(9) الصحابة واتباع الرسول

راغب السرجاني

الصحابة كانوا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعلمون أن اتباعه هو خير الدنيا، والآخرة، وأنه لا مناص من اتباعه حتى يدخلوا الجنة، وأنهم لو اتبعوا أي مخلوق غيره، فلا سبيل إلى دخول الجنة.

  • التصنيفات: السيرة النبوية - سير الصحابة -

حديثنا في هذا الفصل عن الصحابة رضوان الله عليهم، وكيف كانوا يتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وكيف كانوا يتعاملون مع هذه السنة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟


الحقيقة إن نظرة الصحابة إلى السنة كانت نظرة فريدة حقًا، وتعظيم الصحابة للسنة كان بدرجة لا يتخيلها إلا من درس حياة الصحابة بعمق، ودرس كل نقطة من نقاط حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.


ثم تفاوتت بعد ذلك نظرة اللاحقين إلى السنة الذين جاءوا بعد الصحابة، فاختلفت نظرتهم للسنة، فمنهم من عظمها، ولكن كشيء نظري جميل، تاريخ رائع لإنسان عظيم، لكن يأخذ منها، ويترك كيفما شاء، ومن الناس من اعتقد أنها شيء من الكماليات قد يجمل، ولكن ليس ضروريا، ومن الناس من اعتقد أن السنة كانت أشياء خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست لعموم الأمة، فإذا تكلمت معه عن عمل للرسول صلى الله عليه وسلم، أو قول له توضح له معاملة الرسول في أمر من الأمور، فيرد بأنه رسول، أما أنا فلست برسول، ومن الناس من تطاول على السنة، وطعن فيها، وألقى بالشبهات، واتبع المتشابه، وأعرض عن المحكم، فلذلك نجد تفاوتًا كبيرًا في تلقي معنى السُّنة في الأجيال التي لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم.


لذلك نريد أن نوضح نظرة الصحابة للسنة، كيف كانوا ينظرون إلى السنة؟


لأن هذه هي النظرة الصحيحة التي نتمنى منها معرفة التعامل مع السنة النبوية المطهرة المشرفة.
فارتباط الصحابة بالسنة كان سببًا مباشرًا لوصول الصحابة إلى رضا الله عز وجل، وإلى حب الله عز وجل، فحب الله عز وجل لك، ومغفرة ذنوبك مرهون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد صرح بذلك الله عز وجل في كتابه فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].


فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت التفسير العملي للقرآن الكريم، كانت التطبيق الواقعي لما أراده الله عز وجل من العباد، كانت التطبيق الواقعي لما أراده الله عز وجل من العبادة، كل صغيرة، وكبيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لهدف، كانت مقصودة، وكانت محسوبة، وكانت متابعة بالوحي، تستطيع أن تقول بمنتهى الاطمئنان أن كل أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت متابعة بالوحي الكريم من الله عز وجل، أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكون بأمر من الله عز وجل، وقد يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل الوحي إما بالتأكيد على هذا الفعل، وإما بتعديله إلى شيء آخر.


فإذن كل نقطة من نقاط حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت متابعة بالوحي، ولا يحدث هذا الأمر إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، والأنبياء، فلا ينبغي أن يُقَلد إنسانًا تقليدًا مطلقًا إلا الرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل إنسان غير الرسول صلى الله عليه وسلم قد يصيب ويخطئ، فكل إنسان يصيب ويخطئ، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ومن أفعاله ويُرَد، كل إنسان إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.


الصحابة كانوا يفقهون ذلك جيدًا، وظهر ذلك في كثير من أفعالهم، أو قل ظهر ذلك في كل أفعالهم، كما سنرى إن شاء الله.


معنى السُّنة

بدايةً، قبل الخوض في غمار الموضوع، وقبل أن نعرف مدى كان اتباع الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، نلقي الضوء على معنى السنة، وما المقصود بها.


السُّنُّة هي: الطريقة، سنة فلان بمعنى: طريقة فلان في الحياة، سواء كانت هذه الطريقة محمودة، أم مذمومة، فكلمة سنة لغة تعني: طريقة فلان، فإن كانت طريقته محمودة، فهذه سنة محمودة، وإن كانت طريقته سيئة، إذن هذه سنة سيئة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38].


سنة الأولين المكذبين الذين كذبوا بأنبيائهم، ورسلهم فكان عليهم العذاب والهلكة.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَتْ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ».


فالسنة هي الطريق، فمن فعل شيئًا حسنًا، وقلده الناس يأخذ من الأجر ما لهذا العمل، ويأخذ مثل أجور كل من قلده في ذلك العمل، وأيضًا من يفعل شيئًا مذمومًا، نفس الكلام يندرج عليه، لهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ حسنات على كل أمة الإسلام والمسلمين، فكل من يعمل خيرًا في الإسلام، فهذا إنسان يقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمّ يضاف لحسناته، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا به صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين.


إذن عندما نقول سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإننا نقصد طريقته، ومنهاجه، وأسلوبه في الحياة صلى الله عليه وسلم، ولا نقصد هنا السنة كما عرفها الفقهاء، وهي:
ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجوب، أي النوافل.


الفقهاء قسموا الأحكام التكليفية التي كُلف بها البشر إلى خمسة أقسام:
واجب، وحرام، وسنة، ومكروه، ومباح.


ولما نتكلم عن موضوع السنة فليس المقصود بالسنة النافلة، ولكن المقصود بالسنة كما عَرّفها علماء الأصول، قالوا:
السُّنة: هي كل ما نُقِل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير.
فكل ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لو كان المنقول فرضًا أو سنة، لا فرق ما دام قد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان يسمى فرضًا أو يسمى نافلةً، أصبح اسمه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.


