ذوو اللحى الشقراء
محمد العبدة
جاء الأمل وبصيص الضوء من أخوين كانا يعملان في البحر يحبان المغامرات والمخاطرات، وكثيراً ما ساعدا بالسفن القليلة التي معهما على هجرة المسلمين من الأندلس، كانا شابين من أسرة تركية ولدا في جزيرة (مدلي) بالقرب من الساحل التركي، ركبا البحر وأتقنا فَنَّ قيادة السفن
- التصنيفات: التاريخ والقصص - التاريخ الإسلامي -
انتصارات البحرية الإسلامية
نُكِب المسلمون في الأندلس بعد أن قاتلوا عن كل بلدة وكل حصن،غير طامعين بأدنى مساعدة من الخارج، وسقط آخر حصن للمسلمين (مدينة غرناطة) عام 1429م، وأُجبِرَ المسلمون على الهجرة، وأما الذين بقوا في الأندلس فقد تعرضوا للتنصير بالقوة ولمحاكم التفتيش. كانت فاجعة لم يتحسسها كثير من المسلمين في المناطق الأخرى، ولكن المسلمين القريبين من أهل المغرب والجزائر وتونس تطوعوا للمساعدة. وكان من نتائج ذلك أن زادت ضراوة الأسبان وانفتحت شهيتهم على الاحتلال، وأول الانتصار يغري بآخره، وبدأت حملات بحرية وراء حملات لم تنته إلا بعد قرون.
وكانت مدن الساحل المغربية والجزائرية هي المطمع لأسبانيا والبرتغال، فاحتلت البرتغال مدن: سبتة وطنجة وأصيلا على الساحل المغربي، واحتلت أسبانيا المرسى الكبير (وبجاية) و (وهران) من مدن الساحل الجزائري.
وفي وهران دارت مذبحة رهيبة داخل المدينة سقط فيها أكثر من (400) مسلمة ومسلم، ورغم ذلك استمرت فلول المجاهدين في المقاومة لمدة خمسة أيام حول المسجد الكبير ولم يتوقف القتال حتى قضي على المجاهدين ،وانطلقت القوات الأسبانية تقتل وتأسر وتنهب، وزاد عدد الأسرى عن ثمانية آلاف وهذا مثال لما فعلته أسبانيا في كل المدن الأخرى.
في هذه الفترة توحدت كثير من مناطق أوروبا (أسبانيا، النمسا، هولندا، بلجيكا.. ) تحت قيادة (شارلكان) ملك أسبانيا (1500-1558) وأسست الاكتشافات الجغرافية في الأرض الجديدة (أمريكا) قاعدة مادية للتقدم الأوروبي، فاجتمعت القوة المادية وملك قوي (شارلكان) والبابا (بورجيا) الذي كان ينسق بين دول أوروبا ويعقد المعاهدات والتحالفات، ويقابل ذلك دول صغيرة أنهكتها الحروب الداخلية في تونس والجزائر والمغرب. كان الوضع خطيراً ومأساوياً.
جاء الأمل وبصيص الضوء من أخوين كانا يعملان في البحر يحبان المغامرات والمخاطرات، وكثيراً ما ساعدا بالسفن القليلة التي معهما على هجرة المسلمين من الأندلس، كانا شابين من أسرة تركية ولدا في جزيرة (مدلي) بالقرب من الساحل التركي، ركبا البحر وأتقنا فَنَّ قيادة السفن، والذي بدأ بهذه المغامرات الأكبر واسمه (عُروج)، والثاني (خسروف) وسماه المغاربة خير الدين. وقد أطلق الأوربيون عليهما اسم (برباروس) أو ذي اللحى الشقراء، واشتهر بهذا الاسم الثاني منهما خير الدين برباروس (1470-1547)م وبعد مغامرات في البحر اتفقا مع حاكم تونس على اتخاذ قاعدة بحرية (حلق الوادي) على الساحل التونسي لتكون منطلقاً لأعمالهما.
بعد ان احتل الأسبان مدينة (بجاية) على الساحل الجزائري، شعر أهل بجاية بقوة هذين الأخوين فاستنجدوا بهما ، وقد لبّى الأخوين النداء، واجتمعت قوة إسلامية بحرية وبرية لمحاصرة هذه المدينة، ولكنها لم تنجح لقوة استحكامات العدو، فتوجه عُروج إلى مدينة (جيجل) وكانت أول مدينة ساحلية يحررها عُروج، سمع أهل الجزائر بقوة عُروج وأخيه وإخلاصهما في تحرير المدن الإسلامية، فجاءوا يطلبون المساعدة لتحصين المدينة قبل مجئ الأسبان لاحتلاها، ولبّى عروج مرة ثانية نداء أهل المدن الساحلية، فجاء بالقوات البرية وأخوه بالقوات البحرية، واستُقبِل في الجزائر استقبال الفاتحين، وبايعه أهل الجزائر أميراً للجهاد، كان ذلك عام 922هـ- 1516م.
