الخرائط الإدراكية لبعض أتباع الحركات الإسلامية المعاصرة

عمرو عبد البديع

لكل إنسان مجموعة من الأفكار والصور والانطباعات والخبرات المتراكمة والتصورات المسبقة التي تُشكل ما يسمى "الخريطة الإدراكية للإنسان" وعلى أساس هذه الخريطة يرى الإنسان ويفهم ويُفسر الواقع المحيط به ويُهمش بعض الحقائق ولا يُركز عليها، ويُركز على حقائق أخرى يراها الأهم ويعتبرها حقائق مركزية وكل ذلك وفقًا لخريطته الإدراكية.

  • التصنيفات: الفرق والجماعات الإسلامية -

لكل إنسان مجموعة من الأفكار والصور والانطباعات والخبرات المتراكمة  والتصورات المسبقة التي تُشكل ما يسمى "الخريطة الإدراكية للإنسان" وعلى أساس هذه الخريطة يرى الإنسان ويفهم ويُفسر الواقع المحيط به ويُهمش بعض الحقائق ولا يُركز عليها، ويُركز على حقائق أخرى يراها الأهم ويعتبرها حقائق مركزية وكل ذلك وفقًا لخريطته الإدراكية.

مثال: كانت ماري انطوانيت ملكة فرنسا قبل الثورة وابنة الأسرة المالكة في النمسا منعزلة تماما عن الشعب الفرنسي، وتعيش في ترف وبذخ حتى أنها رأت فلاحًا يكاد يموت من الجوع فأشفقت عليه وقالت له: لماذا تتبع نظام رجيم قاسٍ هذا سيضر بصحتك!! وعندما قيل لها أن الشعب لا يجد ما يأكله من خبز فقالت: فلياكل جاتوه!!
فالخريطة الإدراكية لديها مستبعد منها (الجوع والخبز) وحلّ مكانهما (الرجيم والجاتوه) ولذلك تفسر أي ظاهرة حولها على هذه الأسس، وفي النهاية حاصرها الجوعى وشنقوها وربما ساعتها أدركت أن هناك واقعا آخر خارجًا عن خريطتها الإدراكية.

ومن هنا أدرك الصهاينة أهمية هذه الخريطة الإدراكية عند بداية تأسيسهم لدولتهم في فلسطين حيث رسخوا بداخل أبنائهم أن احتلال فلسطين ليس احتلالا ولكنه عودة إلى أرض الميعاد التي بشرت بها التوارة وأنه ليس هناك إلا مجموعة من البدو سيتم إبادتهم كالهنود الحمر أو إخراجهم من أراضيهم وأن أي مقاومة منهم تعتبر عقبة رجوع أمام أرضكم التي نص عليها الوعد الإلهي وليس وعد بلفور، وجدير بالذكر أن هذه الخريطة الإدراكية خطر جدا أن تهتز عند الفرد لأن مع اهتزازها يشعر المرء أنه لا يقف على أرض صلبة بل يشعر أن الأرض تميد من تحت قدميه يضطرب ولا ينتظم سلوكه ومن ثم تحصل انشقاقات وتصدعات داخل التماسك الاجتماعي أو السياسي أو الديني الواحد، لذلك فوجيء بعض اليهود بوجود شعب كبير يقاوم ويدافع بشراسة وأن انتفاضته مازالت مستمرة إلى الآن بل ظهرت تراجعات من مفكرين ورجال دين  صهاينة بأن الصهيوينية تعادي في الأصل الديانة اليهودية.

وبعد هذه المقدمة عن الخريطة الإدراكية إذا أردنا أن نعتمد عليها في تفسير وفهم ممارسات وسلوكيات وتفسيرات بعض أتباع الحركات الإسلامية المعاصرة للواقع الذي تعيشه ويواجهها فسنأخذ مثالا على كل فرد من أحد التيارات الإسلامية (إخواني –  سلفي من حزب النور – سلفي جهادي).
 

