التوبة سبيل الفلاح
عثمان بن محمد الخميس
لقد قرر أن يتوب إلى الله، نعم قرر التوبة إلى الله، فغطى رأسه بجبته ثم قال: رب عصيتك أربعين وسترتني أفتفضحني اليوم؟! اللهم إني تبت إليك اللهم اسقنا الغيث ولا تفضحني اليوم.
- التصنيفات: التوبة -
من منا لا يريد الفلاح والنجاح، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، إن الإنسان إذا عرف سبيل الفلاح بذل كل شيء في سبيل تحصيله، نعم كل شيء.
قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور من الآية:31] فنرى أن الله تبارك وتعالى علق الفلاح بالتوبة، وهذا يعني أنه لا فلاح بدون توبة، وكيف يفلح من وصف بالظلم، وسمي به؟
قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الأحزاب من الآية:11] نعم ظالمون، هكذا سماهم الله تبارك وتعالى، ولا يفلح الظالم أبدًا.
ولكن أين وجه الظلم في عدم التوبة؟
إن الظلم متحقق في أمور منها:
1- ظالمون لجهلهم بربهم، وشديد عقابه، وسوء عاقبة من يأتي ربه ظالمًا.
2- ظالمون لأنفسهم لجهلهم بعيوبها ؛ حيث أعرضت عن الفلاح وأقبلت على الظلم.
3- ظالمون لجهلهم بمآلهم وعاقبة الظلم وأهله.
4- ظالمون لجهلهم بسعة رحمة ربهم وشدة فرحه بتوبة عبده، وما يترتب على هذا الفلاح من الرحمة والمغفرة.
وقفة مع فرح الله بتوبة عبده:
قصة موسى مع بني إسرائيل لما خرج للاستسقاء:
يذكر أن موسى خرج يستسقي ببني إسرائيل، وكانوا سبعين ألفًا، وكان في السماء بعض سحاب، فقام نبي الله موسى عليه السلام يدعو وبنو إسرائيل يؤمِّنون على دعائه، وفجأة بدأ السحاب يتفرق، وكانت مفاجأة لا يتوقعها أحد. كيف لا يجيب الله دعاء كليمه موسى عليه السلام؟ وعندها قال موسى مناجيًا ربه: رب ما عودتني هذا، وإنما عودتني إذا دعوتك أن تجيب دعائي، فجاء الجواب من الله جل في علاه: يا موسى إن بينكم عبدًا لي عصاني أربعين سنة، وإني لن أسقيكم ما دام بينكم، فمره يخرج حتى أسقيكم. فقال موسى: رب وكيف لي به؟ أعلمني إياه حتى أخرجه. فقال له رب العزة والجلال: بل ناد في بني إسرائيل: يا من عصيت الله أربعين سنة أخرج من بين أظهرنا حتى يسقينا الله. فقال موسى: رب، وأنّا لي أن يبلغهم صوتي وهم سبعون ألفًا؟ قال: يا موسى عليك النداء وعلينا البلاغ. فجمعهم موسى في صعيد واحد، ثم قال لهم ما أمره به ربه جل وعلا، فصار الناس ينظر بعضهم إلى بعض، وكل يرجو ألا يكون هو المراد، ولكن لم يخرج أحد، فأعاد موسى النداء ولم يخرج أحد، وأعادها الثالثة وقال: ويلك يا من عصيت الله أربعين سنة، سيهلك الناس بسببك فاخرج من بين أظهرنا.
وكان الرجل المقصود ينتظر في كل مرة ينادي فيها موسى أن يخرج غيره ويتمنى أن لا يكون هو المَعني بكلام موسى، ولكن في المرة الثالثة أيقن أنه المراد، وخاف الفضيحة، وصارت نفسه تراوده ويراودها، هل أخرج حتى لا يهلك الناس؟ أو أبقى حتى لا أفضح؟ وبينما هو كذلك متردد بين الخروج وعدمه قرر أمرًا ثالثًا خطر في باله، ترى ما هو؟
لقد قرر أن يتوب إلى الله، نعم قرر التوبة إلى الله، فغطى رأسه بجبته ثم قال: رب عصيتك أربعين وسترتني أفتفضحني اليوم؟! اللهم إني تبت إليك اللهم اسقنا الغيث ولا تفضحني اليوم.
المفاجأة:
وخلال لحظات وإذا السحاب يجتمع من كل مكان ويتآلف بينه، والناس ينظر بعضهم إلى بعض، وينظرون إلى موسى، وينظر موسى إليهم، ترى أين موعود الله؟ ألم يقل موسى إن الله لا يسقينا حتى يخرج الرجل؟ ولم يخرج أحد!
ونزل المطر وسقى الله العباد.
فقال موسى مناجيًا ربه متعجبًا: رب سقيتنا ولما يخرج الرجل وأنت قلت لن تسقينا حتى يخرج!
فقال الله لموسى: يا موسى إنما سقيتكم بالذي منعتكم به.
