الثبات
علي بن نايف الشحود
إن أصحاب الدعوة إلى الله في كُلّ مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلًا أمام هذا المشهد الباهر!
رجل واحد، لم يُؤمن معه إلّا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادّية في زمانهم.
- التصنيفات: قصص الأمم السابقة -
يُبين سياق القصة، من خلال موقف الرسل الكرام وردهم على أصحاب القرية..
مَعلمًا آخر أو سمة أُخرى من سماتهم، وهي الثبات على الحق.
وهذه السمة تعدُّ مُحصلة أو جماع ونتيجة لكل السمات السابقة التي وَضّحتها الآيات.
فما كان هذا الثبات ليأتي إلّا من خلال كونهم ربّانيين، يثقون في مرجعيتهم وفي مصدر فكرتهم.
وما كان هذا الثبات ليأتي إلّا من خلال كونهم جماعة تَتَعَاضَد ويُساند بعضها بعضًا..
وما كان لهذا الثبات أن يأتي إلّا من خلال جِدّيتهم في حمل الأمانة، ومن خلال فهمهم لدورهم الموكول..
وهو حمل تلك الأمانة وتبليغها للنّاس، ومن خلال فهمهم للطريق واحتمالات النتائج.
ولا يقدر على الثبات إلّا ذوو الطبيعة الإيجابية، والثبات على الحق سِمة كُل أصحاب الدعوات، حيث تبرز هذه الصفة جلية في سيرتهم.
وتدبر ثباته -صلَّ الله عليه وسلم- فعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، حدثنا عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ.. فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ! إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يُؤْذِينَا فِي نَادِينَا، وَفِي مَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنْ أَذَانَا، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ! ائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ [فَذَهَبْتُ] فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَقَالَ:
يَا ابْنَ أَخِي! إِنَّ بَنِي عَمِّكَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ.
فَقَالَ: « » قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ: « »
قَالَ: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي. فَارْجِعُوا.
وتأمل ثبات أخيه هُود ـ عليه السلام ـ وهو يواجه قومه..
في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة:
{إن نَّقُولُ إلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ . إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . فَإن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود:54-57]
إن أصحاب الدعوة إلى الله في كُلّ مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلًا أمام هذا المشهد الباهر!
رجل واحد، لم يُؤمن معه إلّا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادّية في زمانهم.
والثبات على الحق في الحياة الدنيا، وفي القبر، وفي الدار الآخرة، نعمة ربانية:
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وهو الرصيد الذي لا يضيع، وهو الزاد الذي لا يَنضب، الذي يَرثه اللاحقون ـ من أجيال الدعاة..
وأصحاب الدعوات ـ من السابقين لهم على الطريق، الذين لم يُبدلوا تبديلًا.
وهو المنارة التي على ضوئها يهتدي كُلّ شارد.