الغزو الفكري وأركانه

أن الغزو العسكري وسائله منفِّرة، وهي مصحوبة بالدمار والقتل والدم، بينما وسائل الغزو الفكري ناعمة وخادعة، ومصحوبة بالشهوات، فالاستجابة لها أسرع وأكثر وأنجح، كما أنه يستهدف أشرف ما في الإنسان : عقيدَتَهُ وفِكْرَهُ، وقلْبَهُ وعقْلَهُ...

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير، وأشهدُ أنَّ سيَّدنا وحبيبنا ونبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولهِ بلَّغ الرسالةَ وأدى الأمانة وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادهِ، ترَكنا على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها، فصلِّ اللهُم عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّم تسليماً كثيراً.


أما بعد : فالغزو الفكري أسلوب من أساليب الغزاة، وهو مُكمِّلٌ لأساليب الغزو التقليدي الحربي حيناً، وبديلٌ عنها أو عن بعضها حيناً آخر.
فالغزو الفكري يعمل على إذابةِ الشعوب، وانسلاخِها من عقائدها، ومذاهبها، وحضارتها لتصبح مسخاً شائهاً تابعاً لغيرها.


فهذا الغزو كان ـ ويكون ـ بوسائل غير عسكرية اتخذها الغزاة الصليبيون لإزالة مظاهر الحياةِ الإسلامية في المجتمعات المسلمة وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، وما يتعلق بالعقيدة، وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك.


فاستخدم الصليبيون في غزو المسلمين فكرياً : الفكرة، والمعلومة، والبرنامج، والمنهج في محاولة لتحطيم مقومات الأمة الإسلامية.
فالصليبيون النصارى يعلمون أن العقيدة والفكرة الإسلامية الصحيحة هي أقوى سلاح ضدهم؛ فحاولوا طمسَها، ووضع الحواجز بينها وبين المسلمين، ولم يجدوا في تنفيذ ذلك أجدر من سلوك سُبُل الغزو الفكري.


وتكمن خطورة الغزو الفكري الصليبي للأمة الإسلامية أنه يحاول أن يضرب الإسلام من الداخل عن طريق إضعاف فاعليته بالتشكيك في أسسه ومبانيه، وعزله عن التأثير في حياة المسلمين وذلك باسم التقدم، والحضارة والرقي، ومحاربة الرجعية، ومن ثم وقف المد الإسلامي، وحصر الإسلام داخل حدود لا يتجاوزها، وإلى تجزئة المسلمين أرضاً وأمةً وفكراً، وتشويه صورتهم التاريخية الغابرة والحالية، والحيلولة دون مستقبل مشرق للإسلام والمسلمين.


لقد أدرك الصليبيون بعد التجارب الطويلة في صراعهم مع المسلمين أن الغزو العسكري قبل الغزو الفكري يُوَلِّد رد فعل عنيف لم يتحقق به للصليبيين الفائدة المرجوة، والتي من أجلها خرجوا من ديارهم في الغرب، وبذلوا في حينها الأموال والدماء والنفوس.


ولهذا لم يكن للحروب الصليبية الأولى تأثير حضاري وفكري وإنما كانت أشبه شيء بمرض عارض على جسد قوي، وأقرب الأمور إلى سنن الحياة، أن يستثير المرض كوامن المناعة في هذا الجسد القوي، ويستحثه إلى أسباب الوقاية والعلاج ليطرد العلة الوافدة، وكذلك كان.


لذلك لما عاد النصارى الصليبيون لغزو العالم الإسلامي مرة أخرى لم يكتفوا بالسلاح فقط، ولكنهم استصحبوا معهم تلك الوسيلة الخبيثة التي نُسمِّيها (الغزو الفكري)، ذلك الغزو الذي لا يلقى في الغالب أسباب المقاومة التي يلقاها الغزو العسكري من جهة المغزوين، فهو يدعو عند بعضهم ـ زوراً وبهتاناً ـ إلى محاربة الرجعية وإلى التقدم والرقي بالأمة، كما أنه ـ ولو تبين للناس بعد ذلك حالَه ومقصودَه ـ تبقى آثارُه في قلوب بعض المغزوين وعقولِهم.