  • الخريطة الإدراكية لإخواني منتظم في جماعة الإخوان المسلمين: أنه ابن جماعة إسلامية أصيلة قديمة كانت منبعا لكل الجماعات الإسلامية التي ظهرت بعد ذلك، وأن سبب ظهور هذه الجماعة هو محاولة استئناف الحياة الإسلامية بعد سقوط الخلافة بل ومحاولة العمل على رجوعها أو تيسير رجوعها فحاربت في فلسطين في حرب 1948 وقاومت المستعمر البريطاني في مصر وأن الجماعة في مسيرتها دخلت في معارك طاحنة مع الطواغيت الذين عادوا الإسلام ودفعت ثمنًا باهظًا من اعتقالات وإعدام رموز وقيادات إلى آخره وأنها مع كل ذلك ظلت قائمة وكذلك ظلت تواجه تحديات وصعاب جمة حتى وصل أحد أبنائها إلى الحكم بعد ثورة شعبية وبعد فترة حكم انتقالية للعسكر ومكوث سنة في الحكم ثم تم الانقلاب عليه من قبل العسكر متحالفا مع النصارى والعلمانيين والفلول وجماعة سلفية كبيرة ومستغلا سخط بعض القوى الثورية عليه وأنه لم تتح له فرصة لعمل أي شيء  أو تحقيق أي إنجاز ملموس وتم السعي الحثيث في إفشال تجربته ومعها تجربة الإسلاميين، وأن الكل تآمر على الإخوان بما فيهم تيار سلفي عريض كان يسعى للسلطة وبينه و بين الإخوان حزازات ومنافسات سابقة كانت على المستوى الدعوي والاجتماعي ثم ظهرت على السطح بشكل أوضح  بعد الثورة في شكل سياسي بل ترسبت كل أنواع الاختلافات بينهما في شكلها السياسي، هذا مجمل الخريطة الإدراكية في عقل الأخ المنتظم في جماعة الإخوان المسلمين.
     
  • الحقائق أو المرتكزات التي ربما تكون مهمشة من هذه الخريطة الإدراكية: أن زمن ما بعد الثورة لم يكن ينفع معه المنهج الإصلاحي بل هي لحظة ثورية بامتياز والأسلوب السياسي كان ينبغي  أن يكون عنصرًا فرعيًا وليس عنصرًا أصيلا في أداء الجماعة بعد الثورة وأن السعي في إرضاء كل القوى السياسية والثورية سيكون معول هدم للجماعة وسيشتت عزمها في الوصول إلى غايتها من استئناف حياة إسلامية على جميع المستويات؛ سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وأنه كان ينبغي السعي بشكل أقوى وأعمق في استمالة واحتواء التيارات الإسلامية في مصر أكثر ولا أقول صهرهم في كيان واحد فهذا من الصعوبة بمكان إن لم يكن مستحيلا ولكن على الأقل يكون هناك مستوى عال من التنسيق والترتيب في جبهة واحدة ضد التيارات العلمانية والنصارى والفلول والعسكر، ويكون هناك تنازلا نوعا ما عن قاعدة  تقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة ولو حتى داخل التيار الإسلامي فقط بل رأينا نصارى واشتراكيين وعلمانيين على قوائم انتخابات الإخوان الذين كانوا بعد ذلك رأس حربة ضد الإخوان فلو كان مكان هؤلاء بعض الرموز الكفء من التيار الإسلامي بشكل عام لكانت خطوة في تماسك التيار الإسلامي ورأب أي صدع في حالة مواجهة أكثر من خصم للإسلاميين.

    ومن الأمور التي كانت مهمشة من الخريطة الإداركية  لدى الإخوان أن ليس مجرد الوصول للحكم يعني استقرار بل سيكون هناك أعداء كُثر في انتظارك (وأن أداءك السياسي كحاكم في السلطة سيختلف تماما عنه وأنت معارض) وأن صاحب السلطة الأصل أن الشعب سيتعامل معه بمعارضة ونقد أكثر من ترحاب وتأييد فكان لابد من رسم خريطة لهؤلاء الأعداء أو الخصوم  بالتفصيل وتحديد أيهم الأقوي ثم الأضعف فالأضعف ومن منهم يمكن استمالته ومن منهم يجب القضاء عليه تماما ومن منهم سيرتدع بمجرد رؤية غيره يتم القضاء عليه ومن ثم يتم تنفيذ الخطة من قضاء واستمالة وتحييد خصوم.

    ومن الأمور التي كانت مهمشة من خريطة الإدراك لديهم، هو عدم إطلاق حسن الظن بمن هو غير أهل لذلك بل هو موضع ريبة واتهام و خطر كبير، وكذلك كان لابد إدراك أن هناك أمور لا يمكن المداهنة والتفاوض عليها بل كان ينبغي دوام الصدع بها وعدم الخجل منها حتى إن عجز كليا أو جزئيا عن تطبيقها وهي فيما يتعلق بالشريعة وحاكميتها وأن الصراع مع بعض الخصوم هو صراع حول الهوية والعقيدة أكثر منه صراع سياسي.

