سباق الصالحين.. عندما تتسابق القلوب

إن المحك الحقيقي والمقياس الأوحد للنجاح الكامل في تلك الحياة هو مقياس القلوب السليمة، إنها هي مضمار السباق الفعلي الحقيقي، الذي ينقي الحياة ويصلح النهاية ويبشر بالبشرى الخاتمة..

  • التصنيفات: أعمال القلوب - الطريق إلى الله -

إن النجاح الكامل في تلك الحياة لا يعتمد على شيء من زينة الدنيا استطاع المرء أن يجمعه، فلا يقاس بكم جمع من مال ولا بعدد الشهادات العلمية ولا الثقافية، ولا بعدد ما يمتلك من زوجات ودور وقصور وأولاد، ولا حتى بعدد ما قرأ المرء من كتب أو تبعه من أتباع، إن المحك الحقيقي والمقياس الأوحد هو مقياس القلوب السليمة، إنها هي مضمار السباق الفعلي الحقيقي الذي ينقي الحياة ويصلح النهاية ويبشر بالبشرى الخاتمة.

إن كثيرًا ممن غفلوا عن قلوبهم واشتغلوا بحياتهم جاءهم الموت فرأوا كم قصروا وتخلفوا عن ركب السابقين، ليتمنوا لو عادوا فلم يكن لهم شغل في حياتهم سوى تلك القلوب، إن اهتمامنا بقلوبنا سيصلح دنيانا وآخرتنا، وسيصلح أعمالنا ونياتنا وأهدافنا ورجاءنا، إنها الحياة النقية الشفافة الهادئة الرقراقة، الصادقة الكريمة، حياة القلوب، ففيها العبودية لله الواحد الأحد، وفيها الرغبة في الجنة والفرار من غضب الجبار العظيم.

قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89]، وقال الله سبحانه: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:53-54]، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعليقًا على هذه الآيات: "فجعل الله سبحانه القلوب ثلاثة: قلبين مفتونين وقلبًا ناجيًا، فالمفتونان: القلب الذي فيه مرض والقلب القاسي، والناجي: القلب المؤمن المخبت لربه وهو المطمئن إليه الخاضع له المستسلم المنقاد".

وقال سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10]، وقال سبحانه: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، فالمرض في الآية الأولى هو مرض الشبهة التي تدعو إلى الشرك أو النفاق، والمرض في الآية الثانية هو مرض الشهوة التي تدعو إلى الكبائر (الزنا، واللواط)، وقال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:14-15]، فجعل الله سبحانه وتعالى في جهاد المشركين فوائد كثيرة؛ عذابهم بأيدي المؤمنين وخزيهم ونصرة المؤمنين عليهم، وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ القلب، وتوبة الله سبحانه على المخلصين، فجعل العبادة التي هي الجهاد شفاءًا للقلب وتغيظه.

قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ . وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ . وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:1-4]، قال الجمهور من المفسرين: "ثيابك فطهر يعني قلبك فطهره"، ويقول سبحانه: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:32-33]، وهو القلب التائب المصلح، وقوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3]، أي أخلص قلوبهم للتقوى حتى أصبحت لا تصلح إلا له، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم»(صحيح مسلم)، فجعل مدار الحساب على التقوى.


وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثلُ أفئدة الطير » (مسلم)، قال النووي: "قيل: معناه متوكلون، وقيل: قلوبهم رقيقة طاهرة مؤمنة"، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين؛ قلب أسود مربادًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت الأرض والسماوات» (مسلم).

والحديث يصف لنا البداية، البداية التي بها ينتمي القلب إلى أحد قسمين: إما المرض وإما السلامة، فإن الله سبحانه قد شاء أن تعرض الفتن على القلوب بشكل مستمر متتالٍ لا يتوقف، بل إنها تزداد يومًا بعد يوم حتى «يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم» كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسب أن هذا الزمان هو آخر الزمان، ونحن نرى كيف تموج بالمؤمنين الفتن ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، فإما فتنة شبهة تبعد الإنسان عن الإيمان بربه وتوحيده له والتسليم لشرعه واتباع نبيه فيقع في المحظور، وإما شهوة تبعد الإنسان عن أوامر ربه ونواهيه فيقع في الحرام، وبين الشهوات والشبهات تموج الفتن.

والقلوب في مهاب رياح الفتن تقبلها أو تردها، فأيما قلب قبل الفتنة وتشربها وامتص آثارها تركت فيه أثرًا: نكتًا سودًا وعلامات سوداء، وتزداد هذه العلامات وهذه النكت بازدياد قبوله بالفتن ووقوعه فيها وتشربه لها، فتغطي القلب تلك السوادات والآثار المظلمة فيصير كأنه مطليٌّ بسواد في سواد، وباستمرار الفتن وعدم رده لها يصير طلاءُ فوق طلاء، حتى تتكون على القلب طبقة من آثار الفتن تغطيه فتضعف قوته ويتآكل معها الحق الذي فيه..

وتظل الفتن تعرض عليه ويظل يقبلها حتى يغلف القلب في مراحله الأخيرة بغلاف من آثار ما كسب يمنعه من قبول الخير والهدى، يقول تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، وأيما قلب رد الفتنة واحتمى بحمى الإيمان واستعاذ بالله من شيطانه ومن هوى نفسه، وخاف مقام ربه وأراد رضاه ونهى النفس عن الهوى، صار في قلبه قوة على رد الفتنة، وكلما نجح في رد فتنة زادت قوته وقويت إرادته في رد الفتنة التي تليها، ويظل يرد الفتن راجيًا ما عند الله حتى تصير قوته على رد الفتن قوة ذاتية فيه، وطبيعية له فلا يضره شيء ما دامت الأرض والسماوات.

صفات القلب السليم:
- إن القلب السليم هو القلب الذي خلصت عبوديته لله سبحانه إرادة ومحبة وتوكلاً وإنابة وإخباتًا وخشية ورجاءً، وخلص عمله لله؛ فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل ما عدا منهج الله سبحانه ومنهج نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يتلقى أوامر الله سبحانه بمنتهى التسليم والرضا، ويصير وجلاً إذا ذكر ربه، ويزداد إيمانه إذا سمع آيات الله عز وجل.

- وهو القلب الخالي من الشرك بالله سبحانه، المسلم له اعتقادًا، المؤمن بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فهو قلب طاهر من أدناس الشرك بجميع صوره وأشكاله مهما صغرت وتضاءلت،

- كما أنه هو القلب المؤمن بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، منزه لله سبحانه عن مشابهة خلقه، مثبت لله سبحانه ما أثبته سبحانه لنفسه من صفات في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو قلب لا ينفي صفات الله ولا يعطلها ولا يؤول في أسمائه وصفاته ولا يلحد فيها.

- وهو قلب تملؤه العبودية الخالصة له وحده: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، فهو يقطر إخلاصًا وتوحيدًا، فالإخلاص يملأ جنباته، والتوحيد يغلفه جميعًا، ولا إله إلا الله تغذيه، فينبض عبودية تامة، وهو -مع ذلك كله- خائف وجل مشفق من تقصيره في حق ربه، خاشع من عظمة الله، يرى ما هو فيه قليلاً تجاه مولاه، فيظل يوقن في توحيده لله ويظل يقترب من مولاه حتى يلقاه، لا يزال يضرب على صاحبه حتى يجعله منيبًا إلى الله، ويجعله بنفس قوة القلب وحيويته وجديته وعبوديته وإيمانه، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (متفق عليه).

- كذلك فهو قلب آثر الآخرة على الدنيا، وهب لنصرة دينه ولرفع رايته، لا يقر له قرار إلا يوم يرى كلمة التوحيد عالية خفاقة، فيبذل نفسه مجاهدًا في سبيل إعلاء كلمة الله، ويقدم روحه رخيصة ليسجلها في سجل الشهداء.

- وهو قلب طموح، تواق إلى ما عند الله، لا يقنع بمكانه من العلم والبذل، يظل طامعًا فيما عند الله، لا ينتهي طموحه إلا في جنة النعيم.

- وهو قلب صحيح، يبرأ من عيوب القلوب وأمراضها لا يحمل غلاً لأحد من المسلمين، ولا حقدًا ولا حسدًا ولا غشًا، لا يصل إليه عجب، ولا يتطرق إليه كبر، فهو منكسر بين يدي ربه ومتذلل له، قد برئ من كل الشبهات التي تخالف خبر الله في كتابه وعلى لسان رسوله ومن كل شهوة تخالف أمره ونهيه يخشى من تقلب القلوب ويحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه.

 

خالد روشه