ولاننس أيضاً أن الغزو العسكري وسائله منفِّرة، وهي مصحوبة بالدمار والقتل والدم، بينما وسائل الغزو الفكري ناعمة وخادعة، ومصحوبة بالشهوات، فالاستجابة لها أسرع وأكثر وأنجح، كما أنه يستهدف أشرف ما في الإنسان : عقيدَتَهُ وفِكْرَهُ، وقلْبَهُ وعقْلَهُ.


لذلك كان الغزو الفكري في غايةِ الضراوة، وعنف التركيز والتأثير، وساعدَهُ استيلاء الكفار على مقدرات المسلمين، ومراكز الحكم والتوجيه، ثم بعد الجلاء والتحرر المزعوم، ساعده في المواصلة والتأثير موالاة بعض المسئولين المسلمين للغرب الصليبي، وكذلك بريقْ الحضارةِ المادية مع الدعايةِ المتقنة للنظم الغربية والتغرير بها وإتقانْ أصحابِها لما خططوا له من ضرب الإسلام وأبنائِه، ومبادرَتْهُم إلى تشديد الكرة عليه، فتعددت مظاهر العزو الفكري، وتكاد أن تَشْمَل جميع جوانب الحياة، وهذه المظاهر لم تكن إلاَّ بِناءً على دراسات دقيقة لأحوال المجتمعات الإسلامية.


ونستطيع أن نتعرف على تلك المظاهر للغزو الفكري في حملات التشويه للإسلام، لكتابه العزيز، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولشخصه عليه الصلاة والسلام الكريم المعصوم، ولشريعته الإسلامية ونظامها في هذه الحياة، وللغته الفصحى، وللتاريخ الإسلامي...


كما نستطيع أن نُدرك مظاهر هذا الغزو في حملات التغريب لأبنائنا المسلمين من جهة التعليم والثقافة والنظم الاجتماعية والسياسية والقضائية والاقتصادية والإعلامية وفي الأخلاق والآداب، ثم تكون بتغريب اللسان ؛ لقطعه عن لغة القرآن اللغة العربية الفصحى.


والغزو الفكري الصليبي الموجه للأمة الإسلامية يقوم على ركنين، هما : الاستشراق، ثم التغريب.


وقد كان الهدف الأعظم للصليبيين يظهر في كل مرحلة من مراحل الغزو الفكري ألا وهو التنصير.


وقبل أن أدخل في تفصيل هذه المسائل أذكر أن هذه المسائل الفكرية الموجهة للأمة الإسلامية بدأ النقاش فيها، ومحاولة استخدَامَها منذ وقت الحملةِ الصليبية المرقمة بالخامسة، في أواخر عام 1217م في تفاهم بين بابا روما هونوريوس الثالث ( 18 تمّوز 1216ـ 18 آذار 1227 م)، ومؤسس الرهبنة الفرنسيسكانية فرنسيس الأسيزري،


ثم ازدادت أهميتُها في نظرِ النصارى بعد فشل الحَمْلة الصليبية المرقمة بالسابعة، وأسْر قائدَها الملك الفرنسي لويس التاسع في المنصورة، فعندما خرج من سجنه عام 1250م أشار إلى النصارى بالاهتمام بحرب المسلمين من الداخل بضربِ عقيدتِهم مكمن القوة فيهم، وفي الدسِ بينهم وإثارةِ الخلافات بينهم والعمل على بقائها مُسْتَعِرة، مع تجنيد بعضَ الصليبيين لمحاربة تعاليم الإسلام،

كما أنّ وصيّة الملك الفرنسي لويس التاسع عشر في ضرب المسلمين من الداحل دخلت بقوة في دائرة التنفيذ والأهمية الكبرى بعد سقوط عكا من أيديهم إلى أيدي المسلمين في عام 1219م، وفتور المواجهة العسكرية عند الغرب بشكل عام ضد المسلمين، فقامت مشاريع صليبية تُبيّن الطريقة المناسبة للهجوم على المسلمين لا تجعل المواجهة العسكرية هي الأساس ـ وإن كانت أغلبها متمسكة بالمواجهة العسكرية متى سنحت الفرصة لذلك ـ،


وأهم هذه المشاريع ما تقدم به ريموند لول سنة 1305م لبابا الكاثوليك المنتقل من روما إلى أفينون بفرنسا البابا إكليمنضوس (كلمنت) الخامس ( 5 حزيران 1305 ـ 20 نيسان 1314م)، وقد كانت قيمة هذا المشروع الصليبي في أن صاحبه (ريموند لول)، له معرفة باللغة العربية، ودراية كبيرة بطبيعة بعض البلدان العربية الإسلامية، فقد كان مشروعه قائماً على كسب المسلمين من الناحية الفكرية مع تمسكه بإرسال حملة صليبية قوية إن أمكن ذلك.


