(09) ما أصعب الفراق

محمد عطية

  • التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -

جالس -كعادته- بالسيارة في حجر أُمّه، منتشٍ -كعادته أيضًا- بالخروج من البيت.. عابث بكل ما تطوله يده.. تعوَّدت سماع هذا الحوار الجميل بينهما أثناء قيادتي:

- أُمّه كافة يده: بس يا حبيبي..

- هو غاضِبًا: دِدَّاااااااا

- أُمّه متعالية نبرتها: الله يهديك يا ولد فتحت الباب..

- هو لا يعبأ..!

- أُمّه محاولة التصبر: يبني بتنزل الإزاز ليه؟!

- هو مُقبِلٌ على أمره لا يلتفت..

- أُمّه وقد فاض بها الكيل: شوف حل في ابنك ده!

أسترق نظرة إليه في عتب حانٍ، فيبتسم كأنه حقق ما أراد، ويمد يده راغبًا الجلوس في حجري، أو العبث بعجلة القيادة والعصي من حولها في الحقيقة! ألتفت عنه منشغلًا بالطريق، فيُنفِّذ غضبه في تلك المسبحة المعلقة بالمرآة، والتي يستفزّه تأرجحها يمنة ويسرة.. لا يمضي وقت طويل حتى يتخدَّر تحت تأثير المكيف، ويخلد لنومة سريعة في حضن أُمّه.. يستيقظ بعدها عند بلوغ وجهتنا، ويتكرَّر نفس المشهد في العودة بصورةٍ أعنف؛ لأنه يدري أننا عائدون للبيت!

هذه المرة كان الأمر مختلِفًا مع أنس.. لا أدري كيف تسرَّب لخاطره أنه وأُمّه لن يعودا معي، وإنما أنا ذاهب لتوديعهما!

تُرى أبسبب تلك الحقيبة التي توسّطت الغرفة منذ يومين، مُعيقةً خط سيره بعربته الصغيرة، وقد رآني أضعها في السيارة قبل أن يركبا؟!

أم تراه فهم كلام أُمّه وهي تُلبِسه الطقم الجديد ممازحة له: "أنس رايح مصر"؟! أيًا ما كان السبب، فالصغير على غير عادته صامت في دهشة.. مسندًا ظهره لصدر أُمّه، يراقب الطريق وكأنه لا يريده أن ينتهي؛ فبعده وداع ودموع!

وصلنا المطار.. وإذا بالصغير عينه زائغة يمنة ويسرة.. لفت نظره كم الحقائب المشابهة لتلك الحقيبة التي ضيَّقت عليه طريقه! شحنت الحقيبة مع الأمتعة، فاستبشر الصغير، وعاد يداعبني.. أخذته في حضني لأطمّئنه، أو لأُصبِّر نفسي! عاد لمناغاته ومراقبة الوجوه الهائمة في زحمة المطار..

في قسوة وداعه، وروعة اللقاء فيه.. دومًا ما ينجذب أنس لأقرانه وينجذبون له، وكأنها لغة الفطرة النقية بينهم، التي لا نفهمها نحن!

وصلنا للوحة (المسافرون فقط).. وهنا قطَّب الصغير جبينه لما رأى زهرة تكبره بعام أو يزيد قليلًا، وقد طوَّقت أباها بذراعيها الصغيرين، وبلَّلت كتفيه بدموع وداعها.. عبثًا يحاول أبوها التجلُّد، وعبثًا تحاول أُمّها المسافرة معها فك ذراعيها الملتفين حول رقبة أبيها!

بكيت لهذا المشهد قبل أن ينفطِر قلبي لوداع أنس.. مرّ الأمر كطيف غير مرحّب به.. وسط وجوم الصغير ودهشته، احتويته في حضني، وطبعت على كل ما طُلته منه قبلاتي، ثم استودعته وأُمّه اللهَ الذي لا تضيع ودائعه..

تلقفته أُمّه بسرعة كما أوصيتها في البيت ومرّت به مجاوزة الحواجز.. ولَّتني ظهرها، مقاومة الضعف في عيني وعينها، لكن ثمة عينين صغيرتين تراقباني من فوق كتفها..

