رحمة النبي بالنساء

راغب السرجاني

لقد عمل محمد صلى الله عليه وسلم جهد طاقته لتحرير النساء، وكان ذلك بالقدوة الحسنة التي استنها

  • التصنيفات: السيرة النبوية -

 

لقد عمل محمد صلى الله عليه وسلم جهد طاقته لتحرير النساء، وكان ذلك بالقدوة الحسنة التي استنها (1).

ثلثي النساء على الأقل تعرضن خلال حياتهن لصورة من صور العنف المنزلي، وتؤثر هذه الظاهرة على أربعة ملايين امرأة سنويًّا في ألمانيا، وأربعة ملايين زوجة في الولايات المتحدة الأمريكية (2).

هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!

 

لا شك أن في النساء صورة من صور الضعف، وهو ليس ضعفًا مذمومًا، فإنه من جانبٍ ليس مقصودًا منهن، ومن جانبٍ آخر محمود مرغوب، فأما الجانب غير المقصود فهو ضعف البنية والجسم، وهذه لا حيلة فيها، فلا يلومهنَّ أحدٌ عليها، وأما الجانب المحمود فهو في ضعف القلب والعاطفة؛ بمعنى رقَّة المشاعر، وهدوء الطباع، وهو لا شك أمر محمود في النساء، وكلما زاد -دون إفراط- كان ألطف وأجمل...

 

وكان الرسول يُقَدِّر هذا الضعف في النساء، ويحرص على حمايتهنَّ من الأذى الجسدي أو المعنوي، ويُظهِر رحمته بهنَّ بأكثر من طريقة، وفي أكثر من موقف...

 

وكان رسول الله دائم الوصية بالنساء، وكان يقول لأصحابه: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» (3)، وتكررت منه نفس النصيحة في حجة الوداع، وهو يخاطب الآلاف من أمته، وكان يوقن أن هذه الوصية من الأهمية بمكان حتى يُفرد لها جزءًا خاصًا من خطبته في هذا اليوم العظيم...

قال رسول الله في هذا اليوم: «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ (4) عِنْدَكُمْ» (5).
 

وقد شبههن بالأسيرات لكون القوامة في يد الرجل، وقرار الانفصال أو الطلاق بيده، ولقوة الرجل وضعف المرأة مما يجعلها في وضع لا حيلة فيه، ولكل ذلك استدر عطف الرجل على ضعفها بهذه الكلمات.

وقال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي» (6).
 

ويوضح رسول الله في جملة بلاغية رائعة أن النساء يُماثِلن الرجال في القدر والمكانة، ولا ينتقص منهن أبدًا كونُهنَّ نساء، فيقول: «إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» (7).

ويقول ابن الأثير (8) رحمه الله: "شقائق الرجال بمعنى نظرائهم وأمثالهم (9)"، بل إن رسول الله يأمر المسلمين بعدم كراهية النساء حتى لو كانت هناك بعض الأخلاق المكروهة فيهن فيقول:  «لا يَفْرَكْ (10) مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» (11).

ولا شك أنه استوحى هذا المعنى العظيم من قول الله تبارك وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].

 

غير أن الذي يلفت النظر بصورة أكبر في رحمته بالنساء هو جانب التطبيق العملي في حياته، فلم تكن هذه الكلمات الرائعة مجرد تسكين لعاطفة النساء، أو تجمُّلٍ لا حقيقة له، بل كانت هذه الكلمات تُمارَس كل يوم وكل لحظة في بيته وفي بيوت أصحابه...

 

وإننا نقول أننا نتحدى العالم أجمع أن يأتي لنا بموقف من حياة رسول الله آذى فيه امرأة أو شقَّ عليها، سواءً من زوجاته أو من نساء المسلمين، بل من نساء المشركين... ويكفي أن نسرد بعض مواقفه مع النساء -ولو دون تعليق- لندرك مدى رحمته بهن...

 

اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- عَلَى النَّبِيِّ فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ رضي الله عنها -ابنته- عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ أَلا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَحْجِزُهُ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: «كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنْ الرَّجُلِ؟» ، قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِفَ وَجَدَهُمَا قَدْ اصْطَلَحَا فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلانِي فِي سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا فَقَالَ النَّبِيُّ: «قَدْ فَعَلْنَا قَدْ فَعَلْنَا» (12).

فرحمة رسول الله هنا قد فاقت رحمة الأب، فأبو عائشة رضي الله عنها -وهو الصديق- أراد أن يعاقبها على خطئها، ولكن الرسول لرحمته بها حجز عنها أباها!

 

وأحيانًا تخطئ زوجته خطأً كبيرًا، ويكون هذا الخطأ أمام الناس، وقد يسبب ذلك الإحراج له، ومع ذلك فمن رحمته يُقدِّر موقفها، ويرحم ضعفها، ويعذر غيرتها، ولا ينفعل أو يتجاوز، إنما يتساهل ويعفو...

