الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ
ياسر منير
قُلْت لِمُحدّثي: اْلَزَمْ مَنْهجَ الرّعيل الأوّل. فسألَني مُسْتَفْسِرًا: ما الرَّعيلُ الأوَّلُ؟
فأدرْتُ وَجْهِي لَهُ قَائِلًا: "عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ". هُمُ السَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ أهْل الإِسْلَامِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ سِطَةِ الْقَوْمِ، مِمَّنْ يَسْمَعُنَا يُدْلِي بِدَلْوِهِ قَائِلًا: إنَّ مَنْ دَرَسَ عُلُوَمَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَنَهَلَ منْ مَعِينِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَرومُ مَنْهَجًا آخَرَ.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
قُلْت لِمُحدّثي: اْلَزَمْ مَنْهجَ الرّعيل الأوّل. فسألَني مُسْتَفْسِرًا: ما الرَّعيلُ الأوَّلُ؟
فأدرْتُ وَجْهِي لَهُ قَائِلًا: "عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ". هُمُ السَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ أهْل الإِسْلَامِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ سِطَةِ الْقَوْمِ، مِمَّنْ يَسْمَعُنَا يُدْلِي بِدَلْوِهِ قَائِلًا: إنَّ مَنْ دَرَسَ عُلُوَمَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَنَهَلَ منْ مَعِينِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَرومُ مَنْهَجًا آخَرَ.
فَقُلْتُ لَهُ: أَحْسَنْتَ قَالَةً أيُّهَا الرّجُلُ. وَمَنْهَجُ الرَّعِيلِ الأوَّلِ هُوَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، كَمَا فَقِهُوهُ مِنْ سَيِّدِ الْبَرِيَّةِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ مَهْيَعٌ لَاحِبٌ، لَا يَعْتَوِرُهُ شَكٌّ، وَلَا يُخَالِطُهُ زَيْغٌ.
قَالَ مُحَدِّثِي: لَا شَكَّ فِي ذِلِكَ فَالْقُرْآنُ يَقُولُ: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشُّعَرَاء:192-195].
فَانْبَعَثَ رَجُلٌ مِنْ أشْقَى الْقَوْمِ مُتَحَذْلِقًا: نَأخُذُ بِالْقُرآنِ، أمّا السُّنَّةُ فَقَد خَالَطَهَا أَكَاذِيبُ الْوَضَّاعِينَ، فَلَا نَدْرِي مَا قَالَهُ الرّسولُ مِمَّا لَمْ يَقُلْه!
فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ قائلًا: وَيْحَكَ أيُّهَا الْغِرّ؛ لقد استفرغَ علماء الحديثِ الجهد في صِيَاغة قواعد منهج الحديث رِوَاية ودِرَاية "علم مصطلح الحديث"، وتفرَّع عنه علم الجرح والتَّعْديل، وهو علم يُقدِّم الشك على اليقين، والجرح على التعديل[1]، كما وضعوا شُروطًا دقيقة لا بُدَّ من تَوَافُرها في الراوي لقَبُول روايته، فإنْ فَقَدها أو فقد بعضها، رُدَّت روايته وتُرِك حديثه، ويأتي على رأس هذه الشروط: "العقل، والعدالة، والإسلام، السلامة من أسباب الفسق وخَوَارِم المروءة، والضبط، سماع الرواية، فَهْمها، حفظها حفظًا دقيقًا، قوة الذاكرة، دقة الملاحظة"[2].
ولَقَدْ أدَّت بهم هذه الدقة المنهجية إلى وضع مُصطلحات وألقاب يُطلقونها على الراوي بحسب تَوَافُر هذه الشروط لديه، فيقولون: فلان "ثقة" أو "مُدَلّس" أو "وَضّاع للأحاديث". وجعلوا الأخبار المروية على درجاتٍ بحسب قوة السّند أو ضعفه، فيقولون: هذا حديثٌ حسن أو حسنٌ صحيح أو موضوع، وقد مثَّلت هذه المصطلحات والألقاب رَكِيزة أساسية في قَبُول الخبر أو رفضه[3].