ثم تجلّت هذه الأفكار بغزو المسلمين وبالطريقة التي كان يراها المنصّر والمستشرق ريموند لول على يد الملك الفرنسي نابليون بونابرت عندما غزا مصر بالطريقة العسكرية والفكرية عام 1798م، فتمكّن الاستشراق الصليبي وبدأ يتسلل التغريب إلى المسلمين منذ ذلك الوقت، وفي كل المراحل كان التنصير هو الهدف الأعظم للصليبيين.


والآن سأقف باختصار مع ركني الغزو الفكري:


الركن الأوّل : الاستشراق
مفهوم الاستشراق ( Orientalism ) :
من الناحية اللغوية فإن الاستشراق اشتقه الغربيون من لفظة (الشرق)..


وعرّف قاموس اكسفورد الاستشراق بأنه: (دراسة الشخصية الشرقية، من ناحية الأسلوب والخواص والصفات وطرق التفكير والتعبير... الخاصة بتلك الأمم الشرقية، كما أنه يعني أيضاً دراسة العلوم الشرقية أو معرفة لغات الشرق).


ويقول النصراني العربي إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، ص 39 : (الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيطرة عليه)، واستبناؤه أي : بناء ذلك الشرق طبقاً للمفاهيم الغربية.


وكما هو ملاحظ أن مثل هذه التعريفات شديدة العموم، فالشرق هو مجموعة الأقطار المنتشرة في آسيا وبعض الأقطار في إفريقية مما يطل على حوض البحر الأبيض المتوسط وبعض أجزاء من أوروبا الشرقية[1]، وكثير من هذه الأقطار لا تدين بالإسلام.

ثم لا شك أن تسمية هذه المناطق بالشرق هو من ابتداعات أوروبا مما يدل على غطرسَتِها والنظر إلى الآخر بالنظرة الدونية له والإعجابِ بنفسها، واستخدام مثل هذه المصطلحات (الشرق)، و(الشرق الأوسط) ليس تأييداً لها، أو اعترافاً بغطرسة ما يُسمى بالغرب بقدر ما فيه من مجاراة المفهوم العام، ثم بيان ما فيها من مكر وخديعة للآخرين في أنهم هم الأصل ومنهم يُجلب كل نفع.


والذي أقصده من مسألة الاستشراق هذه، هي الدراسات النصرانية للإسلام والمسلمين ؛ لأن هذا هو المقصود الأعظم عند نصارى الغرب كما ذكر غيرُ واحد من مستشرقيهم.


فمفهوم الاستشراق مِن هذا المنطق سيكون : دراسات متخصصة يقوم بها النصارى للإسلام في شتى جوانبه : العقدية، والتشريعية، والتاريخية، واللغوية، والحضارية، وفي النظم والإمكانات... بهدف تشويهِ الإسلام، ومحاولةِ تشكيك المسلمين فيه، وتضليلِهم عنه، وادعاء تفوق حضارتِهم النصرانية (الغربية) على الحضارة الإسلامية (الشرقية) ومحاولة فرض التبعية لهم على المسلمين، ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدّعي العلمية والموضوعية [2].


فهذا الاستشراق يمثل الخلفية الفكرية للصراع الديني بين الإسلام والنصرانية في الغرب والذي بدأ واضحاً منذ الحروب الصليبية التي امتدت قرنين من الزمان ( 489هـ ـ 691هـ )، ( 1095ـ 1291م)، لم تنته، ولن تنتهي مصداقاً لقول الباري: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120].


ثُمَّ أنَّ حجر الزاوية للدراسات الاستشراقية هو الدافع الديني ـ الذي استمر وظهر واضحاً منذ بدايَتِها إلى يومِنا هذا، فما نشأ الاستشراقُ وقوي أمرُه في الغرب إلا تحت عين الفاتيكان وبرعايته، فقد كانت طلائع المستشرقين من رجالاته الذين لم تكن أعمالهم ودراساتهم بمعزل عن دَوْرِهم الكنسي.


