قصة التبت
راغب السرجاني
يبدو أن الأقليات الإسلامية المنتشرة في أنحاء العالم قد أصبحت كالأيتام على موائد اللئام، هذا ما تبيَّناه في قصة كوسوفا، وما نتبيَّنه اليوم من قصة المسلمين في التبت.
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
يبدو أن الأقليات الإسلامية المنتشرة في أنحاء العالم قد أصبحت كالأيتام على موائد اللئام، هذا ما تبيَّناه في قصة كوسوفا، وما نتبيَّنه اليوم من قصة المسلمين في التبت. وإذا كانت أوربا قد حملت عداوة تاريخية للدولة العثمانية لأنها هزمتها، وأخضعت الكثير من الأراضي والممالك الأوربية؛ فإننا لا ندري سببًا لما يحدث للمسلمين في هضبة التبت، التي دخلها الإسلام عن طريق جيرانها، والتجار من المسلمين الذين كانوا يأتون للتجارة في هذه البلاد النائية.
أوضاع التبت
وبدايةً لا بُدَّ من التعرف على أوضاع التبت نفسها؛ فهي تقع في منطقة منعزلة تحاصرها الجبال في وسط القارة الآسيوية، وتحدُّها الصين من الشرق، والتركستان الشرقية من الشمال، وكشمير من الغرب، والهند من الجنوب. أمَّا مساحة التبت فإنها تبلغ مليون و221 ألف كيلو متر مربع، وعدد سكانها نحو ثلاثة ملايين نسمة، منهم ربع مليون مسلم، وعاصمة التبت تُسمَّى (لاسا).
ظلَّ الغموض يحيط بالتبت فترة طويلة من الزمن؛ بسبب ظروفها الطبيعية وتعقيد تضاريسها ووعورة مسالكها وكونها منطقة معزولة عن العالم الخارجي؛ لذا أطلق عليها بعض الجغرافيين الأوربيين (قلب آسيا الميت). وكانت بلاد التبت تخضع لحكم الصين في فترات قوَّتها، وتنفصل عنها في فترات ضعفها، وبعد الحرب العالمية الأولى قَوِي الشعور القومي عند أهل التبت، فانفصلت التبت عن الصين، وفي عام 1343هـ/ 1924م استعادتها الصين، ثم طردت حاكمها المسمَّى الدلاي لاما في عام 1371هـ/ 1951م، وأصبحت التبت ولاية صينية منذ ذلك الوقت. والدلاي لاما هو الزعيم الروحي للبوذيين في التبت، وقد جعل منه الغرب قائدًا وزعيمًا، وتبنَّوه وأظهروه إعلاميًّا؛ لكي يستطيع الغرب التدخُّل في شئون الصين الخَصْم العنيد للغرب.
كيف وصل الإسلام إلى التبت؟
أما عن كيفية وصول الإسلام للتبت؛ فقد وصل الإسلام إلى بلاد التبت عن طريق جيرانها، وسلك إليها من التركستان الشرقية التي تحتلها الصين بالقوَّة، وتسمِّيها (سي نكيانج)؛ في محاولة لإخفاء إسلاميتها. وصل الإسلام التبت مبكرًا وقد بدأت العلاقات الإسلامية مبكرة مع سكان التبت، وكان المسلمون الأوائل أصدقاءَ لأهل التبت؛ إذ وصل الإسلام إلى الحدود الغربية لبلاد الصين في نهاية القرن الأول الهجري، عندما فتح المسلمون (كاشغر)، وهي لا تبعد كثيرًا عن بلاد التبت. وفي عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أرسل أهل التبت وفدًا إلى الجرَّاح بن عبد الله والي خراسان يلتمسون منه أن يبعث إليهم من يفقِّههم في الدين الإسلامي، ويقال: إنه أرسل إليهم سليط بن عبد الله الحنفيّ لذلك الغرض. كما كانت هناك صلات طيبة بين الخليفة المهدي العباسي وملك التبت، وقيل أيضًا: إن أحد ملوك التبت أسلم في عهد الخليفة المأمون العباسي. وكانت تلك جهودًا بذلها المسلمون لبثِّ الدعوة الإسلامية في بلاد التبت عن طريق وسط آسيا، وكان ذلك كله هو المحور الأول لوصول الإسلام إلى التبت.
