رواحل تحيي الأمة (1)

محمد المصري

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله - الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة -

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعد:

فهذا المبحث هو أحد الملفات المفتوحة (لإحياء الأمة الإسلامية) وبعثها مرة أخري بإذن الله من ركودها وغثائيتها، لتتسلم مرة أخري ركاب البشرية، وموضوع هذا المبحث هو عن تعريف الأمة والسمات التي تميز الأمة الإسلامية عن غيرها ثم عرّجت إلى تعريف الرواحل ودورهم في المبادرات الذاتية وتكوين فرق العمل الدعوية التي تعمل على إحياء الأمة، وفي الخاتمة ذكرت معالم في طريق الإحياء الإسلامي.

 ولم أتعرض في هذا المبحث للعوامل التي أدت إلى غياب دور الأمة ولا الانحرافات التي أدت بالأمة للوصول إلى هذا المنحدر، فقد تكفلت أبحاث أخرى بذلك [1]، وينحصر عملي في هذا المبحث في تجميع النقولات من هنا أو من هناك ثم أجعل هذا الجمع نسيجاً واحداً منسجم العبارة وسهل الفهم، وبالله أسأل الهداية والتوفيق .


أولاً: وقفة مع المصطلح:

الأمة في اللغة:

الأمة: لغةً تعني الدين والطريقة، فيُقال: فلان لا أمة له أي لا دين له.
كما تدل الأمة عند العرب أيضًا على النعمة والعيش الحسن، والأمة تعني كل جماعة بشرية، وكذلك كل جنس من الحيوان والطير، وإن كان الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله يري إن أطلاق لفظ الأمة خاص بالجماعة العظيمة من البشر حيث يقول في تفسير قوله تعالي {ومَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام : 38]

و(أمم) جمع أمة، والأمة أصلها الجماعة من الناس المتماثلة في صفات ذاتية من نسب أو لغة أو عادة أو جنس أو نوع وقيل: سميت أمة لأن أفرادها تؤم أمما واحدا وهو ما يجمع مقوماتها، وأحسب أن لفظ أمة خاص بالجماعة العظيمة من البشر فلا يقال في اللغة أمة الملائكة ولا أمة السباع. فأما إطلاق الأمم على الدواب والطير في هذه الآية فهو مجاز أي مثل الأمم لأن كل نوع منها تجتمع أفراده في صفات متحدة بينها أمما واحدة وهو ما يجمعها وأحسب أنها خاصة بالبشر. [2]

ويذهب بعض المستشرقين إلى اعتبار مصطلح الأمة دخيلاً على اللغة العربية نظرًا لعدم شيوعه بين العرب قبل الإسلام، وأنه من المصطلحات الأجنبية في القرآن الكريم. ويرى هؤلاء المستشرقون أن اللفظ قد يكون مأخوذًا من العبرية (أما) أو من الآرامية (أميتا)، ويرد المحققون العرب على هذا الادعاء بالنفي، فتقارب اللغتين العربية والعبرية تاريخيًا يجعل من الصعب الجزم بأيهما أسبق من الأخرى، بل من الممكن الاعتقاد بأنها انتقلت من العرب عبر التواصل التجاري، أو أنها كانت لغة القوم الذين كانوا يقطنون مكة حين قدم إليها نبي الله إبراهيم مع زوجته وابنه. ومهما تكن الادعاءات فإن مصطلح الأمة قد أصبح جزءًا لا يتجزأ من التراث الإسلامي.

 

الأمة في القرآن:

وردت كلمة (أمة) في القرآن الكريم 49 مرة، منها 43 آية مكية، والبقية الباقية مدنية. كما وردت كلمة (أمم) 11 مرة، منها 10 آيات مكية وآية واحدة فقط مدنية، مع ملاحظة أن لفظ (أمة) في الآيات المكية إنما يعود إلى الأمم الكافرة التي كذبت أنبياء الله ورسله قبل الإسلام. وقد ورد ذكرها من باب العظة والاعتبار لمشركي قريش كما في قوله تعالى {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوْا بِالْبَاطِل}

هذا وقد جاءت (أمة) في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة على الوجه التالي

بمعنى: دين {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [النحل: 93]. أي على دين واحد.
بمعنى: إمام {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل: 120] أي إمام الحنفاء.

بمعنى: زمن {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ.} [يوسف: 45]. أي تذكر بعد مدة من الزمن.

بمعنى: عصبة أو مجموعة من الناس {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُوْنَ} [القصص: 23]. أي جماعة من الناس يسقون أغنامهم.