ثُمَّ ظهر دافع آخر للدراسات الاستشراقية الغربية، وهو الدافع السياسي العسكري، والذي جعل نُصب عينيه وفي مقدمته الدافع الديني لتسهيل طريق دُوَلِه الغربية النصرانية إلى العالم الإسلامي.


والدافع الديني للدراسات الاستشراقيّة يسير في اتجاهات ثلاثة:


الاتجاه الأول : صد الإسلام عن أن ينتشر في أراضيِهم النصرانية، وبين أبنائهم.


الاتجاه الثاني : مُحاربة الإسلام والطعن فيه، وتشويه مَحاسِنه وتحريف حقائقه، والبحث عن أي نقطة يظنون أنها نقطة ضعف فيه فيُبْرِزُونَها، والحط من قدر نبِيه صلى الله عليه وسلم، وأنه استمد دين الإسلام من اليهودية والنصرانية.


الاتجاه الثالث : دعوة المسلمين إلى النصرانية، وتمجيدَها بينهم، فالمحاولات التنصيرية استفادت، وقامت على الدراسات الاستشراقية لمعرفة ماهيّة المجتمعات الإسلامية وكيفية احتوائِها.


ولقد طرقت تلك الدراسات الاستشراقية الكاثوليكية مواضيع متعددة لتحقيق ذلك الدافع الديني، ومن هذه المواضيع:


افتراؤُهم على خاتَمْ الأنبياء وسيد المرسلين، الرحمة المهداة للعالمين، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد وصفوه بأوصاف لا تتفق والحقائق العلمية التي يتشدقون بالبحث عنها والسعي وراءَها.


ومن مواضيعهم أيضاً : إنكارُهم أن القرآن وحي من الله تعالى أوحاه إلى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حيثُ إنَّ إنكارَهُم لنبوةِ محمد صلى الله عليه وسلم اقتضى بالضرورة إنكارهم أن القرآن وحي، وأنَّ له قداسة إلآلهية وأنَّه معجز، فقد ذهب جميعُ المستشرقين النصارى واليهود أن القرآن من صنع محمد صلى الله عليه وسلم، اقتبسه من اليهودية والنصرانية وأوضاع البيئة العربية في ذلك الوقت.


ومن مواضيعهم أيضاً : طعنُهم في السنة النبوية، ومحاولتُهم المستمرة لإسقاطها من مكانتها الرفيعة كمصدر تشريعي ثان بعد كتاب الله العزيز.
بعد هذه الخطورة في الدراسات الاستشراقيّة إلاَّ أنَّا نجد أنَّ بعض مثقفي المسلمين يرى أن المحُرّك الأول، والدافع الأكبر لأولئك المستشرقين هو البحث العلمي النزيه والحقيقة العلمية المجردة، سبحانَ اللهِ العظيم! كيف لا يكون كذلك والعديد منهم قد تتلمذ (على أيدي هؤلاء المستشرقين عن طريقِ إيفادِهم إلى بلاد الغرب النصراني واستقدام أعلام المستشرقين ـ في بداية الأمر ـ إلى البلاد العربية والإسلامية ليعملوا في مؤسساتها الفكرية والتعليميّة)[3].


بل أنَّ كثيراً من المستشرقين يرى أن الإسلام كتعاليم وعقيدة ودين جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم هو العدو الأكبر للحضارة والعلم والحرية، وعلى رأس أولئك المستشرقين المستشرق الفرنسي أرنست رينان (1823 ــ 1892م) والذي كان يقول دائماً في كتبه ومقالاته أن الإسلام اضطهد دائماً العلم والفلسفة، وأن العقيدة الإسلامية أثقل قيد حملتْهُ الإنسانية ؛ ولهذا فإنَّ المسلمين ـ عندَهُ ـ هم أول ضحايا الإسلام، وتحرِيرُهم من دينهم، هو أكبر خدمة يمكن أن تُسدى لهم، ويرى رينان إن تحديد ميلاد البلاد العربيّة أو إعادته لن يتم بواسطة الإسلام، بل سيتم بإضعاف الإسلام، فالإسلام عنده السبب في اضمحلال الحضارة العربية.


ولقد أثرت هذه الآراء المنحرفة كثيراً في عقول العلمانيين من أبناء المسلمين، بل بعض من ادعى العلم الشرعي في زمانه وافقه على كثير منها، وعلى رأس هؤلاء جمال الدين الأفغاني. يقول الفيلسوف العربي الدكتور عبد الرحمن بدوي : (وقد كان رد جمال الدين الأفغاني على رينان شديد الترفق إلى درجة أنه ساير رينان في كثير من الملاحظات التي أبداها عن اضطهاد الإسلام للعلماء...