فقال موسى: كيف ولم يخرج الرجل؟ فقال الله: يا موسى لقد تاب الرجل.
فانظروا -يا رعاكم الله- كيف أن هذا الرجل بعد أن منع الناس القطر بسببه وسبب ذنوبه سقاهم الله بسببه وسبب توبته، فصار وليًا من أولياء الله مجاب الدعوة بكلمة قالها ولكن بصدق.
عند ذلك أحب موسى أن يرى هذا الرجل فقال: رب أرني إياه يكون من خاصتي، فكان الجواب من الله جل وعلا: يا موسى عصانا فسترناه أفإن تاب إلينا فضحناه.
عود على بدأ:
فالله سبحانه وتعالى يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا، قربه لنا النبي صلى الله عليه وسلم بمثال جميل حيث قال: إن الله يفرح بتوبة عبده، ومثل ذلك برجل فقد راحلته في أرض مقفرة وعلى راحلته طعامه وشرابه حتى أيقن الرجل أنه هالك لا محالة حيث لا طعام ولا شراب في مفازة لا يعلمها إلا الله فجاء إلى شجرة فنام تحتها ينتظر الموت قد يئس من الحياة، وبينما هو كذلك جاءت ناقته وجعلت خطامها في يده، فقال فرحًا مسرورًا لأن الحياة قد عادت له من جديد، وتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم وجعلت خطامها في يده ولم يقل اقتربت منه ولا قال رأها بل وضعت خطامها في يده، وكان أثر ذلك عظيمًا عليه إذ قال عند ذلك: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ من شدة الفرح! ونحن نقول في كلامنا خلط في كلامه وأصابته هستيريا لا يتمالك نفسه ولا يدري ما يخرج من رأسه وكل ذلك بسبب الفرح الشديد الذي تملكه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يفرح بتوبة عبده وتوبة أمته أكثر من فرح هذا بناقته، ولكن طبعًا بدون تشبيه إذ فرح الله فرح بر وإحسان، فرح غير محتاج، بخلاف ذلك الرجل. إذ ربنا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
إن الإنسان مهما فعل في حياته من المعاصي والذنوب فإنه إذا تاب إلى الله تاب الله عليه بل إن كل شيء نخاف منه نفر منه إلا الله جل وعلا فإننا كلما خفنا منه فررنا إليه، وهكذا نرى أكثر الناس فرارًا إلى الله هم العلماء كما قال جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر من الآية:28] فالعلماء أكثر الناس خشية وبالتالي أكثر الناس فرارًا إلى الله، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات من الآية:50].
تعالوا معي ننظر إلى صبي صغير آذى أمه وأزعجها حتى نفد صبرها وهمت أن تضربه ففر منها وليس إليها بل منها ولحقت به محاولة إمساكه ولكنه فر وأفلت وما زال كذلك حتى خرج من المنزل وهي خلفه، ثم توقفت ورجعت إلى بيتها وصار الولد يلتفت فإذا أمه ليست خلفه ففرح بذلك فرحًا شديدًا حيث نجا من الضرب، ولكن إلى أين يتجه؟ وإلى متى؟ وبينما هو كذلك إذ أقبل عليه الليل يرخي سدوله فتملكه الخوف خوف الظلمة وخوف الوحدة وخوف المجهول وعلم علم اليقين أن ضرب أمه وعذابها أخف عليه مما ينتظره أخف عليه مما ينتظره، عندها قرر الرجوع إلى أمه مع ما يتوقعه من العقاب لكنه على كل حال أخف عليه من غيره، هذا حال الغلام فما حال الأم؟ ظلت الأم تنتظر ولدها حتى يعود وتملكها الخوف عليه حتى ندمت على تخويفه بالضرب وقالت ليتني وليتني، وكانت بين فترة وأخرى تنظر من النافذة وأحيانًا تفتح الباب وتقول لعله يعود ولعله يرعوي ويرجع، منشغل فكرها عليه ترى ما حدث له؟ من أخه؟ أين سينام؟ ماذا سيأكل؟
وأما الغلام فذكرنا أنه قرر الرجوع إلى البيت ولكنه لم يجرؤ على الدخول أو طرق الباب فما زال خائفًا من أمه... فجلس على عتبة الباب، وبينما هو كذلك غلبته عيناه فنام، وأما الأم فإنها فتحت الباب كعادتها لتنظر في الظلام! ترى أين الغلام وكانت المفاجأة لقد وجدته نعم وجدته، إنه نائم على عتبة الباب فلم تتمالك نفسها فأخذته وضمته إلى صدرها، وصارت تلثم وجهه بالقبلات وتقول: أي بني إن الله فطرني على محبتك وجبلني على الشفقة عليك فلا تدفعني بشقاوتك إلى مخالفة ذلك.
