{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ}

عبد الله عزام

وكل كتب الأصول تفتتح (باب الحكم والحاكم)؛ بأن الحاكم هو الله وحده، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يحكم بما أنزل الله إليه، سواء كان وحيا متلوا (وهو القرآن الكريم) أو وحيا غير متلو (وهو السنة الشريفة).

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

وبعد...

يكاد يدرك كل من له طرف المام بهذا الدين؛ أن الدين قاعدته الكبرى ومحوره الأصيل هو (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، والحكم بما أنزل الله جزء لا يتجزأ عن هذا الدين، فلو مثلنا هذا الدين بقطعة نقود؛ فإن وجهها الأول مكتوب عليه (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، والوجه الثاني مسطر عليه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].

و (إلا) في الآية الكريمة وردت بعد النفي - (إن)- فـ (إلا) هنا للحصر والقصر، أي أن الحكم محصور ومقصور بين يدي الله.

والحكم بما أنزل الله هو العبودية الحقة، وهو الدين القيم، وأن تنحية الحكم الشرعي عن الحياة يعني تنحية العبودية لله، وانهاء الدين الصحيح - وإن أقيمت الشعائر وبنيت المنائر والمنابر -

وكل كتب الأصول تفتتح (باب الحكم والحاكم)؛ بأن الحاكم هو الله وحده، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يحكم بما أنزل الله إليه، سواء كان وحيا متلوا (وهو القرآن الكريم) أو وحيا غير متلو (وهو السنة الشريفة).

والخليفة في الشريعة الإسلامية؛ مفوض من قبل الأمة التي تختاره بتنفيذ الشريعة الإلهية، لا وضع شريعة من عنده تصطدم مع هذه الشريعة.

والعلماء وأهل الحل والعقد؛ هم مجتهدون بالنظر في النصوص الإلهية، لمحاولة معرفة الحكم الرباني في المشاكل التي تواجه المسلمين في حياتهم اليومية.

والحكم من الله (الحكم)، وهو اسم من اسمائه وصفة من صفاته.

فمن ادعى الحق بالتشريع بما يريد؛ إنما يدعي الألوهية عملا، ويزاولها سلوكا، وإن كان لا ينطق بها لفظا، وسواء كان هذا المدعي؛ هو طبقة من الشعب، أو الشعب كله، أو حزب، أو منظمة عالمية أو محلية أو هيئة، أو فرد، فالنتيجة واحدة، وهي انتزاع حق الله في التشريع للناس.

وهذا شرك يخرج أصحابه من دين الله، {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله} [الشورى:21]، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].

فطاعة التشريع البشري الوضعي - القوانين الوضعية - مع الرضا القلبي؛ شرك، يخرج صاحبه من الملة.

والحكم الإسلامي الذي يمثله شخص الخليفة لينفذ دين الله؛ بقي شبحا رهيبا يقض مضاجع الغرب ويؤرق أجفانهم، وبقيت الإطاحة بهذا الصرح الشامخ شُغل أوربا الشاغل ثلاثة قرون، واعملوا فيه معاولهم حتى أجهزوا عليه في 3/3/1924 على يد الطاغية (مصطفى كمال أتاتورك)، بعد (معاهدة لوزان) التي امتدت من نوفمبر 1922 إلى فبراير 1923، بين (عصمت انينو) نائب (أتاتورك) وبين (كرزون) وزير الخارجية البريطاني.

واتفقوا على أربعة شروط:

1) أن يطاح بصرح الخلافة.

2) سحق أية محاولة لإعادة الخلافة.

3) محاربة الشعائر الإسلامية.

4) اتخاذ قوانين غربية وضعية بدل الشريعة الإسلامية.

وبعد الإطاحة بالخلافة اتفق العالم كله على:

1) اجتثاث أي تجمع يدعو للحكم بالإسلام من الجذور.

2) سحق طلائع البعث الإسلامي أينما وجدت.

3) تمييع عبادة الجهاد ومصطلحاتها، وشن حملة رهيبة على هذه العبادة باعتبارها وحشية همجية لا تصلح إلا لشرائع الغاب.

4) اغراق الجيل في مستنقع جنسي آسن، يتحول المجتمع فيه إلى مجموعات من الحيوانات الشبقة، لا هم لها سوى إرواء النزوات واشباع الشهوات.

5) تصفية الأجهزة من ذوي الالتزام الإسلامي المتميز، وخاصة أجهزة الأمن والجيوش والإعلام والخارجية والجامعات.