 

لقد كان جمال الدين الأفغاني (الأسد أبادي) سياسياً في المقام الأول، ومفكراً متحرراً من العقيدة الدينية، ولم يكن الإسلام عنده إلاَّ وسيلة... ولم يهدف أبداً إلى الإصلاح الديني بالمعنى المفهوم الدقيق لهذا التعبير. والمسؤول عن تصويره الزائف بصورة المصلح الديني هو الشيخ محمد عبده وأصحاب مجلة المنار ومن شايعهم من السطحيين في مصر والشام) [4].

 


وإن من أخطر ما سلكه المستشرقون في دراساتهم تحطيم الوحدة الفكرية للمسلمين، وذلك بإثارة الخلافات الفكرية من آراء الفرق والمذاهب المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة، وتقويتَها وتمجيدَها ونشْرَها بين عامةِ المسلمين ليشغلوا أنفُسَهُم بها عن التفكير في عظائم الأمور؛ فتمزقت بهذا الأمة الإسلامية أشلاءً متناثرة هنا وهناك، وقام بين أبنائِها الخلافات والمشاحنات لاختلاف النظم والمبادئ والمناهج، ولا سيما بعد اشتداد عزائم الأذناب في الاستمرار في إثارة تلك الخلافات.

 


ومن أشهر هؤلاء المستشرقين الذين سلكوا هذا المسلك الراهب الدومنيكي الأب جورج شحاته قنواتي ـ مدير معهد الدراسات الشرقيّة للآباء الدومينيكان بالقاهرة ـ وكان له دور كبير في مسألة (بدعة) الحوار بين الإسلام والنصرانيّة، وكان من أبرز تلامذته أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة عاطف العراقي، والذي سار على نهجه.

 


ومِن أخطر المستشرقين أولئك الذين يصفهم البعض بالنزاهة في كتاباتهم، فهم ـ مثلاً ـ في أبحاثهم عن الدين الإسلامي، يذكرون عيباً واحداً، ويجُوّدون لتمكينَه في النفوس، بذكر عدة محاسن ليست لها أهمية كبيرة، وذلك كي يقف القارئ خاشعاً مُؤَدباً أمام سعة قلوبِهم وسماحتِهم، فيستسيغ ذلك العيب الواحد الذي يكفي لطمس جميع المحاسن. فهم يدسّون في كتاباتهم مقداراً خاصاً من (السُمّ) ويحترسون في ذلك، فلا يزيد على النسبة المعينة لديهم، حتى لا يستوحش القارئ، ولا يثير ذلك فيه الحذر، ولا يضعف ثقته بنزاهة ذلك المستشرق.

 


ومن ذلك : ما يفعله المستشرق الهولندي دوزي (1820ـ 1883م)، الذي انخدع بأبحاثه بعض المسلمين، ووصفوه بالإنصاف، فكان يذهب إلى القول بصحة قسم كبير من الأحاديث النبوية التي حفظت في الصدور قبل التدوين ثم دونت بدقة في الكتب، ولكنه في أثناء كلامه يرى أنها أحاديث لها نظرات في الكون والحياة والإنسان مخالفة للعقل والميزان الصحيح.

 


وما ذهب إليه المستشرق لويس مايو في كتابه (مدخل لدراسة القانون الإسلامي) أن القرآن يعد المصدر الرئيس للشريعة الإسلامية، ثم ذهب إلى صحته وأن فيه قداسة وأن جمعه كان صحيحاً من قبل الصحابة، ولكنه يذكر بأن القرآن مصدر ضيق للشريعة الإسلامية، فيرى أن القواعد القانونية تتحدث عنها ستمائة آية فقط.

 


إن كتابات هؤلاء المستشرقين أشد خطراً على القارئ المسلم والنصراني وغيرهم في الدين الإسلامي من كتابات المستشرقين الذين يكاشفون العداء للأمة الإسلامية ويشحنون كتبهم بالكذب والافتراء عليها، وعلى دينها وحضارتها، ويصعب على رجل متوسط في عقليته أن يخرج منها سليم الفكرة أو ينتهي في قراءتها دون الخضوع لها.

