(درونز) الغبية المتوحشة!

وجدت الولايات المتحدة أفضل سلاح لمقارعة خصومها: طائرات من دون طيار (درونز)، تُوجّه عن بعد، أو تُبرمج مسبقاً لأداء ما هو مطلوب منها، وهو في الغالب عمليات قتل لمن تصنفهم واشنطن في خانة الإرهاب. الحملات الجوية واسعة النطاق، والاجتياحات البرية باهظة التكاليف قد تنوب عنها (عمليات جراحية) لا تسفر عن ضحايا في صفوف الجنود الأميركيين كلمة (جراحية) تدخل بالطبع في سياق (تلطيف القبيح)، كما يخبرنا المفكر البريطاني جورج أورويل.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

وجدت الولايات المتحدة أفضل سلاح لمقارعة خصومها: طائرات من دون طيار (درونز)، تُوجّه عن بعد، أو تُبرمج مسبقاً لأداء ما هو مطلوب منها، وهو في الغالب عمليات قتل لمن تصنفهم واشنطن في خانة الإرهاب. الحملات الجوية واسعة النطاق، والاجتياحات البرية باهظة التكاليف قد تنوب عنها (عمليات جراحية) لا تسفر عن ضحايا في صفوف الجنود الأميركيين كلمة (جراحية) تدخل بالطبع في سياق (تلطيف القبيح)، كما يخبرنا المفكر البريطاني جورج أورويل.

أما الأخطاء الناجمة عن هذه (الجراحات)، أو ما تسميه واشنطن (الضرر الرديف) أو (الجانبي)، وهو قتل المدنيين أو غير المستهدَفين، فهو (خطأ) مؤسف، ولكنه (مبرر)، وعند الحاجة، قد تقدم أميركا اعتذاراً عنه، لا يواسي ولا يغني من حزن.

صحيفة النيويورك تايمز نشرت تقريراً دعائياً عن استخدام هذه الطائرات بعنوان: (قائمة قتل سرية تؤكد نجاح اختبار مبادئ أوباما وإرادته)، قالت فيه: "إن أوباما يختار شخصياً بالريموت كونترول من يريد اغتياله بالطائرات من قيادات القاعدة، الأمر الذي يظهره صلباً وعازماً على تدمير أعداء أميركا" (29 أيار- مايو 2012). تومي فيتور، المتحدث السابق باسم البيت الأبيض، قال: "إن هدف طائرات درونز هو المكافحة الجراحية للإرهاب"، مضيفاً أنها: "هي الوضع الطبيعي الجديد بعد انتهاء عصر الحروب البرية الأميركية" (رويترز، 17 آذار- مارس 2013).

نالت باكستان فيما يبدو نصيب الأسد من اعتداءات درونز، صحيفة الغارديان نقلت عن مسؤولين باكستانيين قولهم: "إن بلادهم تعرضت لـ330 غارة من هذه الطائرات منذ عام 2004، أسفرت عن مقتل 2200 شخص وإصابة 600 آخرين بجراح خطيرة، عدد المدنيين الذين قضوا نحبهم ظلماً وعدواناً 400، ووُصف 200 آخرون بأنهم: "مقاتلون مُحتملون" (15 آذار/مارس 2013). في 19 شباط (فبراير) الماضي كشف السيناتور ليدنسي غراهام، عضو مجلس الشيوخ الأميركي (جمهوري)، لأول مرة، عن عدد ضحايا حرب درونز التي تزداد اتساعاً، قال السيناتور: "لقد قتلنا 4700، أحياناً قد تضرب أناساً أبرياء، وأنا أكره ذلك، لكننا في حرب، وقد استأصلنا مسؤولين مهمين جداً في القاعدة".

غير أن دراسة أجرتها جامعتا ستانفورد ونيويورك في أيلول (سبتمبر) الماضي، ونشرتاها تحت عنوان: (العيش تحت درونز)، كشفت أن 2 في المئة فقط من ضحايا الطائرات قياديون عسكريون في القاعدة، وأن القول بأن الضربات ستجعل العالم أكثر أماناً للولايات المتحدة هو في أحسن أحواله غامض، وزير الداخلية الباكستاني أكد ما ذهبت إليه الدراسة قائلاً: "إن 80 في المائة تقريباً من قتلى درونز في بلاده مدنيون، في الأيام العشرة الأولى من عام 2013 قتلت طائرات درونز 40 باكستانياً، 11 منهم على الأقل مدنيون" (موقع روسيا اليوم، الصفحة الإنكليزية، 20 شباط- فبراير 2013، وصحيفة الإندبندنت، 25 أيلول/سبتمبر 2012(.

طائرات درونز إذًا ليست سلاحاً مدهشاً ولا ذكياً، لكن الدعاية تحاول ترويج شعبيتها، والتغني بنجاعتها صارفة بذلك النظر عن الفشل الذريع للولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، الصحافي الأميركي من أصل تركي جانك يوغر يقول، مقتبساً من صحيفة النيويورك تايمز ومصادر أخرى: "إن من أكبر عيوب الطائرات بلا طيار أن ضرباتها تقديرية، حيث لا توجد لدى المهاجمين فكرة عمن يهمّون بقتله، وهذا ما يجعلهم يقصفون حفلات الزواج ويقتلون العشرات من نساء وأطفال، اعتاد الناس في باكستان وأفغانستان على حمل أسلحتهم في حفلات الزواج، وربما أطلقوا النار في الهواء احتفالاً، وتأتي كاميرات درونز لترصد معالم أولئك الإرهابيين المتشحين بالسلاح، فتصب عليهم الحمم وتحرقهم على الأرض".