فقد روى أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله كان عِنْدَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ أُخْرَى بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ يَدَ الرَّسُولِ فَسَقَطَتْ الْقَصْعَةُ فَانْكَسَرَتْ فَأَخَذَالْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرَى فَجَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ، وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ كُلُوا»، فَأَكَلُوا، فَأَمْسَكَ حَتَّى جَاءَتْ بِقَصْعَتِهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الرَّسُولِ وَتَرَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا (13).

لقد أخذ رسول الله هذا الموقف ببساطة، وجمع الطعام من على الأرض، وقال لضيوفه: «كلوا» ، وعلل غضب زوجته بالغيرة، ولم ينس أن يرفع قدرها، فقال: «غارت أمكم»، أي أم المؤمنين!!

فأي رحمة هذه التي كانت في قلبه!

 

ولا شك أنه كما ذكرنا في المبحث السابق من أنَّ رحمته باليتامى كانت أكثر وأعظم، فكذلك رحمته بالأرامل كانت أشدَّ وأوفى...

لقد رفع رسول الله قدر الذي يرعى شئون الأرملة إلى درجة لا يتخيلها أحد، فقال: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ» (14).

أي فضل وأي عظمة!!

 

وكان رسول الله أسرع الناس إلى تطبيق ما يقول، فقد روى عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- أن النبي كان لا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين؛ فيقضي لهما حاجتهما (15)...

 

بل إن هناك ما هو أعجب من ذلك، وهو رحمته بالإِمَاء، وهُنَّ الرقيق من النساء، فقد روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- فقال: "إِنْ كَانَتْ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ  فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ!"(16).
 

وقد علَّق ابن حجر رحمه الله على ذلك فقال: "والتعبير بأخذ اليد إشارة إلى غاية التصرف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست منه مساعدتها على ذلك، وهذا دالٌّ على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكِبْرِ"(17).

 

ونتساءل...

هل سمع أهل الأرض بزعيم دولة، أو قائد أمة يذهب هنا وهناك ليقضي بنفسه حاجة امرأة بسيطة لا تعدو أن تكون خادمة، بل هي أَمَة، لا تملك من أمرها شيئًا؟!
 

إن هذا الذي نراه من رسول الله لمن أبلغ الأدلة على نبوته، فلا تتأتَّى مثل هذه الأخلاق الرفيعة حقيقةً إلا من نبي... وصدق مَنْ قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].


_______________

 

(1) واصف بطرس غالي ( مفكر مسيحي مصري).

(2) فيدريكو مايور: عالم جديد [ص:137].

(3) البخاري: كتاب النكاح، باب الوصاة بالنساء [4890]، ومسلم: كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء [1468]، وأبو يعلى [6218].

(4) عوان: أسيرات.

(5) الترمذي [1163]، وابن ماجة [1851]، وأحمد [20714]، وقال الألباني: حسن.

(6) الترمذي [3895] وقال: حسن صحيح، وابن ماجة [1977]، وابن حبان [4177]، والطبراني في الكبير [853]، وقال الألباني: صحيح. انظر حديث [3314] في صحيح الجامع.

(7) الترمذي [113]، وأبو داود [236]، وأحمد [26238]، وأبو يعلى [4694]، وصححه الألباني انظر: حديث: [1983] في صحيح الجامع.

(8) ابن الأثير علي بن محمد بن عبد الكريم، العلاّمة عزُّ الدين بن الأثير الجَزَرِي، الحافظ المؤرخ. وُلِدَ بالجزيرة العمريَّة سنة 555هـ، وكان نسَّابةً إخباريًّا أديباً نبيلاً محتشماً، وبيته مأوى الطلبة. وصنَّف التاريخ المشهور المسمَّى: الكامل في التاريخ. وفيات الأعيان [3/348].

(9) محمد شمس الحق العظيم آبادي: عون المعبود [1/275] .

(10) يفرك: يبغض ويكره.

(11) مسلم: كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء [1469]، وأبو يعلى [6418]، والبيهقي في سننه الكبرى [14504].

(12) أبو داود [4999] وأحمد [18418]، والنسائي في السنن الكبرى [8495]، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

(13) البخاري: كتاب المظالم.

(14) البخاري: كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل [5028]، ومسلم: كتاب الزهد والرقاق، باب الإحسان على الأرملة والمسكين واليتيم [2982]، والترمذي [1969]، والنسائي [2577]، وابن ماجة [2140]، وأحمد [8717]، وابن حبان [4245].

(15) النسائي [1414]، الدارمي [74]، وابن حبان [6424]، والطبراني في الصغير [405]، وقال الألباني: صحيح.

(16) البخاري: كتاب الأدب، باب الكِبْر [5724]، واللفظ له، وأبو داود [4818]، وابن ماجة [4177].

(17) ابن حجر: فتح الباري [10/490].