 


منافذ الفكر الاستشراقي إلى العالم الإسلامي:


لو ننظر كيف استطاع الفكر الاستشراقي أن يغزو أفكار بعض أبناء المسلمين بأفكارهم المنحرفة وأطروحاتهم المشبوهه، لو جدنا أنَّ هُناك منافذ وصلوا مِن خلالها إلى أبناء عقولنا، مِن أخطر هذه المنافذ : التدريس في جامعات بعض البلدان الإسلامية، ومن خلال التدريس في وزارات المعارف ـ التربية والتعليم ـ في بعض البلدان الإسلاميّة.


وبهذا استطاع المستشرقون أن يَصِلوا بأفكارهم المنحرفة إلى عقول أبناء المسلمين في كل مراحل التعليم ومنذ الصِغر، وبقدر مُعيّن، وكميات مدروسة، حتى لا يُثيروا عليهم حفيظة الآباء المسلمين.


فهذه مُصيبة عُظْمى حلّت بالأمة الإسلاميّة لتشويه الدين الإسلامي، وتعاليمه في نفوس أبنائه (الجيل الجديد للأمة الإسلامية)، قادة المستقبل الإسلامي فكرياً وسياسياً واجتماعياً.


وقد تمكن الأثر السيىء للمستشرقين في نفوس أبناء المسلمين عن طريق مناهج الوزارات التعليمية والتربوية عندما أمسك زمامها في البلدان الإسلامية تلامذة أولئك المستشرقين من أبناء الوطن، فحاربوا عقيدتهم الإسلامية، وضيّعوا أبناءهم بسلاح أعدائهم الكفار، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.
الركن الثاني من أركان الغزو الفكري : (التغريب):


التغريب هو الدعامة الثانية، والركن الثاني من ركني الغزو الفكري الموجه إلى الأمة الإسلامية.


التغريب، نقل للحضارة الغربية بسلوكيّاتِها وأفكارِها إلى العالم الإسلامي لتنافس الحضارة الإسلامية، عقيدةً، وشريعةً، وسلوكاً في قلوب المسلمين وعقولهم، بل لكي تحلّ محلّها عند بعضهم، وذلك بأيدٍ إسلامية ـ أو كان بعضُها إسلامياً ـ متربية على المنهج الغربي النصراني المنحل والمخالف للدين الإسلامي.


فالغرب النصراني استخدم بعض أبناء المسلمين من الذين تلوّثت عقولُهم وأفئدتُهم بالفكر والمنهج الغربي لجر أبناء دِينهم ووطِنهم من المسلمين إلى ما عليه الغرب النصراني، من فكر وسلوك ومنهج حياة مخالف لما جاء به الإسلام، وقرره القرآن الكريم والسنة المطهرة وأجمع عليه سلف الأمة الكرام.
فعمليات التغريب هي أقسى ما واجهه الفكر الإسلامي في عصوره المختلفة.


وقد ساعد على ظهور التغريب بين المسلمين ـ في بداية الأمر ـ أسباب مِن أبرزها سببان، وربما غيرُها من الأسباب يدخل ضمناً فيها :
السبب الأول : ظهور التخلف العقدي، والذي ترتب عليه التخلف العلمي، والحضاري، والاقتصادي، والسياسي، والحربي في حياة الأمة الإسلامية في قرونها المتأخرة [5].


لقد كانت الحضارة الإسلامية حضارة روحية، ومادية في الوقت ذاته، حضارة ملتزمة بما أنزل الله، تُمارس نشَاطَها الإنساني في الاتجاهات كافة دون أن تحتاج ـ لتحقيق ذلك ـ أن تكفُرَ بالله، ولا أن تنبذ أخلاقَها وتقاليدَها.


ولكنّها سنة الله، فإذا اتبع الناس أهواءهم، وحكّموا عقولهم، وغيّروا ما بأنفسهم، غير الله ما بهم، فمِن عِز إلى ذُلٍ ومِن عِلمٍ إلى جَهلٍ، ومِن تَقدّمٍ إلى تَأخُّرٍ، وما كان التخلف والانحطاط في الأمة إلاَّ بسبب ما وقعت فيه من انحرافات كبيرة، من أخطرها ما كان في قضايا العقيدة، ومن ذلك إهمال الأمة لمعاني توحيد الألوهية مما ترتب عليه،


شيوعُ الشرك وانتشارُه في كثير من بلاد الإسلام، والانحراف في مفهوم القضاء والقدر ففُهم أن معناه الاستسلام للواقع، حيث هو نتيجةٌ لتقديرِ الله السابق وقضائِه النافذ، فلا يجوز تغييره، فأدى بهم هذا الفهم إلى نتائج سيئة، فتُرِك الجد في العمل، وتُركت محاولات تغيير الواقع السيىء، وكان السكوت عن المنكر بحجة أنَّ هذا قضاءُ الله وقدرُه، فانتشر الفساد، وقُويت الصوفية وروّجت لمفاهيم مغلوطة في كثير مِن بلدان العالم الإسلامي.