وهنا نجد التفسير الواضح لعمليات القمع والإبادة والسحق لحركات البعث الإسلامي في بقاع الأرض الإسلامية كلها، ولم يسق لديك لغز محير في فهم أسرار الحرب الشعواء التي تشنها أجهزة الأمن والإعلام على كل من فكر بالجهاد أو خاض غماره.

وقضية تنحية دين الله عن الحياة وإحلال شرائع وضعية مكانها؛ خطوة هائلة، وقد كانت قاصمة الظهر لدى الأمة المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، ولم تصب البشرية نكبة أعظم منها.

ولم تصب الأمة الإسلامية بهذه الداهية خلال حقباتها التاريخية بهذا الحادث الجلل والرزء العرام، إلا يوم أن سقطت دار الخلافة - بغداد - بيد التتار سنة  656 م، ثم أراد (هولاكو) تطبيق شريعة (جنكيزخان) - الياسا أو الياسق، السياسات الملكية - على الأمة الإسلامية، فوقف العلماء موقفا واضحا وبإرادة حازمة حاسمة أمامها، فأفتوا بكفر من يحكم ومن يتحاكم إلى الياسق.

وقال ابن كثير: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ فقد كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟! لا شك أن هذا يكفر بإجماع المسلمين" (البداية والنهاية لابن كثير. ج:13. ص:118).

وعندها وقفت الجماهير المسلمة كلها ضد التحاكم إلى الياسا، واضطر (قازان التتاري) أن يفتتح نوعين من المحاكم، إحداهما؛ محكمة الياسا، والثانية؛ محكمة القرآن والسنة.

والآن والجهاد الأفغاني الإسلامي على أبواب قطف ثمرته، والروس يلمون أذيالهم لينسحبوا خزايا نادمين، بعد أن شهدت ذرى الجبال والسفوح والوهاد وشعاب الطرق هزائم ساحقة للجنود الحمر، وشمخت الهندوكوش بقممها تناطح عنان السماء عزة وافتخارا وشكرا لرب العزة الذي نصر عبده وأيد جنده وهزم الأحزاب وحده.

أقول: الآن جاء دور التكالب العالمي حتى لا ترى هذه البقاع راية (لا إله إلا الله) الحقة ترفرف فوق أرض الدماء والشهداء، فبعد أن فشل الغربيون في زعزعة الثقة بالله التي بناها الجهاد المشرف العزيز في أعماقهم، ويئسوا من أن يزلزلوا عقيدة التوكل على الله التي رباها في قلوبهم كفاح مرير بين جند الإيمان وجيوش الشيطان، لقد استيأسوا من أن ينالوا من هذا الجهاد، رغم الإعلام الذي يظهر قضية الجهاد على أنها صراع المطامع ومقايضات المصالح التي يتلاعب بها العملاقان من خلال حرب النجوم، والذي لايني يردد صباح مساء ذكر صاروخ (ستنجر) الأمريكي، وإبراز المجاهدين بأنهم عبارة عن مجموعات من أبناء القبائل التي هبت للدفاع عن (مزارع الحشيش) وليس للدين في هذه الساحة ناقة ولا جمل، ولا يخجل التلفاز الأمريكي عن عرض مجموعة من المجاهدين يتعاطون الحشيش ثم يهجمون على قواعد الروس!

شهادة التاريخ:

ولقد انتهت الحروب الأفغانية الإنجليزية الثلاث بمجيء رجل لم يرق نقطة واحدة من عرق جبينه في الجهاد!

فجهاد سنة 1842؛ الذي أباد الجيش الإنجليزي بكامله بين كابل وجلال آباد، انتهى بتنصيب أسير في يد الإنجليز في الهند اسمه "(دوست محمد خان) على عرش كابل، واشترطوا عليه قتل ابنه (وزير أكبر خان) المجاهد الذي قتل بيده (داكنتون) الضابط الإنجليزي أثناء المفاوضات.

وانتهى جهاد سنة 1880؛ بإحضار (أمير شريد) لاجئ في بخارى، وسلموه شعب أفغانستان، وركزوا عرشه على صدورهم وأنفاسهم.

وانتهى جهاد سنة 1919؛ بإظهار (أمان الله خان)، الذي صادق (لينين) و (ستالين)، ونادى بنبذ الحجاب واظهار السفور ومطاردة الشريعة ومحاصرة العلماء وكبت أنفاسهم، وهو أول أفغاني تظهر امرأته سافرة كاسية عارية متبرجة.