    ووفقا لهذه الخريطة الإدراكية المركزية والمهمشة  لدي الإخواني نجد ما يلي: أن روح "المظلومية" تسيطر على ذهنه وسلوكه وأنه يعتبر نفسه صفوة التيار الإسلامي والأجدر على القيادة وأنه دائما يدفع ثمن أفكاره ومعتقداته، لا يصغي جيدا للنصائح والتحذيرات من خارج قيادات جماعته، لديه ثقة مطلقة في قياداته وعلى أساس توجهياتهم تكون صياغته الفكرية وتبريره السياسي لكل ممارسات الجماعة، صلب في الأزمات ودائم تقديم التضحيات، ودرجة الانتماء مرتفعة للغاية لجماعته ومن ثم لأمته وللإسلام لأنه يرى أنه يخدم دينه بشكل أمثل داخل جماعته.

     
  • الخريطة الإدراكية لسلفي من حزب النور: يرى أنه ابن تيار ومنهج تأسس تنظيميا في مطلع السبعينيات من شباب محب لطلب العلم مهتم بتصفية العقائد من الشوائب الشركية والبدعية ملتزما بحرفية القرآن والسنة بفهم السلف الصالح (كما يدعون) ودعوة الناس إليها وانطلقت الدعوة من المساجد وانتشرت في الجامعات المصرية وكانت ثمة أول تجربة للتيار السلفي في مصر يغلب عليها الطابع الحركي على المستوى الدعوي والاجتماعي واعتزل الواقع السياسي لرؤيته أنه عديم الجدوى وسيؤدي إلى نزيف كبير للدعوة وتم التأقلم دعويا مع الواقع السياسي المفروض وعدم الاصطدام معه البتة حرصا على مصلحة الدعوة والحفاظ على منجزاتها، وبالفعل انتشرت الدعوة خلال ثلاثين سنة في جامعات مصر وفي جميع محافظاتها وصار لها صف أول وثان وثالث حتى صارت كيانا لا بأس به بل الكيان السلفي الوحيد المنظم في مصر، ثم بعد الثورة سارعت في المشاركة بالحياة السياسية حيث قد تم تغير الواقع السياسي وزالت العواقب التي كانت تجعل من المشاركة في السياسة أمر لا جدوى منه وبدأت تظهر مراجعات جزئية حول اجتهادات سابقة حول المشاركة في مجالس الشعب والشورى ومشاركة المرأة في البرلمان من أجل مواكبة هذا الواقع الجديد ومن أجل أن يكون هناك ذراع سياسي قوي للدعوة السلفية يحميها ويحمي مصلحتها بل ويحصنها بالمشاركة في صوغ تشريعات تعمل على ذلك وخاصة فيما يتعلق بمواد الهوية الإسلامية، ويرى أنه أكثر حرصا من الإخوان على ذلك حيث يغلب على الإخوان النفعية السياسية أكثر من النزعة الدينية وأنهم أكثر تميعا في التعامل مع حاكمية الشريعة، بل وأنهم طلاب سلطة في الأصل ولكن بنكهة إسلامية لذلك هم حريصين كل الحرص على أخونة الدولة وحرمانهم من أي منصب في الحكومة، وبعد الانقلاب يرى أن الانقلاب من أهم أسباب حدوثه هو ممارسات الإخوان وأن الوقوف معهم الآن يعتبر انتحار للتيار الإسلامي حيث سيتم وضع التيار الإسلامي كله في مواجهة الدولة والمجتمع وسيتم القضاء عليهم تماما وعلى الدعوة فالأفضل الوقوف بصف الانقلاب ومباركته حقنا للدماء وإنقاذا للدعوة ولإكمال مسيرة النضال السياسي للحفاظ على هوية الدولة الإسلامية.
     
  • الحقائق والمرتكزات المهمشة من هذه الخريط الإدراكية: أن الحفاظ على الدعوة هو الامتثال الكامل  للشريعة في كل أوامرها ومنها مواطأة المعادين للشريعة والتطبيق الصحيح  للولاء والبراء وليس من خلال اجتهادات بعض مشايخ الجماعة لمصالح متوهمة على صعيد المسار السياسي. وأنه لا قيام لشريعة في ظل حكم عسكر عميل للولايات المتحدة الأمريكية وأن المساحة التي سيتم تركها للدعوة إن تركها أصلا ستكون لإسلام مشوه وفي مسارات سيحددها العسكر لهم مسبقا وهذه المسارات ستكون على الأمد البعيد سبب لذوبان وتقلص الدعوة.