بمعنى: قوم {أَنْ تَكُوْنَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل 92].. بمعنى أن يكون قوم أكثر من قوم.
وأشار القرآن الكريم إلى العرب على أنهم أمة {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَم} [الرعد: 30]. كما ميز القرآن أمة المسلمين من غيرها من الأمم في ثلاث آيات مدنية.
1- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوْا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. والوسط هو العدل والأخير والأفضل.
2- {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}  [آل عمران: 110].
3- {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}  [آل عمران: 104].

ويرى بعض المفسرين أن الآيتين الأخيرتين تدلان على عمومية لفظ الأمة في المجتمع الإسلامي كل بحسب عصره، وبذلك تتميز الأمة الإسلامية على مستوين:

 الأول: داخل الأمة الإسلامية حيث تكون هناك مجموعة من الأفراد تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
والثاني: هو المستوى العالمي حيث تكون الأمة الإسلامية أفضل أمم الأرض السابقة واللاحقة من جهة القيام بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 


ويترتب على ذلك تناقض المفهوم القرآني للأمة مع المفهوم المعاصر الذي يعني الاشتراك في اللغة والعادات والتاريخ وكذلك بالنسبة للموقع الجغرافي والجذور العرقية.


فالقرآن يتعامل مع المصطلح بشكل أشمل وأوسع؛ حيث ينتمي للأمة الإسلامية كل مسلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بغض النظر عن جنسه أو لونه أو لغته أو تاريخه، أما الأحاديث النبوية التي تشير إلى مفهوم الأمة الإسلامية فيه أكثر من أن تحصى ويتحدث فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن أمته في الدنيا والأخرى. وبذلك يتحد المفهوم النبوي للأمة مع المفهوم القرآني، وإن كانت الشواهد في الأحاديث أكثر بكثير من الآيات القرآنية. [3]


دور الرواحل في إحياء الأمة الإسلامية :
إذا كنا قد ذكرنا فيما سبق أن الأمة الإسلامية قد تميزت على مستويين يجتمعان في وصف واحد يعطيها وصف الخيرية وهو قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فإننا نأتي هنا إلى ذكر الرجال الذي يقع على عاتقهم إحياء الأمة ولكن في البداية نقوم بتحرير المصطلحات فنوضح أولاً المقصود بإحياء الأمة :


يتضح المقصود بالإحياء في قوله تعالي {أوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام : 122]، يقول الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية {فأحييناه} يقول : فهديناه للإسلام فأنعشناه فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه في معاده فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عماه عنه ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل ومنهج الطريق في الناس { {كمن مثله في الظلمات} } لا يدري كيف يتوجه وأي طريق يأخذ لشدة ظلمة الليل وإضلاله الطريق) . [4]
وكما أن الأرض الميتة يحييها ربي بالغيث (الماء) كما في قوله تعالي {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون}  [يس : 33]

يعلق ابن كثير رحمه الله علي معني الأرض الميتة بقوله {الأرض الميتة} أي إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج[5]،فإحياء الأرض الميتة يكون بالغيث الذي هو الماء، والذي جاء تشبيه الغيث في حديث آخر بالعلم النافع وذلك في قوله صلي الله عليه وسلم «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتْ الْمَاءَ قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْضِ» [6]

 يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث (أَمَّا مَعَانِي الْحَدِيث وَمَقْصُوده فَهُوَ تَمْثِيل الْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَيْثِ) [7]، ثم تكلم  رحمه الله على أن الأرض ثلاثة أنواع ،فالنوع الذي ينتفع بالغيث هو النوع الأول وهم أصحاب الفطر السليمة ،فهذا النوع هو الذي يَنْتَفِع بِالْمَطَرِ فَيَحْيَى بَعْد أَنْ كَانَ مَيِّتًا ،فحركة الإحياء الإسلامي تسعي إلي إحياء الأمة بالغيث الذي هو العلم النافع وأهمه علي الإطلاق هو التوحيد، كما قال الإمام مالك (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) ويعلق الإمام البخاري رحمه الله في باب العلم (باب العلم قبل القول والعمل) بقوله تعالي: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ

--------------------------

[1] انظر (الانحرافات العقدية والعلمية في القرنيين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة) للدكتور علي بن بخيت الزهراني طبعة دار طيبة مكة المكرمة.

[2] التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور.

[3] مفهوم الأمة في القرآن مبحث في موقع إسلام أوت لاين بتصرف شديد.

[4] جامع البيان في تأويل القرآن أبو جعفر الطبري ج5 ص331.

[5] تفسير الحافظ ابن كثير (ج3 ص753).

[6] صحيح البخاري (ج1 ص77).

[7] النووي بشرح مسلم ج7 ص483.