أُذُنُ المخالف

قد ينصبُ المخالف شراكًا كثيرة، ويثير معارك جانبية صغيرة، فإذا ما انشغلنا بها؛ كان ذلك على حساب القضايا الكبرى، وتقريرها، ودعوة الناس إليها.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

يحظى الخطابُ الإسلامي بجماهيرية واسعة، وهو بهذا يعيش فرصةً تاريخيةً ؛ لأن يُقدم خطابًا حضاريًّا رائدًا، وأن يقودَ هذه الجماهير، إلى حيث النهضة والتقدم.

غيرَ أن الخطابَ الإسلاميَّ، مشغولٌ عن جماهيره بمخالفيه، وهو ما يؤذن بضياع هذه الفرصة. إذ أنه بهذا الانشغالِ، يفقدُ قيمتين، فقدانها في خطابه يُعد خسارةً كبيرة، وهي البناءُ والوضوح.

إذا تأملنا خطابَ القرآنِ، وهو ما ينبغي فعلُهُ دائمًا. نجد توافرًا لهاتين القيمتين:

* لنبدأ بقيمة الوضوح:

التوحيد وهو القضية الجوهرية، في دعوة الإسلام، تم تقريره بأساليب متنوعة، وحُجَجٍ متعددة؛ للحد الذي جعله واضحًا، حتى عند المخالفين والمختلفين معه، فضلًا عن الموافقين: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].

ولا يتوقف وضوح القرآن، عند تقرير الحق الذي جاء به، بل يمتد هذا الوضوح، في نقض ما يتعارض مع هذا الحق، وتفنيد ومناقشة حججه، والرد عليه.

فإذا كان الوضوحُ في التقرير، يفيدُ في جلب الأتباعِ، وإقناعِ المحايدين؛ فإن الوضوحَ في الردِّ، يفيدُ المشككين، ومَن لديهم شبهات ورواسب، تمنعهم من اتباع الحق الذي جاء به.

إن الوضوحَ في القرآن، يصلُ إلى حدِّ المفاصلةِ، ورسمِ الحدودِ بينَه وبين المخالفين، والتمايُزِ عنهم، حتى إذا أراده من رغبَه، وآمنَ به، وبدعوتِه، عرفَه من بينهم، ولم يختلط بغيره.

نزل القرآن، ومن أكثر القضايا جدلًا واختلافًا: عيسى عليه السلام. فلم يقدم فيه خطابًا رماديًا، يدَّعيه كل طرف، بل جاء وبكل وضوح ليقول: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ رَ‌سُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْ‌يَمَ وَرُ‌وحٌ مِّنْهُ} [النساء:171]، ليتفاصل بذلك مع اليهود، الذين يقولون فيه قولًا عظيمًا، ولا يؤمنون بنبوته، ويقول: { ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُ‌ونَ. مَا كَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ} [مريم من الآيتين:34-35]، ليتفاصل بذلك مع النصارى، الذين جعلوه ابنًا لله، تعالى الله عما يقولون.

للإسلام فلسفتُه الخاصة في التعاملِ مع الخلاف والمخالف، المنبثقة من التفريق بين وجود المخالف، وبين ما يقوله ويعتقده. فمِن حيث الوجود، فيراه الإسلام حتميًّا: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118]، لكن ذلك لا يقوده إلا تجنب الحوار معه حول القضايا المختلف حولها، وهو بهذه النظرة تجنَّب سبيل المتحسسين من الخلاف، والمتهربين منه، تارةً بعدم الاعتراف به، ورفض التعايش معه. وتارةً بتجنُّب مواطن الخلاف، وعدمِ الخوض فيها، والاكتفاءِ بالمنطقةِ المشتركة.

بهذه النظرةِ الواقعية، تعامَلَ الإسلامُ مع المخالفِ بكلِّ وضوح، فلم تٓعُدْ مجاملتُه، أو محاولةُ اجتثاثه مُجدية؛ لأن الخلاف واقعٌ ولابد.