ومن الانحرافات أيضاً في المجالات العلمية : إبعاد العلوم الدنيوية، من طب، وفلك وصناعة، وتجارة، ونحوها مِن أن تُدرَّس إلى جانب العلوم الشرعية...، وغيرها من الانحرافات في مجالات الحياة المختلفة [6].


فالمسلمون ـ وللأسف ـ في تلك الأوقات لم يُضيّعوا ساعات وأياماً، بل ضيعوا أحقاباً وأجيالاً، انتهزت فيها الشعوب الأوروبية النصرانية كل دقيقة وثانية، وسارت سيراً حثيثاً في كل ميدان من ميادين الحياة، وقطعت في أعوام مسافة قرون.


السبب الثاني : الانبهار بحضارة الغرب، مما أدى إلى الأخذ عنها بلا تمييز:


وهذا الانبهار بحضارة الغرب النصراني حدث للمسلمين كردة فعل بسبب ما وجدوه من تقدم غربي نصراني كبير علمياً وحضارياً، وهم متخلفون عنهم في ذلك مع وجود جهل عام بين المسلمين في مسلمات أمور العقيدة الإسلامية؛ مما جعل هذا الانبهار يتقدم أثرُه إلى أن يصير هزيمة نفسية وإعجاباً أعمى بكل ما عند الغرب النصراني من أمور.

حتى لقد دعى أحد أبناء المسلمين، وهو الدكتور طه حسين، إلى تناول الحضارة الغربية بقَضِّها وقَضِيضِها، حُلْوِها ومُرِّها[7]، وذهب آخر، وهو الشيخ الأزهري (الفرنسي) رفاعة رافع الطهطاوي، إلى أنه لا بد أن تتوثّق العلاقات بين المسلمين وبين الدول الغربية النصرانية وعدّ ذلك شرطاً لتحقيق التمدن المنشود[8].


فهذه ـ ولا شك ـ مناداة بالتقليد والتبعية العمياء حَوّلت شعور كثير من المسلمين إلى الانبهار بالغرب النصراني وأن أبناءَه أصبحوا هم السادة والقادة والروّاد، وتلك هي الطامة الحقيقية.


فقد كان هذا الانبهار بالغرب وحضارته بين عموم المسلمين سبباً في تجرؤ أصحاب المنهج التغريبي بإبراز ما عِندَهُم من آراء وأفكار تدعو إلى تغيير المجتمع المسلم بالاقتداء بالغربِ النصراني وحضارتِه الفكرية والمادية، بل وصل الأمر ببعضهم أن يتجاهل الإسلام بالكلية في أطروحاتِهم وآرائهم.
لِذا فقد تطرق رجالات التغريب (من أبناء المسلمين نسباً وجسداً، وهم أبناء الغربيين النصارى فكراً وثقافةً ومنهجاً)، إلى مواضيع متشعبة خطيرة وحساسة فيما يتعلق بالدين الإسلامي، وعقيدتِه، وشرائِعه، وآدابه، ومروراً بمجالات الحياة المختلفة،


وعملوا على تشويه التاريخ الإسلامي الناصع البياض، وإظهاره بمظهر التاريخ الأسود الحاقد على البشرية، وتشويه صورة أبطال الإسلام الحقيقيين، لا الملمّعين زوراً وبهتاناً، خاصة من له دور في الفتوحات الإسلامية المشرِّفة، وهزيمة الصليبيين، وهم كُثر، والحمد لله ـ أسأل الله أن يُكثّرهم ـ كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعماد الدين زنكي، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، ومحمد الفاتح... وغيرهم من جنود الله المجاهدين، وإظهار هؤلاء الأبطال بمظهر غير لائق، وغير حضاري.