والحقيقة أنّ قضية صِدْق الراوي وصحة الرواية "السند والمتن" في ذاتها -التي يرتكز عليها علم مصطلح الحديث- قد بلغت دقة منهجية، وقيمة علمية إلى حدّ جعلها تقابل التجربة ومعطياتها في العلوم التجريبية[4]. ولا بُدَّ من التأكيد أن المسلمين هم أول مَنْ وضع منهجًا علميًا دقيقًا لتمحيص الأخبار وتحليلها، وهو منهج تنفرِد به الحضارة الإسلامية، بحيث لا يُعْرَفُ له في الحضارات الأخرى شَبَهًا[5].
ومما يَجْدُر ذكره أن الراوي والخبر -لمؤلف والوثيقة- أصبحا يمثلان رُكْني منهج البحث التاريخي في العصر الحديث الذي اتجه علماء المناهج من خلالهما إلى العناية بقضية النقد التاريخي، وتقنينها والتوسع في التأصيل النظري والفلسفي لعنصريها الأساسيين -النقد الظاهري والباطني- بما يشملانه من تفاصيل وتفريعات[6].
وليس من شكٍ أن علم مصطلح الحديث -ذلك العلم الإسلامي الخالص- يُعْتَبَرُ -بالمقياس المنهجي الحديث- وثيقة رئيسة مهمة في مناهج البحث التاريخي، وتوثيق النصوص، ليس في العالم الإسلامي فقط، ولكن في الفِكْرِ الإنساني في العالم كله[7]. فَكَيْفَ بَعْدَ هَذا تُشكّكُ فِي السُّنّة بهذه السُهولة؟!
فَتَمْتَمَ، وانْسَلّ مِنْ بَيْنِنَا، كَأَنَّهُ ضَرْطَةٌ فِي فَلاةٍ! فَقُلتُ لِمَنْ حَوْلِي: إنّ الفِرقَ الضَّالّة، المارقة من الدِّينِ، المُتَلَصِّصةَ عَلَى المِلّةِ مَخْذُولةٌ دَائمًا، ولا يَدُومُ لَهَا قَوْلٌ أمَامَ صَوْلة الْحقِّ!
هَؤلاءِ يَصدقُ فيهم قول الرضي:
وغَافِلين عن العلياء قائدهم *** في كل غيٍ فتيُّ العقل مكتهلُ
سَنُّوا الخِضابَ حذارًا أن يطالبهم *** بحكمة الشيبِ أو يُقصيهم الغزلُ
عَارِينَ إلا من الفحشاء يستُرهم *** ثَوبُ الخُمولِ وتَنْبو عنهم الحُلَلُ
قومٌ بأسماعهم عن منطقي صَمَمٌ *** وَفِي لَوَاحِظِهم عن مَنظِري قَبْلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- (الخطيب البغدادي الإمام المحَدِّث أبوبكر أحمد بن علي بن ثابت [ت 463هـ]: الكفاية في علم الرواية. ص: [105-106]. د. ت. دار الكتب العلمية – بيروت).
[2]- (ابن الصلاح: مقدمته في علوم الحديث. ص: [114]. مراجعة الشيخ محمد راغب الطبَّاخ. ط1. 1350هـ / 1931م. المطبعة العلمية – حلب).
[3]- (ابن الصلاح: مقدمته في علوم الحديث. ص: [6-8]. وأيضًا: الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية. ص: [21-23]).
[4]- (د. محمد السيد الجليند: منهج السلف بين العقل والتقليد. ص: [25]. ط 1415هـ / 1994م. القاهرة).
[5]- (د. فؤاد سزكين: محاضرات في تاريخ العلوم. ص: [43]. ط 1399هـ / 1979م. جامعة الإمام محمد بن سعود - الرياض).
[6]- (د.علي سامي النشار: مناهج البحث عند مفكري الإسلام. ص: [271]. ط4. 1978م. دار المعارف – القاهرة).
[7]- (د. حامد طاهر: منهج البحث بين التنظير والتطبيق. ص: [135]).