والآن هنالك التكالب العالمي وإجماعه على ألا تقوم دولة الإسلام بعد هذا الجهاد الإسلامي العريق، وهنالك تأليب قوى الكفر على حرمان قادة الجهاد من ثمار جهادهم ومنعهم من حصاد جني دماء مليون ونصف مليون شهيد، وحجتهم؛ أن هؤلاء القادة أصوليون!

(ظاهر شاه):

وهنالك الإجماع على إرجاع (ظاهر شاه)، وذلك لتجميع العلمانيين تحت لوائه وكنفيه، مع أن (ظاهر شاه) صحيا لا يستطيع أن يزاول حكما ولا يدير بلدية، فضلا عن أن يدير مملكة.

و (ظاهر شاه) هو الذي غرس الشيوعية في أفغانستان، و (ظاهر شاه) هو الذي كان في مجلس شوراه 36 شخصا من الحزب الشيوعي، و (ظاهر شاه) هو الذي أجاز لـ (تراقي) أن يخرج (جريدة خلق) ولـ (بابرك كارمل) أن يصدر جريدة (برشم)، و (ظاهر شاه) هو الذي سير جيشا يقوده (خان محمد) لمهاجمة قندهار، لأن نساءها رفضن كشف النقاب، وسقط قرابة ألف شهيد في المعركة، و (ظاهر شاه) هو الذي حمل خمار امرأة مسلمة ووضعه تحت قدمه وقال: "انتهى عهد الظلام إلى الأبد"، و (ظاهر شاه) هو الذي سن السنة السيئة في أفغانستان بأن تبدأ الحفلات الرسمية بأن يرقص الملك مع زوجة أقدم السفراء، ثم يرقص السفراء مع نساء بعضهم البعض، و (ظاهر شاه) هو الذي نصب نفسه مشرعا يحل الحرام ويحرم الحلال، وقد انعقد الإجماع؛ على أن من أحل الحرام فقد كفر ومن حرم الحلال؛ فقد كفر.

ويقول ابن تيمية: "من أحل النظر؛ فقد كفر بالإجماع، ومن حرم الخبز؛ فقد كفر بالإجماع". (منار السبيل. باب حكم المرتد. ص:405، بتصرف)

فهل يفتي عالم من علماء الإسلام؛ أن الذي يفعل هذا يبقى في حظيرة الإسلام لحظة؟! إن هذا وأمثاله قد خلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم.

ثم بعد هذا الجهاد المشرف والمجد الأمثل والعز الأصيل - الذي قدم له من التضحيات ما ناءت به كواهل الشعب الأفغاني – أقول؛ أبعد هذا نعود إلى النقطة التي بدأنا منها؟! أبعد أن جرت الدماء أنهارا ودموع الأرامل واليتامى والثكالى جداول يحرم الشعب المسلم من التفيؤ في ظلال هذا الدين؟!

كل هذا الجهاد الذي خلف وراءه قرابة مليون يتيم، مع ثلاثمائة ألف أرملة، وقرابة مليوني جريح ومعوق ومشوه، أبعد هذا نرجع إلى الطاغوت (ظاهر شاه) وهل استشهد (د. عمر) و (حبيب الرحمن) و (نصرت يار) و (عطيش) من أجل ارجاع (ظاهر شاه) وأشباهه إلى الحكم؟!

إن دموع (أم البحري) - سعد الرشود - و (عبد الوهاب الغامدي) و (أبي عثمان) و (ماهر شلبك) و (سبع الليل) و (أبي حفص) و (أبي دجانة) و (الديلمي)؛ لم تجف بعد!

هل أقبل العرب على هذا الجهاد ليعيدوا تنصيب الملك المخلوع على جماجمهم وأشلائهم؟! أم من أجل نصرة الإسلام وإقامة حكم الله في الأرض؟!

لقد نص دستور (الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان)؛ إن الهدف من هذا الاتحاد إقامة حكم الله في الأرض المنبثق من قوله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ} .

وإن اشتراك أية جهة في حرمان الشعب الأفغاني المسلم من رؤية إسلامه - متمثلا في نظام الحياة - جريمة تاريخية، وخيانة كبرى لله ولرسوله وللمؤمنين، ومعرة ووصمة عار لن تمسح من جبين مرتكبيها على توالي الأيام وتعاقب الأزمان.

وختاما نقول:

إن الجهاد مستمر - إن شاء الله - حتى ترتفع راية (لا إله إلا الله) خفاقة في أفغانستان، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّـهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}  [الروم:4-5].

وسبحانك اللهم

وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك

المصدر: مجلة الجهاد، العدد الأربعون رجب/1408 هـ