حاولت أسبانيا في السنة نفسها احتلال الجزائر ولكنها أخفقت إخفاقاً ذريعاً، وانتصر المسلمون بقيادة عُروج على الجيش الأسباني، فجاء أهل تلمسان يستنجدون لتخليصهم من سلطانهم الخائن (أبو حمو الزياني) الذي يعتمد على الأسبان ويساعدهم، وكانت فرصة لتحرير الغرب الجزائري وتوحيده مع العاصمة. ودخل عُروج بجيشه من الأتراك والجزائريين إلى تلمسان ولكنه حوصر من قِبَلِ الأسبان، ودافع عن المدينة في معركة قاسية استمرت ستة أشهر، وبسبب التفوق الساحق للأسبان قرر الانسحاب لتجميع الصفوف مرة ثانية، ولكن القوة الأسبانية حاصرته ولم يبق معه إلا عدد قليل من رجاله، وأخيراً بقي وحده وقاتل بعناد وتحولت إلى مبارزة مع القائد الأسباني (غارسيا دي لابلازا) وسقط الاثنان بضربتين قاتلتين.
كان قتل عُروج رنة أسى في صفوف المسلمين، ولكنها لم تفل من عزيمة أخيه خير الدين، وبايعه أهل الجزائر على إمارة الجهاد وقرر الاستنجاد بالدولة العثمانية، واستجابت الدولة وأرسلت مدداً من السفن والسلاح.
قرر الملك (شارلكان) أخيراً أن يقود المعركة بنفسه لاحتلال الجزائر، فجهز حملة كبيرة جداً تضم (30) ألفاً من المقاتلين وبينهم متطوعين ونبلاء من ألمانيا وإيطاليا، حملتهم (50) سفينة ما بين حربية ومدنية، واستنجد شارلكان بالقائد الإيطالي المشهور (أندرويا دوريا) الذي تولى قيادة القوة البحرية. وقد بارك البابا يوحنا الثالث هذه الحملة على بلاد المسلمين .
وفي فجر 23 أكتوبر 1541م نزل الإمبراطور شارلكان على أرض الجزائر، وطوق المدينة وحاصرها وحاول إقناع أهلها بالاستسلام، ولكن المجاهدين أصروا على المقاومة وتدفقت على المدينة فرق من المقاتلين المجاهدين تناوش الجيش الإمبراطوري، وانهزمت الفرقة الإيطالية أمام صمود المجاهدين وشدة بأسهم، واضطربت أحوال الجيش الأسباني، وقد ضرب المسلمون السفن، وجاءت أمطار شديدة وعواصف عاتية بحيث لم يستطع (أندوريا) مساعدة الإمبراطور بل نصحه بالانسحاب، وفعلاً انسحب شارلكان إلى مدينة ساحلية قريبة، وأمضى (14) يوماً في مدين (بجاية) وغادرها في 16 نوفمبر 1541م. وبلغت خسارة الأسبان (170) سفينة و(200) مدفع و(12)ألأف مقاتل.
وتقديراً لهذا النصر العظيم أصبح خير الدين قائداً عاماً للأسطول العثماني كله، ولكنه ظل يمارس القيادة الفعلية ومهاجمة المدن الإسبانية وجز البحر المتوسط، ولم يعش بعد ذلك طويلاً وتوفى في استانبول عام (1547) رحمة الله عليه. استطاع هو وأخوه عٌروج مجابهة الهجمة الأوروبية في أشرس مراحلها واستطاعت مدينة الجزائر الصمود أمام قوة أوروبا. لقد أظهر عُروج وخير الدين بطولة ليس في الجانب العسكري فقط، بل في الجانب السياسي حينما ارتفعا بالأحداث إلى موقعها الحقيقي من حرب دفاعية محدودة إلى مستوى المغرب العربي كله إلى ارتباط بالدولة العثمانية لتكون القضية إسلامية عالمية.
إن أوروبا -على طريقتها المعتادة- كانت تسمي هذين الأخوين عُروج وخير الدين، تسميهم (قراصنة) وكان اسم (برباروسا) يثير الرعب في قلوب أهل أوروبا لمدة طويلة، لم يطلبا رئاسة ولا مالاً من أهالي المدن الغربية، وكانا بطلين من أبطال الإسلام (رحمهما الله تعالى).
من كتاب (وذكرهم بأيام الله) للدكتور محمد العبدة ص 101 ،والكتاب من إصدارات كتاب البيان رقم 40.