 


كما أنهم بحثوا في أُمورٍ كثيرة تتعلق بالمجتمع الإسلامي؛ لتحويله إلى مجتمع مدني علماني، لا يُقيم للشريعة وزناً في حياته اليومية، ومن هذه الأمور: الدعوة إلى فتح المجالات للاختلاط، والسفور، والبرامج الهابطة للمرأة المسلمة العفيفة باسم تحرُّرِها، تحرّرها ممّ ماذا؟! تحرّرها من أحكام الشريعة الطاهرة التي تصنع مجتمعاً عفيفاً طاهراً متماسكاً، وأُسرةً مصونةً طاهرةً!.


وغيرها من المواضيع التي طَرَقها أولئك التغريبيون من أبناء المسلمين ضد أُمِّتهم الإسلامية، أُطروحات مشبوهة ماكرة على كُلّ الأصعدة، وفي كُلّ المجالات الدينية، والسياسية، والوطنيّة، وغيرها من المجالات التي يدَّعُون أنهم دُعاةُ إصلاحٍ فيها، ومريدو خيرٍ لأمتهم من خلالها،

 

وهم في حقيقتهم دُعاة فسادٍ فيها، ومريدو شرٍّ لأمتهم من خلالها بضياع هُويتهم الإسلامية، وعدم استقلالهم بما عندَهُم من خيرٍ عميم، ووضوحٍ لا يشوبه غبش، ومنهج مستقيم لا يعتريه اعوجاج، وسحبهم أمتهم الإسلامية إلى تبعية مقيتة للغرب النصراني، وتربيتهم على هزيمة نفسية قد تُؤثّر ـ بل أثّرت ـ في أجيال إسلامية عديدة حاضراً، ومستقبلاً، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم لاَ تُفسِدُوا فِي الأَرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ . أَلاَ إِنَّهُم هُم المُفسِدُونَ وَلَكِن لاَ يَشعُرُونَ} [البقرة:11-12].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ) منهج البحث في الإسلاميات لدى المستشرقين وعلماء الغرب، ص 32، محمد البشير مغلي.
[2] ) رؤية إسلامية للاستشراق، ص7، أحمد غراب، الإسلام والمسلمون بين أحقاد التبشير وضلال الاستشراق، ص 90، د. عبد الرحمن عميرة.
[3]  السنة مع المستشرقين والمستغربين، ص 354، د. تقي الدين الندوي، من ضمن بحوث كتاب : الإسلام والمستشرقون. بتصرّف.
[4] موسوعة المستشرقين، ص 311 إلى ص 320، د. عبد الرحمن بدوي.
[5] انظر في تفصيل هذا السبب وبيان كيفية ظهوره، إلى : واقعنا المعاصر، للأستاذ محمد قطب، والانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، وآثارها في حياة الأمة الدكتور: علي بن بخيت الزهراني.
[6] الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين، 1/125 ـ 126، د. سعيد الزهراني.
ومن القصص المحزنة في الانحرافات العلمية في القرن الماضي : ما حدث في المدينة المنورة أن الشيخ حسن بن حسين الأسكوبي أقام على سطح منزله مرصداً فلكياً، جلبه من أوروبا فثار عليه علماء المدينة، ونظم أحدهم (عبد الجليل برادة) رجزاً فيه، أوله :
ما قولكم في شيخنا الأسكوبي يبيت طول الليل في الراقوب
يرقب منه الفلك الدّوارا مشابهاً في فعله النصارى
وهاجموا بيته فأنزلوا ما على سطحه من مناظير وإصطرلابات وزوايا، فاعتزل الناس ومرض حتى توفي عام 1303. انظر : الانحرافات العقدية والعلمية، ص 786.
[7] مستقبل الثقافة في مصر، ص 46، الدكتور طه حسين.
[8] جذور الانحراف في الفكر الإسلامي المعاصر، ص 14، جمال سلطان.
وطلب الخضوع للغرب النصراني انتشر بين كثير من أبناء المسلمين الذين درسوا في جامعات الغرب النصراني ومعاهده في القرن العشرين، حتى لا نستطيع أن تستثني دولة إسلامية نجت من هذه المطالبات الماكرة، وهذه المناداة والمطالبات أوقعت علماء الأمة الصادقين ورجالها المخلصين في ضيق وحرج مع حكوماتهم وبعض أبناء شعوبهم المستغفلين.

محمد بن علي آل عمر الزيلعي