أرأيتم -يا رعاكم الله- كيف فرحت هذه الأم برجوع ولدها إليها وتركت معاقبته؟ أترون هذه الأم أرحم بولدها من ربنا؟ أبدًا إن الله أرحم بنا سبحانه وتعالى.
ولنعلم جميعًا أن التوبة واجبة على الفور ومعنى هذا أننا يجب أن نتوب إلى الله بمجرد أن تزل القدم ونقع في المعصية في فعل محرم أو ترك واجب، فالمبادرة بالتوبة واجبة، فإن وقع شيء من التقصير وتأخرنا في التوبة لزمتنا توبة أخرى وهذه يغفل عنها كثير من الناس فإنهم يتوبون إلى الله من معاصٍ وقعت منهم منذ زمن وينسون أن يتوبوا من تأخير توبتهم.
وكذا علينا أن نعلم أن رحمة الله واسعة وأن توبة العبد تقع بين توبتين من الله، ومعنى هذا أن الله ابتدأ يتوب علينا حيث يوفقنا للتوبة وذلك أن ليس كل أحد يوفق للتوبة فإذا وفقنا وأعلنا التوبة فإنه جل وعلا بعد ذلك يقبل توبتنا قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة من الآية:118]، إذًا تاب عليهم ثم تابوا ثم أخبر أنه تواب رحيم.
ويظن البعض أن التوبة إنما تكون عندما تقع منه كبيرة أو جريمة، وما علم هؤلاء أن المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه كان يتوب إلى الله في اليوم أكثر من مئة مرة ويحسبون له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة أستغفر الله وأتوب إليه وهو المعصوم! وهو الذي قال الله له: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح من الآية:2] ترى كم مرة في اليوم نتوب إلى الله، بل قد يمر علينا اليوم واليومان والجمعة والجمعتان والشهر والشهران ولما نقل مثل هذا الكلام فالله المستعان الغوث الغوث ربنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
وللتوبة شروط وعلامات:
فشروط التوبة خمسة:
1- الإقلاع: فلا تصح التوبة من هو واقع في الذنب متمسك به كأن يكون كأس الخمر في يده ويقول: اللهم إني تبت إليك أو يكون المال المسروق عنده ويقول: إني تبت إليك.
2- الندم: جاء في الحديث: الندم توبة. وذلك أن الإنسان إذا وقع في المعصية لا بد ان يشعر بالندم والأسى والحزن والضيق لأنه عصى جبار السموات والأرض، وأنه سقط من عين الله حيث تركه يعصيه ولم يمنعه وهو سبحانه يملك ذلك.
3- العزم على عدم العودة للذنب مرة ثانية، بحيث إنه يجزم بهذا فلا يصح مثلًا أن تقع منا الغيبة في مجلس فنمسك ونندم ولكننا عازمون على ذكرها في مجلس آخر بل لا بد من العزم عل عدم العودة للذنب.
وهنا لا بد أن نفرق بين العزم على عدم العودة وبين العودة نفسها فلو قدر أن أحدنا تاب إلى الله صادقًا وتحقق له الإقلاع والندم والعزم ولكن ضعف ورجع إلى الذنب مرة ثانية. فإن هذا لا يفسد التوبة الأولى وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه حيث قال: «
»، قال عبدُ الأعلى: لا أدري أقال في الثالثةِ أو الرابعةِ « » فالعودة للمعصية لا تنافي قبول التوبة الأولى.4- إن كان هناك حقوق للناس فإنه يجب عليه أن يعيدها لهم فإن كانت أموالًا ردها عليهم وإن كانت حقوقًا معنوية كأن يكون اغتابهم أو نم عليهم أو افترى أو غير ذلك. فإنه يستغفر لهم ويذكرهم بخير في الأماكن التي عابهم فيها.
5- أن تكون في وقتها أي قبل أن تصل الروح إلى الحلقوم. قال رسول الله تقبل توبة العبد ما لم يغرغر. وقال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء من الآية:18]. ولذلك لم يقبل الله توبة فرعون مع أنه قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس من الآية:90].
وأن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها قال تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام من الآية:185]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
».أما التوبة النصوح فإنها تختلف عن التوبة الأخرى فإنها تزيد بأنها تعتمد على التعميم ولذا كان من توبة النبي صلى الله عليه وسلم التي علمنا: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله علانيته وسره.
والآن لا بد من تساؤل فإذا كانت التوبة لها هذا الأجر العظيم وهي ايضًا يسيرة جدًا فلم يغفل عنها كثير من المذنبين؟
ذكر أهل العلم أن للتوبة آفتان الأولى احتقار الصغائر والثانية التسويف.
وهاتان الآفتان نرجئ الكلام عنهما إلى مقالتنا القادمة بحول الباري.
ولكن الذي أردت الآن هو أننا في ايام مباركة وهي العشر من ذي الحجة وعمل مبارك وهو الحج لمن تيسر له. فعلينا أن ببادر بالتوبة إلى الله.
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور من الآية:31].