وأما المحور الثاني في نقل الإسلام إلى أهل التبت، فتمثَّل في وصول الإسلام عن طريق جارتها الغربية كشمير، بعد أن خضع شمال الهند للنفوذ الإسلامي. فقد غزا الحكام المسلمون بلاد التبت أكثر من مرة بداية من عام 930هـ/ 1523م، ولكن الأمر لم يقتصر على الغزو، فلقد وصل الدعاة المسلمون إلى التبت من بلاد كشمير وبلاد خراسان ووسط آسيا، وظلَّ الإسلام يُحرِز تقدُّمًا في بلاد التبت حتى النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري. ويوجد في ولاية (لداخ) بالتبت عدد من المولَّدين يطلق عليهم اسم (الأرغونيين) من أمهات تبتيات وآباء مسلمين من التجار الذين قَدِموا إلى هذه الولاية، وتزوَّجوا من نساء التبت بعد إقناعهِنَّ بالإسلام، وهؤلاء جميعًا مسلمون. ولقد فعل الجيل المولَّد كما فعل آباؤهم فتزوجوا من نساء التبت وكوَّنوا أسرًا مسلمة، وعملوا في سبيل نشر الإسلام، ثم شقَّ الإسلام طريقه من بلاد التبت إلى الولايات الصينية المجاورة. وكل هذا يعكس اندفاع المسلمين الأوائل لنشر الإسلام في كل مكان، ورغبتهم الحميمة في هداية البشر. ويعكس أيضًا أخلاقهم الحميدة في كل شئون حياتهم؛ مما جذب غير المسلمين من التبت وغيرها للدخول في دين الله. وإضافةً إلى ذلك يعكس رغبة المسلمين في التعايش مع الأمم الأخرى؛ مصداقًا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
الاحتلال الشيوعي واضطهاد المسلمين
وعندما استولى الشيوعيون على حكم الصين ضموا التبت إليهم، وقد كان للمسلمين في التبت دور وطني عظيم في مقاومة الاحتلال الصيني سنة 1924م، ولكن الصين كانت تتصف بالقوة العاتية في مواجهة العدد القليل، والأسلحة الضعيفة لأهل التبت؛ فمات الآلاف من المسلمين نتيجة بطش الشيوعيين الصينيين. وكان أول شيء فعله الصينيون إبَّان فترة الحكم الشيوعي السابق، هو سلب المسلمين حريتهم في ممارسة عقيدتهم الدينية، وسلبهم جميع الامتيازات والتسهيلات التجارية الحرة؛ فأغلقت مؤسساتهم مثل المدارس والمساجد، ولم يسمحوا لهم حتى بأبسط الحقوق كدفن الموتى وفقًا للتقاليد الإسلامية، وفُرض عليهم حظر السفر في البلاد، وتم تجميد ما امتلكوه من سلع، واستمر موقف الصين من المسلمين في التبت عدائيًّا، كما اشترطت السلطات الصينية على المسلمين التبت أن يتخلّوا عن ممتلكاتهم الشخصية مقابل الهجرة إلى أية بلاد إسلامية. كما فرضت عليهم قيودًا ومقاطعات جماعية، إلى جانب منع الناس من بيع أي شيءٍ للمسلمين، فلاقى الكثير منهم حتفهم، كهولاً كانوا أو أطفالاً بسبب المجاعة.
وفي أواخر 1959م استطاع مئات من المسلمين الهجرة إلى الهند في بلدانها الحدودية مثل: (دار جلينغ) و(كاليم بونغ) و(نمانتوغ)، ومنها صاروا يتجهون إلى كشمير بين الفترة من 1961م إلى 1964م. واستطاعوا فيما بعد أن يكوِّنوا جمعية لرعاية مسلمي التبت المهاجرين، والتي تكوَّنت بالفعل بمساعدة العالم الإسلامي، وتم بناء 144 مسكنًا ومسجدًا واحدًا تم الانتهاء منه عام 1985م، وهذه المساكن لم تكفِ حاجة المسلمين. ولولا تلك الظروف القاسية لكان عدد المسلمين في الازدياد بين سكان بلاد التبت، ومع ذلك يقيم في مدينة (لاسا) العاصمة وحدها نحو أربعة آلاف أسرة مسلمة.