    أن الجبهة العلمانية متحالفة مع النصارى في ظل حماية وإيعاز من العسكر لن يسمحوا بوجود سلفي على الساحة بعد نجاح الانقلاب بل إن التعاون معهم حاليا من أجل التخلص من الكيان الأكبر في التيار الاسلامي وليكون السلفيين شوكة في ظهر هذا الكيان الكبير الصلب واستخدام تواجد السلفيين في صف الانقلابيين إعلاميا والإيحاء أن الإخوان يدافعون عن كرسي وعن مصالح جماعتهم لا دفاعا عن الإسلام ثم العمل على تفكيك وشيطنة الدعوة السلفية وقد بدأت إرهاصات ذلك بالفعل.

    إن حقن الدماء كما هو مقصد من مقاصد الدين فإن حفظ الدين ذاته مقصد أهم بل يسبق مقصد حفظ النفس بل جعلت الشريعة التضحية بالنفس وسيلة لحفظ الدين ولإعلاء كلمة الله.

    أن الدعوة السلفية ابتعدت بشكل كبير عن الدعوة التي تزعم أنها من أول المدافعين عن مصالحها وغرقت حتى أذنيها في الحياة السياسية ودفعت بكل كوادرها في أتون المحرقة السياسية وهذا أكبر الأسباب في ضياع مصلحة الدعوة التي كثيرا ما تنادي بها الجماعة.

     
  • ووفقا لهذه الخريطة الإدراكية والمركزية والمهمشة لدى السلفي المنتمي لحزب النور نجد ما يلي: أن شعائر الدين اقتصرت وانحصرت لديه في المحافظة على مصلحة الدعوة وفي حقن الدماء، وأن تصورهم واجتهادهم حول هذين الأصلين يجعلهم يقفوا في صف من يعادي التيار الإسلامي جميعا بل يعادي الإسلام نفسه في الحقيقة.

    حتى انحصرت الشريعة في نظره في الحفاظ على مادة واحدة في الدستور فصارت ترادف الشريعة (219 = الشريعة) حتى صار رقم هذه المادة شعارًا يرفعه كدلالة على دفاعه عن هوية الدولة الإسلامية وعن الشريعة بالرغم أن رجال ونساء و أبناء وشباب وقيادات التيار الإسلامي الحاملين لهٍم الدين وللهوية الإسلامية للدولة تُجرى في حقهم مذابح عريضة وهولوكست لجثثهم واعتقالات بالآلاف أمامهم، وهؤلاء هم الوقود والسواعد والقوة الأصيلة التي تدافع عن الشريعة وتصطبغ بهويتها وليست مجرد مادة تكتب في دستور تحت صياغة عسكر ونخبة علمانية ونصرانية تجاهر بعدواتها للإسلام وترفض وجود المادة أصلا وحتى وإن هي كُتبت فلن يتم تفعيلها كما لم يتم تفعيل المادة الثانية في دستور 71 أثناء فترة نظام مبارك بل ومن قبله. ومع كل هذه الدماء والنكبات لم يتبين لهم كارثية اجتهاد حقن الدماء التي أدت إلى مزيد منه وليس حقنه.

    وعقلية هذا السلفي تغلب عليها نزعة المُستَضعَف وأن هناك قوة أكبر منه لابد أن يرزح تحت شروطها وأن لا يبادر بفعل بل ممارساته كلها  تكون كرد فعل وحتى هذا الرد فعل يكون ناعما.

     
  • الخريطة الإدراكية للسلفي الجهادي: تتميز هذه الخريطة بعدد من المصطلحات نذكر منها (الجهاد – الحاكمية – الراية – الجاهلية – التوحيد - الطاغوت ..الخ).
    فترى وجوب الجهاد وجوبًا عينيا على الأمة و يجب أن يكون تحت راية نقية خالصة لا تشوبها شائبة وحصر مناهج التغيير الأخرى في المشروع الجهادي وأن خلافه من مناهج لا طائل من ورائها سواء دعوي أو سياسي أو سلمي والبراء والتبرؤ ممن يخالف هذا النهج حتى لو كان من التيار الإسلامي ووجوب نبذ الجاهلية وقوى الكفر ومحاربتهما في الأرض سواء تمثلوا في العدو الأقرب (الحكومات في البلاد الإسلامية والعربية) أو العدو الأبعد المتمثل في (أمريكا وحلفائها) ويتم التركيز على الناحية الإعلامية لتقديم هذا الخطاب للأمة من خلال بيانات من رموزها وقياداتها أو تصوير لعمليات جهادية يقوم بها هذا التيار.

