خسارة أهل النفاق

وما كان لأهل النفاق أن يعيشوا في راحةٍ وطمأنينة، فحياتهم كلّها توجّس وريبة.

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية - تربية النفس - تزكية النفس - مساوئ الأخلاق -

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104]، تتحقّق الآية الكريمة على فئاتٍ كثيرة من البشريّة، ويأتي الوصف صادقاً ومطابقاً لحال المنافقين، فهم عندما سلكوا طريق النفاق ظنّوا أن في مخالفة ظاهرهم لباطنهم، وفي الازدواجيّة التي يعيشونها: ذكاءً ودهاءً يُخفون به كفرهم وجحودهم وعنادهم، ويتمكّنون من خلاله التعايش مع ما لا يدينون به من الهدى والصلاح والرشاد.

مساكين أهل النفاق، صلّى المسلمون فصلّوا، وزكّى المؤمنون فزكّوا، بل قدّم الناس أرواحهم وجعلوها تحت الرماح والسيوف، فاضطّروا في كثيرٍ من الأحيان أن يسيروا مع الناس كيفما ساروا، حريصين على النفاذ من هذه المعارك الفاصلة بين الحق والباطل، والتي لا تعنيهم من قريبٍ ولا من بعيد، بسلامٍ وأمان.

ولنا مع هذا الموضوع وقفة على آثار النفاق الكارثيّة، والأضرار التي تحيق بالنفاق وأهله، حتى تستبين (الأخسريّة) الحاصلة في موقفهم من الإيمان.

إن النفاق يوجب لعنة الله تعالى والطرد من رحمته، والخلود في الجحيم، كما قال عز وجل: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة:68]، وفي سورة الأحزاب: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا . مَلْعُونِينَ} [الأحزاب من الآية:60-61]، ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن حكم عليهم ربّهم بالطرد من رحمته، والإبعاد عن دار نعيمه وجنّته.

وعلى الرغم من اجتماع الكافرين والمنافقين في جهنّم جميعاً –كما جاء في آيات القرآن الكريم-، إلا أن المنافقين في أسفل الدركات من العذاب، وأسوأ الحالات من العقاب؛ لأن جهنم منازل تتفاوت آلام أهلها وأحوالهم في الشقاء، فليسوا على حالٍ واحد، قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]، ومثل هذه الآية تدلّ على أن قلوب المنافقين قد تمحّضت في السواد، فأنزلها الله المنزلة اللائقة بها. 
وما كان لأهل النفاق أن يعيشوا في راحةٍ وطمأنينة، فحياتهم كلّها توجّس وريبة، يخشون أن تفضحهم فلتات ألسنتهم لتكشف عن مكنونات أنفسهم، ويخافون أن تتنزّل الآيات من السماء فتفضح حالهم: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} [التوبة من الآية:64]، وقد جاء عن مجاهد في تفسير هذه الآية قوله: "كانوا يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله ألا يُفْشي هذا علينا"، ومن خوفهم وفزعهم، وسوء ظنهم، وقلّة يقينهم، والريب الذي استوطن قلوبهم، ترتعد فرائصهم كلما سمعوا صيحةً فظنّوها تكشف حالهم؛ لأنهم على خوفٍ دائم أن ينزّل الله فيهم أمراً يهتك به أستارهم، ويجلّي حقيقتهم، ويبيح للمؤمنين قتالهم، وهم يدورون في فَلَك هذه المخاوف والهواجس أبداً. 

وإذا كان لأهل النفاق أعمالٌ صالحة، فليس لهم منها سوى التعب والنَّصَب، كسرابٍ في صحراء يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجدْه شيئاً، وكيف يتقبّل الله منهم وقد أبْطنوا الكفر وأسرّوا الجحود، وليس لهم قصد صحيح، ولا نيّةٌ صالحة، ولا همّةٌ في العمل؟ {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:53-54].

والأدهى من ذلك: أن ما آتاه الله لأهل النفاق من الصحة والمال والولد، فليس النعيم فيه خالصاً سائغاً، بل إن الكَدَر فيه يغلب على لذّته فلا يصفو لهم، حتى إنهم يتعذّبون به في الدنيا قبل الآخرة، وذلك بالتعب في جمعه، والوَجَل في حفظه، والكُرْه في إنفاقه، والخوف على فقدانه، وضرورة الإنفاق منه على نحو ما يفعله أهل الإيمان من الصدقات والزكوات وإلا أنفضح حالهم! ولا ينفكّ الأمر عن العقوبة بالنقصٍ في الأموال والأنفس والثمرات، وفوق ذلك كلّه: عذابُ الآخرة الأخزى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
ومهما كان حال المؤمن من العصيان ومقارفة الذنوب، فإنّه يرجوا من صلاة المؤمنين عليه شفاعةً وتخفيفاً، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ميّت تصلّي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مائة، كلّهم يشفعون له، إلا شُفّعوا فيه» (رواه مسلم)، وغيرها من الأحاديث الدالة على استحباب الصلاة على الجنائز، في حين أن أهل النفاق محرومون من هذه الفضيلة؛ لأن هذا الباب من أبوابِ الخير مقفلٌ في وجوههم لورود النهي الصريح الواضح من الصلاة عليهم أو الاستغفار لهم: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} [التوبة من الآية:80].

وإذا كان يوم القيامة، حين تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات، وتُوضع الموازين، ويُنصب الجسر على متن جهنم، فيظنّ أهل النفاق أنهم قادرون على اجتياز الصراط، فيُفاجؤون بأمرٍ عظيم، فإن الناس تغشاهم ظلمةٌ شديدة، ثم يقسم النور فيُعطى المؤمن نوراً على قدرِ إيمانه، فيستبشرُ به لأنه يعلمُ أنّ به نجاته، ويترك الله الكافر والمنافق فلا يُعْطَيَان شيئاً، ويبقون في ظلمتهم حائرين، يستنجدون بالمؤمنين أن يتمهّلوا في سيرهم كي يستفيدوا من نورهم، ولكن هيهات: يحول الله بين الفريقين، وتفاصيل هذا المشهد المُرعب بيّنته سورة الحديد غاية البيان: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ . يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ . فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:12-15].

قد خسر أهل النفاق، وضيّعوا أنفسهم، وضلّوا عن سواء السبيل، واستحقّوا بأفعالهم المشينة، وعقيدتهم الخبيثة، عداوة أهل الإيمان لهم، نسأل الله العصمة والنجاة، والفوز والفلاح.

المصدر: الشبكة الإسلامية