ويعلق يوغر بالقول: "إذا كنت مرتاحاً لذلك، فهناك فرصة ما لتكون وحشاً"، مضيفاً: "إننا غالباً نطلق طلقات متتالية، نقتل في البدء المقصودين، ثم نقتل الناس الذين هبوا لمساعدة الجرحى.. فإذا لم تكن وحشاً بترحيبك بالإستراتيجية السابقة، فإنك حتماً ستكون وحشاً إذا اتفقت مع هذه (الطلقة التالية)، ومجرم حرب أيضًا" (موقع كمن دريمز، 8 آذار- مارس 2013).

القتل بطريقة (الطلقة التالية) شائع في باكستان، إحدى القصص روتها صحيفة الإندبندنت في 25 أيلول- سبتمبر 2012، حدث الاعتداء في 6 حزيران- يونيو من العام نفسه، في قرية داتا خيل شمال وزيرستان: "أقبلت طائرة درونز الأميركية وحلقت فوق بيت هناك، ثم أطلقت الدفعة الأولى من صواريخها (الجهنمية)، فأحالت البيت فوراً إلى ركام، وعندما هُرع السكان لنجدة أهل البيت، فاجأتهم (الزخة التالية) من الصواريخ، فقتلت 3 مسعفين، ثم (زخة أخرى) بعد 5 دقائق قتلت 3 أشخاص آخرين".

وتضيف الإندبندنت: "أن مجموع القتلى في العدوان الأميركي تراوح بين 17 و24 شخصاً" وتنقل الصحيفة عن كليف ستافورد سميث، مدير منظمة ريبريف الخيرية، قوله: "إن منطقة كاملة تتعرض للإرهاب عبر التهديد المستمر بالموت من السماء"، مضيفاً" "أن حياة سكان المنطقة تنهار الأطفال لا يذهبون إلى المدرسة من شدة الرعب، الكبار لا يحضرون الزواجات ولا الجنائز ولا ملتقيات الأعمال، ولا أي شيء يتضمن الاجتماع مع الناس"، وتنقل الإندبندنت عن سكان وزيرستان قولهم: "إنهم لا يساعدون جرحى قصف درونز، خشية الوقوع في براثن الزخة التالية من صواريخ الجحيم".

تستخدم واشنطن الطائرات بلا طيار في باكستان وأفغانستان والصومال واليمن، وتتجه الآن إلى استخدامها في غرب إفريقيا وسوريا، مجلة يو إس نيوز آند وولد ريبورت نشرت تقريراً دعائياً بعنوان: (فوائد طائرات درونز الأميركية في غرب إفريقيا) قالت فيه: "إن واشنطن أسست في إطار جهودها لمكافحة الإرهاب قاعدة في النيجر لطائرات درونز من أجل مطاردة جماعة أنصار الدين في مالي ذات الصلة بالقاعدة، وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أي) وضعت أيضاً خطة لضرب مقاتلي جبهة النصرة في سوريا بطائرات درونز"، وتقول صحيفة لوس أنجلس تايمز: "إن هدف الخطة حماية الولايات المتحدة وحلفائها في ظل انتشار الفوضى في سوريا" (15 آذار- مارس 2013)، وبحسب وكالة أسيوشيتد برس: "فإن نظام المالكي في العراق طلب بطريقة غير رسمية من الولايات المتحدة ضرب مقاتلي جبهة النصرة في سوريا لتعاونهم، -كما يقول النظام- مع تنظيم القاعدة في العراق"، ويقول موقع (أنتاي وور) -موقع أميركي مناهض للحروب والتدخلات العسكرية الأميركية-: "إن البيت الأبيض قد وجه وكالة الاستخبارات الأميركية إلى توسيع التعاون مع ميليشيات الدولة العراقية، ودعمها من أجل محاربة الموالين للقاعدة هناك، وقطع سيل المقاتلين المتدفقين إلى سوريا" (12 آذار- مارس 2013).

ماذا يعني هذا التوحش والعلو في الأرض؟ إنه يعني الكثير للغارقين في الأحلام الإمبراطورية في واشنطن. الاستمرار في قتل المشتبه بهم عن بعد يحقق أسطورة (البعبع) التي تغذي الشعور بالبقاء، وتسوّق الهيمنة، وتبرر التوسع في الإنفاق على الدفاع، يحظى استخدام هذا السلاح بشعبية في الداخل الأميركي، لأنه يُقدم بوصفه (إنسانياً)، قليل التكلفة، ولا يسقط بسببه قتلى من الأميركيين.

"القوة هي الحق" كما يقول المثل الأميركي، وطائرات درونز ترضي غرور القوة القادرة على الإثخان في الأرض، وحماية أميركا من شرور الإرهاب ولو إلى حين.
كان العنف في الثقافة السياسية الأميركية وما زال ممارسة تقليدية تغذي الشعور بالسيطرة والفرادة، وتمنح شعوراً زائفاً بالأمان، كما أنه وسيلة لترويج شعبية السياسي وصرف الأنظار عن إخفاقاته.
لكن الحقيقة أن أميركا وهي تتوسع في استخدام طائرات درونز، لا تتوسع إلا في أخطائها ومغامراتها، ولا ريب أن لدى خبراء القانون الدولي والعلاقات الدولية الكثير من الأدلة التي تصنف مثل هذه الاعتداءات (جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية).

ويبقى دورنا نحن سكان هذه المنطقة، في رفض هذا المسلسل الدموي العبثي الذي تمثله (درونز) الغبية المتوحشة.
 

أحمد بن راشد بن سعيد