رسالة إلى العلماء الموقعين على وثيقة كلمة سواء
ملفات متنوعة
ويلفت النظر أنّها قد صيغت بطريقة يغلب عليها نبرة التودد والخشوع
والخضوع ممّا لا يليق بالمسلم المعتز بدينه ونفسه.
- التصنيفات: اليهودية والنصرانية -
إنّ الدنيا كلها لتعرف القرآن والأحاديث حق المعرفة منذ أول يوم من بزوغ ضيائه الباهر، وليس لدينا بحمد الله ما يمكن أن نفكر في إخفائه، هذه الوثيقة الموجهة إلى قيادات الكنائس في العالم، بل إلى جميع المسيحيين في كل مكان، لا يعني أبدا أنّ هناك إجماعا على هذا الكلام، السادة العلماء الموقعون على الوثيقة المذكورة أعلاه، في هذا العام (1428هـ) أُعْلِن عن توجيه رسالة باسمكم عنوانها: "كلمة سواء بيننا وبينكم" إلى بابوات النصرانية وكبار بطاركتها ومطارنتها في نواحي الأرض تدعونهم فيها إلى إقامة حوار مع المسلمين وتعملون على طمأنتهم بأنّ المسلمين لا يضمرون لهم شرا، وكأنّ المسلمين مصاصو دماء يثيرون الرعب في قلوب النصارى في كل مكان فلا يغمض لهم جفن جَرَّاءَ ذلك. وهو أمر في منتهى الغرابة، إذ إنّكم تعرفون أكثر من غيركم أنّ المسلمين هم الذين يقاسون من جرائم الغربيين النصارى الشيطانية المتوحشة التي لم تنقطع منذ قرون لا العكس. كما تركّز رسالتكم على ما تراه مشتركا من القيم بين الإسلام والنصرانية، وعلى وجه التحديد: الإيمان بالله الواحد، وحبه سبحانه وتعالى، وحب الجار.
ويلفت النظر أنّها قد صيغت بطريقة يغلب عليها نبرة التودد والخشوع والخضوع ممّا لا يليق بالمسلم المعتز بدينه ونفسه.
وممّا يلفت النظر أيضا ما جاء في موقع "كلمة سواء" من أنّ كتابة البيان الذي وقعه عدد من العلماء المسلمين من قبل ردا على ما كان بابا الفاتيكان قد ارتكبه من إساءة في حق ديننا هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يتحدث فيها العلماء من جميع فئات المسلمين بصوت واحدٍ حول التعاليم الحقيقية للإسلام. وهو كلام من الممكن جدا أن يُفْهَم على أنّ المسلمين قبل ذلك كانوا يظهرون شيئا ويخفون أشياء، فكانوا يزعمون أنّ الإسلام هو كذا وكذا، على حين أنّ الإسلام ليس كذا وكذا، بل كَيْت وذَيْت.
ما هذا الكلام العجيب؟ وما معناه؟ هل لدى المسلمين ما يخفونه من عورات في دينهم فهم يتحدثون عن شيء غير ما يتضمنه هذا الدين؟ فما هو يا ترى؟ هل دينهم يأمرهم مثلا بشيّ الأطفال أحياء وأكلهم هنيئا مريئا، على حين أنّهم إذا خاطبوا الآخرين زعموا أنّ الإسلام يوجب احترام النفس الإنسانية وعدم مسها بأذى؟ إنّ هذا الكلام لا يمكن أن يعني إلاّ أنّنا قد درجنا على إخفاء حقيقة ديننا. لكن لماذا؟ وما الذي في ديننا يستدعى هذا الإخفاء؟ وهل يمكن أصلا القيام بهذا الإخفاء؟ هل القرآن وأحاديث الرسول وثائق سرية محفوظة في خزائن لدى الحبر الأعظم في الإسلام لا يطلع عليها إلاّ هو وكبار مساعديه؟ إنّ الإسلام هو دين الوضوح الأول في العالم، وإنّ الدنيا كلها لتعرف القرآن والأحاديث حق المعرفة منذ أول يوم من بزوغ ضيائه الباهر، وليس لدينا بحمد الله ما يمكن أن نفكر في إخفائه، فلم هذا الكلام العجيب إذن؟ وإنّ الذين يتوَلَّوْن كِبْر معاداة الإسلام والكيد للمسلمين لهم الذين يخفون حقائقه العظيمة عن مواطنيهم وأتباعهم ويشنون دائما حربا ضروسا ضده ويكذبون ويدلّسون كي يشوهوا صورته الناصعة النقية. وما صنيع المستشرقين والمبشرين في هذا الصدد منذ أقدم العصور بالذي يجهله المطلع على تاريخهم مع دين الله.
