أين هم...؟

إن من الخطأ أن نجعل المخالفة من أجل المخالفة، أو التأييد من أجل التأييد؛ معيارًا لمعرفة الصواب، حيث هذا من شأنه أن يُخرج لنا أناسًا يتربصون بإخوانهم الدوائر، ويصبح المشهد أمامهم يتمثل في هذا من شيعتي وهذا من عدوي.

  • التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -

إن من مقومات الحراك الثقافي الواعي: أن يعمل على تحرير الأسئلة بشكل جيد، ومن ثَمَّ الإجابة عنها، إذا تحقق ذلك فنحن أمام حركة ثقافية واعية وواعدة، وهي الأقدر على تأسيس خطاب حضاري حقيقي، يسهم في إيجاد الحلول و إيقاظ الأمة من رقدتها، ويقدم نموذجًا يتناسب وعظمة الإسلام وتاريخه المجيد.

ومشهدنا الثقافي ليس في منأى، فهو الآخر يتمحور حول أسئلة، وهي بدورها تشكل هويته الثقافية.

بَيْدَ أن هذه الأسئلة لا نحتاج إلى معرفتها في كل مرة، وليست متجددة بتجدُّد معطيات الزمان والمكان، فهي كلها تتمحور حول سؤال واحد محدد مسبقًا وبشكل مذهل، ألا وهو:

أين هم؟

أي: أين يقف التيار الذي أنتمي إليه، أو الذي أخالفه حتى يتم تحديد وصياغة الأجوبة إما مع أو ضد.

إن التأييد المطلق والرفض المطلق لهذا الطرف أو ذاك، هو ضرب من ضروب تعطيل العقل، حيث إن نصيب العقل من التفكير والحال هذه ينحصر فقط في معرفة وتحديد مواقع الصفوف.

إن من الخطأ أن نجعل المخالفة من أجل المخالفة، أو التأييد من أجل التأييد؛ معيارًا لمعرفة الصواب، حيث هذا من شأنه أن يُخرج لنا أناسًا يتربصون بإخوانهم الدوائر، ويصبح المشهد أمامهم يتمثل في هذا من شيعتي وهذا من عدوي.

في نظري القاصر أن مع أو ضد -وهي لابد أن تحدُث- يجب أن تكون نتيجة، وليست معيارًا أو دليلًا.

ولعل في القرآن إشارة إلى التفريق بين الرغبة في الإصلاح والرغبة في المخالفة على لسان شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِ‌يدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِ‌يدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (البزار، وصححه الألباني).

وأنا هنا لا أتحدث بشكل عام، أو أني أدعو إلى إعمال العقل في كل شي، وإنما حديثي محصور في الدائرة التي يسوغ فيها التفكير والاجتهاد، والمقام فيها متردد بين الصواب والخطأ وليس الحق والباطل، والتي إطارها الوحيين وقواطع الشريعة، حيث إن هذا الاطار مقامه الإيمان والتسليم، وليس فيه ما يناقض العقل، ومَن أراد أن يجرب فليفعل فسيرتد إليه عقله خاسئًا وهو حسير، كما ارتد من قبلُ البصر،حيث إن الله قد أحكم أمره كما أحكم خلقه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ‌ ۗ تَبَارَ‌كَ اللَّـهُ رَ‌بُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].

وهو إطار بانسجامه الإيماني والعقلي يمثل شرعية، تضمن كثيرًا من الحرية في التفكير وضمانه من الفوضى الفكرية التي تفتقر إلى محددات للهوية الثقافية.

إن المواقف المطلقة والتحولات المطلقة، هي حتمًا ستوقع صاحبها في كثير من الخطأ، وتُفْقِده كثيرًا من الصواب، إذ لا يمكن تصوُّر أن يحصل أي طرف على الصواب دائمًا في كل اجتهاداته ومواقفه.

إن من أكبر خصائص العقول الحدية اعتقادها أن الصواب كل لا يتجزأ -كحال الخوارج مع الإيمان-، فما أنْ يتبين لأحدهم خطأه في موقف أو رأي أو صواب غيره؛ حتى تتهاوى منظومته الفكرية بأكملها، ولذلك تجد احتفاءه بأخطاء المخالفين؛ لأننا نعتقد أنها أدلة كافية لإسقاطهم وبيان فساد مسلكهم، ولعل هذا يساعد في تفسير التحولات الكاملة والجذرية من أقاصي اليمين إلى أقاصي الشمال، ولذلك لا تعدم أن تجد قواسم مشتركة بين هؤلاء وسلفهم من الخوارج، خاصة في القسوة والغلظة والجرأة.

وبما أن التمثيل ساقنا إلى الخوارج ورأيهم في الإيمان، في توصيف المشكلة؛ فلعلنا نمثل للحل برأي أهل السنة في الإيمان، وأنه يتجزأ؛ فكذلك الصواب يجب النظر إليه أنه هكذا، وهذا يجعلنا أقدر على استيعاب الناس، ويضمن لعقولنا التحرك والبحث عن هذا الصواب.

وفي تاريخنا شاهد يحفزنا على الحل، ويفتح أمامنا بابًا من الأمل، فيتجاوز هذا الواقع، وهو حقبة التعصُّب المذهبي، فكما أنه قد تم نبذ تبني مذهبًا بكل أخطائه وشذوذاته، وأصبح هناك احتكامًا إلى الدليل، وانتقاء واعيًا، فكذلك يجمل بنا أن نتجاوز التعصُّب المعاصر بين الجماعات والتيارات والاتجاهات.

إن التعويل اليوم على العقل المؤمن الناضج الذي يُحسِن التفريق بين محكمات الشريعة ومحكمات التيار، ويعرف متى يحسن الإيمان والثبات، ومتى يحسن الجدال بالتي هي أحسن، مع سلامة الصدر وعفة اللسان.

إننا لا نزال نضحك على تلك الصورة التاريخية أن يمتنع الحنفي من تزويج الشافعي، أو العكس، والسؤال هو: هل سنفلح في تجنُّب ضحكات الأجيال اللاحقة؟!

{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:5]. 

 

 

سلطان الجعيد

المصدر: موقع اﻹسلام اليوم.