صحوة إسلامية واضطهاد بوذي
تشهد التبت صحوة إسلامية قوية ويشهد الإقليم صحوة إسلامية ملحوظة، إلى حد إعلان أكثر من 200 ألف شخص إسلامهم بعد العثور على وثائق تاريخية تشير إلى أصولهم العربية. وقد تعرَّض الحي الصيني في إقليم التبت الذي تسكنه أقلية (الهوي) المسلمة إلى اعتداءات جسيمة؛ تم فيها إحراق المسجد الكبير بالعاصمة (لاسا)، وكذلك إحراق سبع مدارس وخمسة مستشفيات و120 منزلاً، تقع جميعها ضمن أملاك المسلمين. كما تم إحراق حوالي 84 سيارة، ونهب 908 متاجر. وقدرت الخسائر بأكثر من 244 مليون يوان (حوالي 34.59 مليون دولار أمريكي). وذلك كله خلال أعمال الشغب التي وقعت بين الرهبان البوذيين ومؤيديهم من المتظاهرين التبتيِّين البوذيين وقوات الأمن الصينية؛ وذلك للمطالبة بإنهاء السيطرة الصينية على الإقليم والتي تعود لعقود خلت، ولكن المتظاهرين استغلوا المظاهرات ودعوات الاستقلال في تصفية أحقاد دينية ضدَّ المسلمين، وهو ما تجاهلته وسائل الإعلام الغربية أثناء وقوع تلك الأحداث؛ حيث ركزت على متابعة تظاهرات أتباع الدلاي لاما من البوذيين فقط؛ وهذا ما يبرز تعدُّد المكاييل الخاصة بحقوق الإنسان لدى الغرب، ومنظمات حقوق الإنسان.
وقد حاولت الشرطة الصينية إنقاذ ممتلكات المسلمين في الإقليم؛ وذلك بإغلاق الأحياء الإسلامية في (لاسا)، وحظرت دخول الأحياء إلا للمصلين أو لسكان المنطقة من أقلية (الهوي) الصينية المسلمة التي يجيد أفرادها إدارة التجارة في الإقليم؛ حيث يديرون محلات الجزارة ويعملون ببيع الهواتف النقّالة وشبابيك الصرف الآلي وتجارة مواد غذائية وإدارة المطاعم. وربما كان موقف الشرطة الصينية نتيجة قوة المسلمين الاقتصادية؛ مما ينصبّ على حجم الضرائب التي تصل لأيدي الإدارة الصينية، أو لرغبتها في عدم توسيع نطاق المواجهة مع العالم بتحييد العالم الإسلامي في المواجهة بين الصين والغرب.
تقصيرنا نحو إخواننا
إننا لا نستطيع توجيه اللوم للغرب في إهماله لما أصاب المسلمين في التبت؛ فهذا عهدنا به، وهذا هو مقتضى العداوة والحرب الصليبية الدائرة منذ مئات السنين، ولكننا نوجه اللوم إلينا -نحن المسلمين- حكامًا ومحكومين؛ لأننا أهملنا إخواننا في العقيدة رغم كل ما يواجهونه. إن المسلمين في التبت وفي كوسوفا والبوسنة، فضلاً عن العراق وفلسطين، ضحيةٌ لتخلِّي أغلب المسلمين عن أداء ما افترضه الله عليهم من واجب الأخوَّة. لقد كان وجود الإسلام والمسلمين في التبت مفاجأة لكثير من المسلمين؛ فكيف يَنصر هؤلاء إخوانَهم إنْ لم يكونوا يعلمون بوجودهم؟! وقد أجرينا على موقعنا استبيانًا حول متابعة المسلمين لأخبار التبت أثناء اشتعال الأزمة، فكانت النتيجة أن نسبة مَن يتابعون أخبار التبت بقوة تبلغ 1.8%، ونسبة من يتابعونها قليلاً 8.5%، في حين كانت النسبة الغالبة لمن لا يعلمون عن التبت والمسلمين فيها شيئًا؛ إذ بلغت نسبتهم 89.7%. إن هذه النتيجة تعبر بلا شك عن تقصير بالغ من المسلمين نحو إخوانهم، وهو ما يقتضي تغيير أسلوب حياتنا كلها، وإعادة ترتيب أولوياتنا؛ لنضع نصرة الإسلام والمسلمين، والدفاع عن قضاياهم في مرتبته الواجبة. نسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.