ثم إنّ الوثيقة التي وقعتموها تذكر أنّه قد "تلاقى ثمانية وثلاثون ومائة عالمًا من العلماء ورجال الدين والمفكرين المسلمين بالإجماع لأول مرة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنوا على الملأ القاسم المشترك بين المسيحية والإسلام". وتعليقنا على ذلك هو أنّ كلمة "الإجماع" هنا مضللة، فالإجماع لا يتحقق بمائة وثمانية وثلاثين عالما لا يشكلون نسبة تذكر بين علماء المسلمين الذين يُعَدُّون في هذا العصر بعشرات الآلاف.
وعلى هذا فإنّ ما تقوله سطور تلك الوثيقة من أنّ "الموقعين على هذه الوثيقة ينتمون إلى جميع المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية مثل الموقعين على الرسالة المفتوحة. كما وقد مُثِّلت جميع البلدان أو المناطق الرئيسية الإسلامية في العالم في هذه الوثيقة الموجهة إلى قيادات الكنائس في العالم، بل إلى جميع المسيحيين في كل مكان" لا يعنى أبدا أنّ هناك إجماعا على هذا الكلام.
وبالمثل فإنّ ما نقرؤه عقب هذا من أنّ "الصيغة النهائية للوثيقة قُدِّمَتْ في المؤتمر الذي عقدته في شهر أيلول (سبتمبر) 2007 الأكاديمية الملكية التابعة لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي بعنوان "الحب في القرآن الكريم" برعاية صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين" لنا عليه سؤال: ترى متى كان مؤتمر، أي مؤتمر، يمثل الإجماع بالمعنى المعروف في الإسلام؟
ويزداد الأمر خطورة حين نجد سطور المقدمة تزعم أنّ الموقِّعين على الوثيقة إنّما يتبَنَّوْن "الموقف الإسلامي التقليدي الذي تتبناه غالبية المسلمين والقائم على احترام كتب الله قبل القرآن الكريم، ودعوة المسيحيين إلى المزيد من الإخلاص لها والتمسّك بها، لا التقليل من ذلك الإخلاص".
ذلك أنّ العبارة التى صيغ بها هذا الكلام لا تخلو من التلبيس، وإلاّ فما علاقة إيمان المسلمين (المسلمين كلهم لا الغالبية منهم كما تقول الرسالة خطأً) بأنّ التوراة والإنجيل كتابان سماويان، بما تستشهد به الوثيقة ذاتها من كتب اليهود والنصارى الحالية، تلك الكتب التي هي تحريف للتوراة والإنجيل الحقيقيين بشهادة القرآن الكريم؟ كما أنّ العبارة تتعمد الخلط بين نصوص الكتاب المقدس التي استشهدتْ بها الوثيقة وبين فهم النصارى لتلك النصوص، وهو فهم يبعدها أكثر ممّا هي مبتعدة أساسا عن أصلها السماوي؟ وفوق هذا فإنّ الوثيقة تتجاهل نصوصا أخرى في الكتاب المقدس تتناقض تمام التناقض مع القرآن الكريم ولا يمكن أن يغضّ المسلم الطَّرْف عنها.
كذلك فإنّ عبارة "كلمة سواء"، التي قصدتم بها تلك الأمور التي يتفق عليها الطرفان: المسلم والنصراني حسب كلامكم، بمعنى الابتعاد عن نقاط الاختلاف والتركيز فقط على نقاط التلاقى، وهو ما يتضح من نص البيان نفسه، وكذلك من الترجمة الإنجليزية لتلك العبارة حسبما وردت في النص الإنجليزي من البيان: "A Common Word"، هذه العبارة تحتاج إلى وقفة. ذلك أنّ وضع الأمور على ذلك النحو هو في الحقيقة تمييع للقضية ومناقضة لما جاء في القرآن متمثلا في أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 64]. ومعنى الآيات هو دعوة الرسول لأهل الكتاب من النصارى المثلثين إلى كلمة حق وصدق في حق عيسى عليه السلام، إذ هو في الإسلام مجرد عبد لله لا إله ولا ابن لله حسبما هو معلوم، وحسبما تقول الآيات السابقة على تلك الآية مثلا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} [سورة آل عمران: 59-63].