يتعاملُ الإسلامُ مع المخالفِ، بجديّةٍ، وصدقٍ ووضوح. ففي عالم الأفكارِ، والمبادئِ، وتقريرِها ومناقشتِها؛ يصبحُ الحديثُ حولَ المشترك الذي يكون مجديًا في غير هذا الموطن والاكتفاءُ بذلك نوعُ تضليلٍ، ومواربةٍ، تتناقضُ مع طبيعةِ الإسلام ِ الصادقِ الواضح.

هدايةُ المخالفِ مقصودةٌ للإسلام، وليست مجاملتهُ. وهذا يستلزم بيان مواطن الخلاف معه والخطأ.

اختلالُ هذه القيمة، قيمُة الوضوح؛ من مظاهر المبالغة، في استشعار أُذُن المخالف، التي تجعل الخطاب ينزع للحديث عن المشترك. وهذا ضار بالمخالف والمتابع على حد سواء؛ لأن من أهم ما يعرف بنا، ليس الحديث عن المشترك، وإنما رأينا الواضح في المختلف حوله.

* القيمة الأخرى، قيمة البناء:

المساحة الأوسع في القرآن، ليست للرد، والتصدي للمخالف؛ بل لبناء الأفكار، والتصورات، وسن التشريعات، وغرس القِيَم والأخلاقيات في النفوس، حتى يُخَيَّل إليك، وقد انصرف القرآن، لأتباعه بكل هذا، أن لا مخالف على وجه الأرض.

المخالفُ ليس هو قضيةُ القرآن الأولى، وخاصة المعاند، فلا معنى للانشغال به، على حساب تبليغ دين الله، {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ‌ وَأَعْرِ‌ضْ عَنِ الْمُشْرِ‌كِينَ} [الحجر:94].

عاتَبَ الله سبحانه وتعالى، نبيَّه الكريم عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم؛ عندما انشغل عمَّن أراد أن يتزكى، بمن استغنى، {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ. أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ. وَمَا يُدْرِ‌يكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ. أَوْ يَذَّكَّرُ‌ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَ‌ىٰ. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ. فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ. وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ} [عبس الآيات:1-7].

دار حوار بين موسى عليه السلام، وفرعون، وهذا نصه:

{قَالَ فِرْ‌عَوْنُ وَمَا رَ‌بُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَ‌بُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ. قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ. قَالَ رَ‌بُّكُمْ وَرَ‌بُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ إِنَّ رَ‌سُولَكُمُ الَّذِي أُرْ‌سِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ رَ‌بُّ الْمَشْرِ‌قِ وَالْمَغْرِ‌بِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ. قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَـٰهًا غَيْرِ‌ي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ} [الشعراء الآيات:23-30].

لاحِظْ، كيف أن موسى عليه السلام صامدٌ إلى هدفه وقضيته، ولم ينشغل عنها، بمجادلة فرعون، واتهامه له بالجنون أو تهديده له بالسجن.

قد ينصبُ المخالف شراكًا كثيرة، ويثير معارك جانبية صغيرة، فإذا ما انشغلنا بها؛ كان ذلك على حساب القضايا الكبرى، وتقريرها، ودعوة الناس إليها. وتزداد المصيبة، عندما نعتقد أننا بهذه المعارك الجانبية، نخوض معركتنا الكبرى والمصيريَّة، وأن كلَّ قضيّةٍ ومسألةٍ، مهما صغُرت، فهي محل للوضوح، والمناجزة، والمفاصلة.

إن مظهرَ المُجاملةِ مع المخالف، الذي يُخِلّ بمبدأ الوضوح. ومظهرَ الانشغالِ التامِّ بالمخالفين والمعاندين، الذي يُخِلّ بمبدأ البناء. كلُها بسبب حضور المخالف الطاغي لدينا، الذي تحول إلى حاجز يحول بيننا وبين الجماهير. فينبغي أن ننعتق من ذلك، ونتحرر من عقدة المخالف في خطابنا.

فلدينا الكثير الكثير مما ينبغي أن يقال...

وهناك الكثير الكثير ينتظرون...

 

 

سلطان الجعيد

المصدر: موقع اﻹسلام اليوم.