     
  • الحقائق والمرتكزات المهمشة في هذه الخريطة: أن مناهج التغيير متعددة وكلها اجتهادية قد يكون أحدها غير ملائم للواقع وأحدهما أقرب من الواقع منه أو قدرات التيار الإسلامي لا تطيق منهج تغيير بعينه في مكان وزمان ما وأن التكامل بين هذه المناهج هو الأمثل لا حصرها على واحد دون آخر.
    وأن وجوب الجهاد وجوبا عينيا على عموم الأمة منذ سقوط الخلافة حتى الآن أمر موضع خلاف سائغ بين العلماء.

    وأن التجارب الجهادية في كل من أفغناستان والعراق والصومال وسوريا وغيرها من بلاد المسلمين تُمدح لأنها قامت بواجب من واجبات الملة ومدافعة أعداء الدين ولكنها أيضا تجارب بشرية لا يمنع ذلك من تقويمها والنصح لها وتعديل مساراها وهذا لا يعني القدح في شعيرة الجهاد ذاتها أو تخاذل عنها ولا الحط من مجهود وتضحيات المجاهدين بل نصحا وإرشادا ودعما لهم.

    وأن سنة التدرج من السنن الكونية والربانية وكذلك الواقعية فلا يمكن إحداث تغيير جذري في طرفة عين بل سيستغرق ذلك وقتا وسيكون هناك غالبا مساحة وفجوة بين المطلوب تحقيقه شرعا بشكل أمثل وبين الجهد المبذول لتغيير الواقع للوصول إلى هذا المطلوب والمأمور به شرعا، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم 
    «سددوا و قاربوا» وقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} والتدرج لا يعني التنازل عن ثوابت بل تكون مركوزة في التصور بصورة صحيحة وبلا شبهات ثم السعي إلى إنزال هذا التصور على الواقع على حسب القدرة.
     
  • ومن الأمور المهمشة في هذه الخارطة الإدراكية بعض أصول أهل السنة التي ذكرها الدكتور سفر الحوالي في رسالته "منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أهل القبلة" نذكر منها ما يلي:"وهم متنوعون في مواهبهم و مقاماتهم، متحدون في منهجهم وغاياتهم: منهم المجاهد، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والمفسر والمحدث واللغوي والشاعر، ومنهم العامة المطيعون لله ورسوله ولو لم يحملوا من العلم شيئا، فكل من لم يُفسد عليه أهل البدع فطرته فهو منهم على فطرة السنة، كالمولود على فطرة الإسلام الذي لم يهوده أبواه و لم ينصراه أو يمجساه.

    وهم يعدون امتحان الناس بالولاء والبراء لطائفة أو معين من المحدثات التي زجر عنها السلف؛ فإن الموالاة والمعاداة تكون على الحقائق لا على الدعاوى والأسماء، وفي جماعتهم الصغرى قدوة لجماعتهم الكبرى؛ فكما أن الواجب هو أن يصلوا كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وأن يكون إمامهم من أهل الاتباع؛ دون أن يمنعوا دخول أهل النفاق والمعاصي إلى المسجد وصلاتهم بصلاة أهل السنة، فكذلك يجب أن يكون اجتماعهم العام على السنة بمفهومها الواسع والعميق، ولا يمنع ذلك أن ينضم إليهم في نصرة الإسلام ومعاداة أعدائه من هو متلبس ببدعة أو مقيم على معصية، لكنهم يجتهدون في دعوة هؤلاء إلى الاستقامة مثلما يُعلّم الإمام جماعة المسجد كيف يؤدون الصلاة صحيحة، وهذا خير من أن يستقل أهل المعصية بمسجد وإمام، ويكون بين المسجدين عداوة وخصام وهم أقوياء في الحق من غير غلو، ورحماء بالخلق من غير عسف ولا جور، يأمرون بالمعروف بمعروف، وينهون عن المنكر بلا منكر.