ومن المعروف تمام المعرفة من هذه الآيات ومن غيرها أنّ القرآن لا يقر النصارى على ما يقولونه في السيد المسيح من تأليهه والقول بأنّه ابن الله، ويريدهم أن يعودوا عن ذلك القول، ومن ثم دعاهم الرسول إلى المباهلة، أي الملاعنة. ولا يعقل أنّه قد دعاهم إلى تلك المباهلة من أجل الاتفاق على محبة الجار أو عبادة الله، إذ كان كل من الفريقين يعبد الله، إلاّ أنّ كلا منهما ينظر إليه سبحانه نظرة مغايرة تماما لنظرة الآخر ممّا هو معروف لكل أحد، إذ النّاس لا تتلاعن إذا كانت متفقة في الرؤية والموقف، بل تتلاعن حين يكون بينها تناقض لا يمكن حسمه بالحوار والعقل، فيرى عندئذ الطرف الواثق بنفسه المؤمن بأنّه على الحق أن يدعو الطرف الآخر المعاند إلى الملاعنة، فيبتهلان إلى الله أن يهلك الكاذب منهما. ولقد نكص الطرف النصراني في تلك الواقعة عن المباهلة وعَرَض دفع الجزية بدلا من هذا كما ورد في سبب نزول تلك الآيات.
وفوق ذلك فإنّ الوثيقة المذكورة تحاول إقناعنا بأنّ النصرانية توحّد الله مثلما يوحده الإسلام، فتقول إنّ السيد المسيح قد ذكر أنّ أول الوصايا لبنى إسرائيل هي: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا إله واحد"، إذ السؤال هو: هل يؤمن النصارى بأنّ الله واحد أحد لا شريك له كما نؤمن نحن المسلمين؟ بطبيعة الحال فإنّ السيد المسيح كان يؤمن بوحدانية الله كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن بها، إلاّ أنّ الحوار المراد لن يكون بيننا وبين السيد المسيح، بل بيننا وبين النصارى المثلثين الذين يزعمون أنّ عيسى بن مريم هو الرب، وأنّ أمه هي أم الرب. وشتان الطريقان.
وقد وصف الله سبحانه في القرآن عقيدة التثليث بأنّها شرك وكفر، وتوعدهم على ذلك بالعذاب الأليم.
فلماذا خلط الأوراق بعضها ببعض إذن؟
إنّ الوثيقة تلجأ إلى الاستشهاد ببعض آيات الأناجيل دون بعض، وهذه الأناجيل هي من صنع البشر كما هو معلوم، فضلا عن أنّ الآيات المستشهَد بها لا تمثل كل النصوص المتعلقة بالقضية التي بين أيدينا، إذ هناك نصوص أخرى تقول شيئا آخر، كما أنّ النصارى المثلثين يفهمون النصوص المستشهَد بها فهما آخر غير ما تريدون توصيله إلينا، وإلاّ فلماذا يعبدون المسيح عليه السلام؟ ولماذا يسب عدد كبير منهم الله رب العالمين الذي نؤمن نحن المسلمين به؟ ولماذا يشتمون النبى محمدا صلى الله عليه وسلم؟ إنّنا لا نتدخل في إيمان أحد، ولا نقول بإكراه أحد على متابعتنا فيما نؤمن به، لكنّنا في ذات الوقت لا نقبل أبدا أن نُقَاد من أنوفنا ونحن مبصرون.
أمّا محبة الجار فلم يرد في العهد القديم ولا في العهد الجديد أي شأن يشأنها، بل ليس للجار ذاته أي ذكر في الكتاب المقدس بعهديه الاثنين جميعا. والواقع أنّي لا أستطيع أن أفهم لماذا هذه القيمة بالذات، وهي غير موجودة في كتاب اليهود والنصارى؟ كان ينبغى أن يدور الحوار أولا وقبل كل شيء حول المظالم الرهيبة البشعة التي أنزلها الغرب النصراني وما زال ينزلها بالمسلمين بدلا من الجري وراء الأوهام. لكن للأسف لم تبال وثيقتكم بذلك الأمر. ولا شك أنّ هذا تقصير، وأي تقصير!
المصدر: لواء الشريعة