومجدها ووحدتها واتحادها, وتنتصر على أعدائها وتحفظ من شرورهم ومكرهم, قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7], وقال سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]..

وعتابنا يزداد لأن الأمة يحدث منها هذا وهي ترى أمام أعينها وتعيش هذا الواقع المر الذي يعتبر أشد وأحرج واقع مر بها على مدى تاريخها, واقع أذلت فيه الأمة وأهينت, واستمر وطال فيه ذبح أبنائها والتنكيل بهم في شتى بقاع الأرض, وما من حلٍ حقيقي شامل حاسم لإيقاف هذه المآسي إلا عودة الأمة إلى حقيقة دينها وتمسكها الكامل به.

أَوَمَا يُحَرِّكُكَ الذي يجري لنا *** أَوَمَا يُثِيْرُكُ جُرْحُنَا الدفَّاقُ

وأمتنا فيها الخير الكثير ولكنها تعرضت لغفلة، ولمكر وكيد وتضليل وتخدير عظيم من أعداء الدين وأعوانهم, جعلها تستمرئ الكثير من المعاصي و تصر عليها, بل قد لا تشعر أحيانا أنها مما لا يرضي الله, وشُغِلَت وأُلْهِيت الأمة عن أن تسعى بجدٍ لإصلاح شؤونها والأخذ بأسباب تقدمها ونشر عقيدتها الصحيحة ودعوتها الربانية في آفاق الأرض.


ولا شك في أن أمتنا لو استفادت حقاً من هذا الركن العظيم وعاد الحجيج وقد طبقوا حِكَمَ الحج والعِبَرَ الكثيرة والدروس الهامة منه في حياتهم, والتي من أهمها التوبة الصادقة لصلح حال الأمة ولعاد لها عزها, وليس على الله بعزيز أن يتحقق لها النصر وتقود العالم في خلال سنوات معدودة بإذن الله.

فبدءاً من الإحرام تبتدئ الحكم والدروس..

- نُحرم, فكأن هذه الشعيرة تذكرنا بالتجرد من آفات الدنيا, والاغتسال من ماض لنا كنا قد أذنبنا فيه وقصرنا.

- نقول "لبيك اللهم لبيك", ومن معانيها الكبرى أننا متوجهون لك يا ربنا في كل أمور حياتنا, طائعون لأوامرك, رَهْنٌ لتعاليم دينك الذي ارتضيته لنا في كل شؤوننا, محبون لك, مخلصون موحدون.

- تلهج الألسن بالتكبير, وما أكثر المعاني التي تستلهم من "الله أكبر"! فالله أعلى وأَجَلّ, وأمر الله أعظم, وما يريده الله هو الذي يجب أن يكون الأكبر.

- نطوف حول الكعبة, ونبيت بمنى, ثم ننطلق لعرفة, ثم إلى مزدلفة ثم نعود لمنى, ونتحرك في كل مشاعر الحج كما أُمِرنَا, طاعة له سبحانه وتحقيقا لعبوديتنا التي أساسها أن تَكُون مُحققة في شتى أمور حياتنا؛ عقيدة وأفكاراً وقيما ومفاهيم وأعمالاً وسلوكاً.

- نرمي الجمرات ثلاثة أيام؛ وفي ذلك تذكير لنا بمواصلة حربنا مع الشيطان, وعدم الرضوخ لإغوائه وطُرِقِهِ, وتعويد لنا على الحذر منه هو ومعاونيه من شياطين الإنس الذين يمثلون رأس حربةٍ أساسية في خطة الشيطان وطرق إضلاله, والذين كانوا ولا يزالون يفسدون أمة الإسلام ويبعدونها عن حقيقة دينها ويميعون عليها أوامر الشريعة عبر وسائلهم المختلفة.

- نذبح الأضاحي فنتذكر ونتأسّى بالخليل وإسماعيل عليهما السلام عندما لم يترددا في الاستجابة للخالق سبحانه، وتنفيذ ما أَمَرِ به.

- نحلق رؤوسنا، وفي ذلك منتهى الذل والعبودية لأمره سبحانه، وإقرار بالطاعة التي نحتاج إلى تحقيقها في كل أيام عمرنا.

- والحج كله بشعائره العديدة التي يظهر فيها بوضوح بذل الجهد وتحمل المشاقٍ المختلفة هو مُذَكِّرٌ لنا بذروة سنام الإسلام الجهاد, الذي ضعف في الأمة يوم أن بعدت عن حقيقة الإسلام في أمور كثيرة فلم تستطع أن تصل لذروة سنامه.. فهلا ربينا أنفسنا على التطلع لبلوغ هذه الذروة والتي نحتاج قبلها ومعها - أمةً وأفراداً - إلى أن نحقق جهاد أنفسنا في حملها على طاعة الله والالتزام بأوامره وتطبيق شرعه؟!

- وكل الحج أيضا يذكرنا بالواجب الكبير والذي نحن في أمس الحاجة إليه في هذا العصر الذي نعيشه, وهو واجب الدعوة إلى الله وبذل الجهد في سبيله, والذي نسيه الكثيرون وكأنه غير واجب عليهم؛.. ففي الحج نتذكر ونتأمل قصة أول من نادى وأذن في الناس بالحج أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام, ونعتبر مما بذله من جهود وتعب ونصب وسفر وترحال وتضحيات من اجل الدعوة وإقامة دين الله ونشره.


وتقصر الكتابات عن حصر العبر والمواقف والدروس المستفادة من هذا الركن العظيم.. لكنها كلها دعوة للتغيير وبذل الجهود والانطلاقة نحو ما يرضي الله في كل جوانب الحياة, والحج مدرسة، بل جامعة تربية للأمة للسعي والعمل في كل ما يفيدها ويصلح شأنها ويعلي قدرها.

قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج:37].

قيل للحسن البصري: جزاء الحج المبرور المغفرة، قال: آية ذلك أن يدع سيئ ما كان عليه من عمل.

أيها الحاج الكريم.. أيتها الحاجة الكريمة:

هذا الحج مظهر عظيم من مظاهر ديننا, وقد أنعم الله عليك بأن بُلِّغْتَ هذه الفريضة, وكنت بإذن الله ممن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه,...وكأنك أصبحت صفحة بيضاء نقية.. فلا تلطّخ أيها الكريم هذه الصحيفة الطاهرة بذنوب ترجع إليها وتصرّ عليها بعد عودتك.

قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92].

وتذكر أن من علامات قبول حجك - الذي هو مرادك وأملك - أن تكون بعده أحسن حالاً تائباً منيباً مجتهداً في كل خير بعيداً عن كل شر, داعياً إلى الله مجاهداً لإقامة دينه وشرعه بما تستطيع, ساعياً بجدِ في أسباب الرقي لأمتك.

فانتبه يا صاحب الصفحة البيضاء؛ وراجع نفسك وأعرض كل أعمالك على الشرع ودقق وتبصر فيها, حتى لا تكون ممن هو مقيم على ذنب وهو لا يشعر به! أو - الأصعب - وهو لا يأبه به!!

ولِتَبْقَ الصفحات بيضاء نقية بإذن الله, بل فلنسعَ إلى زيادتها نصاعة وطهارة؛ حتى نلاقي الإله بها فنفرح الفرح الكبير, ونكون عونا لأمتنا على طريق الفلاح والعز والنصر.



قال تعالى: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].

وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].

مهدي بن علي قاضي