    وهم يوفون الكيل والميزان بالقسط ولا يبخسون الناس أشياءهم، ويزنون الأمور بالعدل والحكمة، ويرتكبون أخف الضررين، ويجتنبون أكبر المفسدتين، ويصبرون على أهون الشرين، ويسلكون أقرب الطريقين، ويختارون أيسر الأمرين، يأوي إلى عدلهم المظلوم من كل أمة وطائفة، ويثق في علمهم طالب الحق من كل ملة ونحلة، فالعدل عندهم قيمة مطلقة؛ فإن الله تعالى جعله واجباً على كل أحد لكل أحد في كل حال؛ فهو قيمة مطلقة لا يحدها اختلاف الدين فضلاً عما هو أدنى من ذلك، قال تعالى
     {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} ومن لم يميز بين وجوب معاداة الكافرين والظالمين ووجوب العدل معهم، ويقيم الواجبين معاً فليس من أهل الفقه في الدين والاتباع لسيد المرسلين الذي أوحى إليه ربه أن يقول: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ}.

    وهم يعلمون أن المخالفة بالتأويل والخطأ والجهل سمة أكثر الخلق، ويجتمع في الواحد المعيَّن والطائفة الحرص الشديد على السنة مع الوقوع الصريح في البدعة، كما يتفق للكثير من أهل البدع إصابة السنة في بعض الأحوال والمقامات؛ وإنما العبرة بالأصول والمنهج في الجملة والعموم" انتهى كلامه.
     
  • ووفقا لهذه الخريطة الإدراكية والمركزية والمهمشة لدى السلفي الجهادي نجد ما يلي: استعلاء ودعوى بنقاء رايته وسلامة منهجه والطعن في الآخرين من جماعات التيارات الإسلامية المنضوية تحت أهل السنة والجماعة بل أحيانا قد تصل إلى التكفير ومن ثم عدم مناصرتهم في حربهم مع عدوهم الداخلي من عسكر وعلمانيين بزعم عدم نقاء رايتهم وأنه لابد من تأسيس تيار ثالث بعيدا عن عموم التيار الإسلامي المقاوم!

    افتئات على نيات كل من اجتهد أو قلد اجتهادًا ما تجاه بعض القضايا والأحداث بأنه ركن إلى ذلك لتبرير تخاذله عن نصرة الأمة! ومن صور هذا الافتئات على النيات الحكم على من مات مدافعا عن حقه وصادعا بكلمة حق في وجه سلطان جائر بأنه مات على جاهلية لأنه ربما كان تحت راية جاهلية تنادي بالشرعية و الديمقراطية!
    غلو في بعض مسائل الإيمان والكفر كالعذر بالجهل وتعميم مصطلح جاهلية المجتمعات حُكما ووصفا.

     
  • خاتمة: وبعد استعراض هذه الخرائط نجد أن أصحاب كل خريطة قد ركزوا على عدة أمور ومرتكزات وهمّشوا أمورًا أخرى ومن خلالها فسّروا وتعاملوا مع الواقع من حولهم بل وعقدوا الولاء والبراء على أساس هذه الخريطة الإدراكية وقد نجد في هذه الخرائط أحيانا إخرج لأصول وثوابت من خريطتهم والتركيز على أصول أخرى قد تكون أقل أهمية أو أقل أولوية أو أكثر بُعدا عن الواقع ولا تخلو خريطة من ذلك وتختلف في درجة الغلو أو التفريط ولكنها في النهاية تدور حول معاني من شأنها نصرة الإسلام وحماية الدين وقد يُصدق ذلك أو يكذبه السعي والعمل والتطبيق، فالواجب هو التكامل في كل هذه المعاني ودوام النصح فيما بينهم لأن عدوهم لا يفتأ إلا أن يوسع فجوة الخلاف بينهم حتى الاحتراب وفي ذلك قوة لشوكته وإضعاف لقوتهم، وكما يقول العلامة سفر الحوالي حفظه الله: "إن أعداء الله يكيدون لنا شر كيد، وقد عزموا على أن يجعلوا المعركة القادمة حاسمة في انتصارهم؛ فعلى المسلمين كافة أن يقفوا صفاً واحداً في هذا الجهاد الكبير، وأن يرفضوا الخضوع لأعداء الله أو الركون إليهم، وأن يعدوا العدة لمواجهتهم في كل ميدان، وأعظم العدة بعد تقوى الله اجتماع الكلمة ووحدة الصف، وهذا في حد ذاته انتصار عظيم كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}.