لِمَ تصرّ على تعذيبي يا أنس؟! لِمَ ثبتَّ عينيك على غير عادتك في اتجاهي فقط؟! يا لله ما أقسى (وحي نظرتك) هذه المرة! قرأتُ في عينيك عِتابًا ونِداءً ووداعًا..

عِتابًا لم تركتنا يا أبي ولن نعود معك للبيت؟!

نداءً فلتأتِ معنا إذن..

ووداعًا أراك على خير يا أبي!

أغرقتني يا ولدي! في نظرتك هذه، وغبتما عن عيني وسط الدموع، قبل أن تغيبا وسط الزحام..

تجرأت أُمّك على بُعدٍ لتلتفت لي، وتلتفت أنت معها مُلوِّحة بكفها وكفك قبل صعود الطائرة.. لم تلبثا أن تواريتما حتى أنكرت والله كل ما حولي..! لا الطريق بالذي أعرف، ولا البشر هم البشر، ولا حتى سيارتي كما هي..

متثاقلة بدأت التحرُّك معي، وكأنها تريد تنبيهي لقد تركت بعضك هنا!

ووصلت البيت.. يا للبيت.. ما أقساه بعد أن كان ري روحي وجمع شتاتي.. ما أبرده بعد أن كان نابِضًا بدفء المودة والرحمة..

يتسلَّلُ صمتٌ قاتل لأركانه التي طالما ضحكت لضحكك، وانتشت لعبثك ولهوك.. لم تقابلني هذه المرة خطواتك الصغيرة المتسارعة بعربتك لتلقاني على الباب مادًا يديك، طامعًا في تلك الرفعة التي تكاد تلامس بها السقف.. بل ها هي عربتك منكَّسة في الزاوية، تأبى حتى أن تلقاني بوجهها!

ها هي ألعابك مجموعة في حقيبة، كأنها جثة في كفنها، وقد كانت تنبض معك حياة وسرورًا! كل ما في البيت يلومني.. يرفضني.. فقط يشاركني حزني، لا يحاول التخفيف عني.. ماذا فعلت لترتبط بك الأشياء هكذا يا أنس؟!

هل لالتقائكما في عدم جريان القلم والتلطخ بالذنوب؟! ربما.. أين ضجيجك الحاني يؤنس أباك في صمت وحدته؟!

أين دفء الجدران، وهي تبث الصقيع في أعماقي الآن؟!

أين ريح البنوة أشتمه فيك، ليزيل عني عناء الأيام وأكدار الدنيا؟!

أتدري يا أنس! أرى الحروف ساخرة مني لا تريد الإكمال معي، وحُق لها.. أنا يا ولدي! أتجرَّع هذه الأشجان وبين يدي الآن تذكرة لحاقي بك بعد شهر بإذن الله، بل وتذكرة عودتنا سويًا للبيت! سخِرت مني الحروف أن أحيا كل هذا وموعد اللقاء -بإذن الله- محدَّد، فكيف يحيا من حُرِمَ أحبابه للأبد، أو حُرِمَهم إلى حين لا يدري أيطول أم يقصر؟!

كيف يحيا أبٌ فزِع من نومه على قذفٍ أحال غرفة نوم صغاره لكومة حجارة ملطخة بدمائهم؟!

كيف تحيا أَمٌ غُيِّبَ ولدها في غياهب السجون والمعتقلات، لا تدري حي هو أم ميت؟!

كيف يذوق النوم أسير بعد زيارة فُصِلَ بينه وبين أهله خلالها سلك مقيت ظالم كظلم الطواغيت.. اتسع ثقب فيه لبنان ابنته الصغيرة مدته فقط لتلمس كف أبيها؟! أتدري يا ولدي؟! مادام أمثال هؤلاء في دنيانا، سنبقى خجلانين منهم ومن أنفسنا..

اللهم يا رب.. فك أسر المأسورين، وأطلق من بظلمٍ مسجونين، واربط على قلوب الأرامل والثكالى والمقهورين..

اللهم واجمع شمل المتباعدين، ورُدَّ المغتربين لذويهم سالمين، واحفظنا في أنفسنا وأهلينا وذرارينا، والمسلمين أجمعين..

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام