أطفال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجًا نبويًا خالدًا مؤسسًا لأساليب التربية الصحيحة للفرد، ابتداءً من مرحلة الطفولة المبكرة، ومرورًا بمرحلة الشباب وانتهاء بمرحلة الكهولة.

  • التصنيفات: السيرة النبوية - تربية الأبناء في الإسلام -

وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجًا نبويًا خالدًا مؤسسًا لأساليب التربية الصحيحة للفرد، ابتداءً من مرحلة الطفولة المبكرة، ومرورًا بمرحلة الشباب وانتهاء بمرحلة الكهولة.

وقد صنف جمع غفير من المؤرخين والتربويين المصنفات العديدة لسرد سيرته العطرة وأساليبه الفذة في تربية الفرد المسلم مع الرجال والنساء، ومسالكه الحسنة في التعامل مع النفس البشرية. وأغفلوا إلى حد ما التركيز على نهجه القويم في تقويم اعوجاج الفرد منذ الطفولة.

والسنة زاخرة بمواقف شتى تشهد بعظمة الرسول الأب الحاني والمربي الباني للشخصية الإسلامية الفذة، وتؤسس لمنهج تربوي عميق ومبسط ينبغي اتخاذه مرجعًا أوليًا لأساليب تربية الأطفال.


وقد برزت في الآونة الأخيرة معضلات سلوكية في أبنائنا أعيت المربيين وأعجزت الوالدين في إصلاح فسادها.

ومع تكاثر النظريات السلوكية والنفسية في التربية وتشعبها وتناقضها أحيانًا صار لزامًا علينا العود على بدء واستلهام الحلول الناجعة لهذه المعضلات من المدرسة النبوية الربانية، مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ولا مانع من الأخذ من هذه النظريات والتجارب الإنسانية ما يتوافق مع ما جاء عن هذه المدرسة المعصومة. 


وليس لأحد ادعاء أنها أساليب بالية لا تصلح لأبناء هذا الزمن، فالنفس البشرية قد بلغت مرحلة من الثبات النسبي بحيث يسهل معه تعميم الكثير من الأساسيات التربوية النبوية، ووضع قواعد سلوكية من منطلقها صالحة للتطبيق والقياس في كل بيئة، ويؤكد هذا خاتمية الرسالة وجعلها حاكمة على البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

1- الشخصية المسؤولة:

حلم كل أب وأم أن يصنعا من ولدهما شخصية مسئولة يمكن الاعتماد عليها، ومن أجل تحصيل هذا الحلم وصبغ الولد بهذه الصبغة لابد أن يحيا الولد منذ الصغر في بيئة منتظمة ومنضبطة ويتلقى من الوالدين التوجيهات الواضحة والمباشرة منذ نعومة أظفاره وحتى وهو في المهد.

وهذا ما يؤكده علم النفس والسلوك الحديث، وقد بدا هذا جليا في تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال. ففي الحديث الذي رواه الشيخان: وضع الحسن رضي الله عنه في فيه تمرة فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعابه، وقال: «كخ كخ إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقات»، وفي موقف آخر مع سلمة ابن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان ربيبه، نشأ في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج بأمه عندما جلس إلى طعامه وهو بعد صبيًا، فأخذت يده تطيش في الصفحة فأمسك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا له: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك».

نخلص من هاتين الصورتين بقواعد تربوية ذهبية:

أ- التدخل الفوري لإيقاف السلوك الخاطئ حتى مع الصغير الذي لا يعي ما يفعل، وعدم تأخير التوجيه عن وقته.

ب - توجيه الصغار نحو السلوك الصحيح بعبارات واضحة ومبسطة، مباشرة وحازمة.

ت - عدم التوبيخ أو توجيه الإهانة للصغير أثناء توجيهه مهما بدا سلوكه مشينًا لأنه في طور التعلم، فلنعلمه بحزم مع نقبل حتى يستجيب لتوجيهاتنا ولا يعاند.

2- الضوابط الزمانية والمكانية:

ولصبغ الأبناء بصفة تحمل المسؤولية لابد أيضا أن تتسم بيئة المنزل بالنظام والانضباط الزماني والمكاني، وهذه لأهميتها جاء التوجيه إليها للنبي وللأمة في آيات محكمات من آي الذكر الحكيم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58].

فلا ينبغي أن يتحول المنزل إلى ساحة لعب كبيرة للأطفال لهم استباحة جميع أركانه وزواياه وقتما يشاؤون وكيفما أرادوا، بل لابد من تعليمهم احترام الحدود والخصوصية، وهذا كفيل بجعلهم عندما يكبرون أشخاصًا مسؤولين وجديين وأكثر انضباطًا والتزامًا نحو مهام وأعباء الحياة، وفي تعاملهم مع الكون والكائنات والزمن وسيمتلكون القدرة على إدارة الوقت وإدارة ذواتهم، وهذه سمة من أبرز سمات الشخصية الناجحة.

3- الثقة وتعزيز الذات:

من أكثر الكتب مبيعًا في العالم الكتب التي تتحدث عن الثقة، وتعينك على كسب الثقة بذاتك وتعزيزها ومعرفة قدراتك وتنميتها، والناس يقبلون على الدورات التي تدور محاورها حول هذه القيمة أكثر من غيرها، فالكل يريد أن يصبح واثقًا.. فالإنسان الواثق يكسب احترام من حوله، والاحترام من قبل الغير يعد الاحتياج الثاني بعد الحب لدى الصبية المراهقين، وهو لون من ألوان الحب إلا أن له أولوية في نفسية الأبناء، بل إن انحراف الأحداث سببه الأول البحث عن بيئة تشعره بالثقة وتمنحه الاحترام.

ومن خلال سيرته العطرة صلوات ربي وسلامه عليه نتعلم كيف نغرز الثقة في الأبناء منذ الصغر، ونعاملهم باحترام، فقد روى البخاري: "أن عمر بن سلمة كان يؤم قومه وهو ابن ست أو سبع سنوات". وذلك لأنه كان يتعرض للقوافل المارة بقبيلتهم قبل أن يعلنوا إسلامهم فيسمع من بعضهم القرآن فيحفظه، فنصبه صلى الله عليه وسلم إمامًا عليهم رغم صغر سنه.

فإعطاء الأبناء المهام الجسيمة ومنحهم فرصة التجريب يجعلهم يشعرون بالثقة والتعزيز العالي للنفس، فيبلغ واحدهم مبلغ الرجال وهو مكتمل الشخصية معد للقيادة والريادة. يقول د: إبراهيم الخليفي: "كل الكائنات الحية تدفع صغارها لتحمل المسؤولية، فالبطة تدفع بصغيرها إلى الماء والأسد يمنع صغيره عن الاقتراب من فريسته ليعلمه جبرًا كيف يصطاد.. إلا الإنسان، لأن في ذلك ألمًا قد لا نحتمله ولكن هذه تعد أنانية منا".

4- النضج العاطفي:

استخرج الإمام الشافعي عشرات الفوائد من حديث «يا أبا عمير ما فعل النغير؟»

القصة تقول: أنه كان في المدينة طفل صغير من أبناء أحد الصحابة يدعى عميرًا، وكان له عصفور صغير يحبه ويمضي الأوقات في ملاعبته وذات يوم مات العصفور فحزن الصبي لفقده حزنًا شديدًا فمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عرف خبر العصفور، فجلس إليه مواسيًا قائلا له: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟» أي ماذا جرى لعصفورك؟ ثم لبث معه واستمع لنجواه وطيب نفسه حتى سري عنه وأذهب عن قلبه الحزن.

المشكلة أنا عندما نكبر نفقد جزءًا من ذاكرتنا الوجدانية، ننسى كم كنا نتألم ونحزن لأتفه الأسباب، وكم كانت ذواتنا متضخمة، وكيف كنا نظن أننا محور هذا الكون وأن كلما يحدث فيه من شرّ هو موجه ضدنا أو نحن سببه!

وفي هذا الأثر يعلمنا الرسول الحبيب كيف نشارك صغارنا أحزانهم، ولا نسخر من آلامهم ولا نسخفها مهما بدا لنا السبب تافهًا لا يستحق الذكر. عندها سنضمن بلوغ أبنائنا لمستوى عال من النضج العاطفي، وسيصبحون عندما يكبرون قادرين على التسامح مع الغير ومع ذواتهم ومتقبلين لها وقادرين على احتوائها واحتواء الآخرين والشعور بهم وبآلامهم.. سيصبحون إنسانيين حقًا كما يجدر بالبشر أن يكونوا.

5- غرس القيم العليا:

كلنا يعرف حديث بن عباس المشهور: «يا غلام احفظ الله يحفظك..» وهو حديث عظيم، وقد صنف فيه أهل العلم المصنفات العديدة في العقيدة، وبوبوا له أبوابا من أبواب العلم بالله..

والقصة تقول: التقى صلى اله عليه وسلم بابن عباس في أحد مسالك المدينة فأردفه خلفه على الحمار وهو بعد غلام صغير يناهز السابعة، ثم وجه إليه هذه العبارات الجامعة المانعة والتي تعد أصلًا من أصول العقيدة، وحمّله أمانة هذا العلم وغرس فيه هذه القيم الجليلة ولم يقل: مازال صبيًا غرًا لن يفهم فحوى الكلام ولن يعي مرادي.. وهذا هو الخطأ الفادح الذي يقع فيه المربون والتربويون عندما يقزمون عقليات أبنائنا بالمناهج العجفاء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والتي تتسبب في تدني مستوى ذكاء أطفالنا بمجرد دخولهم المدارس!

هذا غيض من فيض أنوار الروضة الشريفة. أتمنى أن يكون لأطفالنا النصيب الأوفر من سناها لعل المستقبل يشرق بغد زاهر كروض نضر تهتز لشذاه الأكوان.


{رَبَّنَاهَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: من الآية 74]. 

 

نبيلة الوليدي