القول، أو الفعل، أو التقرير، ويقصد بالقول: أيّ كلمة تكلمها صلى الله عليه وسلم، فمثلًا قال: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
فأصبحت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا».
فأي حديث قاله ينطبق عليه هذا التعريف.


ويقصد بالفعل مثل ما نقله الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال فعلها، كأداء الصلاة، كان يصلي الظهر أربع ركعات، كل ركعة يقرأ الفاتحة، وكل ركعة يركع، ويسجد، من حركة لحركة يقول: "الله أكبر". وفي رفعه من الركوع يقول: "سمع الله لمن حمده". وكل ما ذكرناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما هو فرض، وفيه ما هو نافلة، لكن كل هذه الأشياء تدخل تحت تعريف أفعال الرسول، وبالتالي كلها سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.


ويقصد بالتقرير: شيء أقره الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن صحابي من الصحابة فعل شيئًا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول سكت عنه، ولم يتكلم، فأصبحت سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يسكت عن باطل.

أو أتى أحد الصحابة بشيء، واستحسنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأصبح هذا العمل سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مدح هذا الفعل، حتى ولو لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم.


فالسنة من هذا التعريف: هي كل قول، أو فعل، أو تقرير، والأمثلة لا تحصى؛ لأن الأمثلة كلها عبارة عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بكاملها، فكل كلمة خرجت من فمه صلى الله عليه وسلم، وكل حركة تحركها، وكل سكنة سكنها صلى الله عليه وسلم، أي ابتسامة ابتسمها، وأي غضبة غضبها صلى الله عليه وسلم، وأي أمر حدث أمامه وسكت، أصبح سنة، وكل أمر حدث أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه يصبح عكس السنة.


فأنت مطالب أن تعرف كل حياة الرسول لتكون متبع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
نؤكد مرة أخرى أننا لا نقصد بكلمة السنة النوافل، بل نقصد منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته في الحياة.


وهناك ظاهرة غريبة جدًا ما تكررت في حياة أي إنسان على وجه الأرض، إلا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنه ليس في حياته صلى الله عليه وسلم مطلقًا أي سر، ليس في حياته سر، فكل حياته مكشوفة أمامه لنتعلم كيف نقتدي به، ونقلده، ولعل هذا هو أحد الحكم التي من أجلها تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم من إحدى عشرة زوجة، هو لم يجمع أكثر من تسعة في وقت واحد، لكن هذا العدد هو الذي ينقل كل صغيرة وكبيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يعيشون معه في البيت، فرأوا كل شيء داخل البيت، زوجة واحدة لا تسطيع أن تنقل كل هذا الكم الضخم من معاملاته، ومن الحياة الشخصية التي داخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يريد لحياته بكاملها أن تكون مكشوفة، ومعروفة للأمة، وكل نقطة في حياته صلى الله عليه وسلم ستضيف شيئا جديدًا.


وبذلك لم يبق أي خبر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لا نعرفه، فكل شيء معروف، وبذلك نستطيع أن نحقق قول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].


إذن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الحياة بأسرها، له سنة صلى الله عليه وسلم في كيفية الاعتقاد في الله عز وجل، ولا بد أن نعتقد في الله كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو خرجنا عن طريقته لضللنا، له سنة في الشعائر، ويقصد بالشعائر: الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، قيام الليل، قراءة القرآن، له سنة في كل ذلك لا بد أن تُتّبع، له سنة في طلب العلم، له سنة في نقل هذا العلم بضوابط معينة لا بد من السير عليها، وهذه الضوابط ليست نوافل وفقط، بل هناك فروض كثيرة جدًا، له سنة في الدعوة، طريقة في امتلاك قلوب الآخرين، طريقة في التأثير عليهم، والوصول إليهم بدعوة الله عز وجل، له سنة في الطعام، والشراب، والذبح، والصيد، ولا يقصد بسنته في الطعام أن يقصد طريقته في الأكل فقط، بل هناك أكل حرام حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يأت تحريمه في القرآن الكريم، فأصبح حرام، فالسنة شيء خطير فيها حلال، وفيها حرام، فيها أوامر، وفيها نواهٍ، ليست شيئًا اختياريًا نأخذ منها ونترك كما نريد.


الرسول كانت له سنة في البيوع، والتجارة، والزراعة، والشركات، قوانين، وتشريعات، وأصول ينبغي على كل تاجر معرفتها، كانت له سنة في القضاء، وفي فض النزاع، وفي الفصل في الخصومات، له سنة في الجهاد، والقتال، والغزوات، والعلاقات مع العدو، متى تحارب ومتى تعاهد، له سنة في التعامل مع زوجاته، ومع أولاده، ومع أصحابه، وجيرانه، وضيوفه، حتى مع أعدائه، سنة في كل شيء من الأشياء التي تواجه الإنسان المسلم في كل حياته.


لذا نستطيع القول بأن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها ذات أهمية، ولم يكن في حياته أشياء خاصة، وأشياء عامة، فكل شيء قاله، أو فعله، أو أقره، هو سنة من سننه صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نتكلم على حياة إنسان، أو تاريخ إنسان، نحن نتكلم عن دين، نتكلم عن شرع، عن قانون متكامل، عن دستور محكم، نتكلم عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود من السنة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله، وابن ماجه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه قال:

وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟

قال صلى الله عليه وسلم: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ».
تركتكم على البيضاء الملة الواضحة النقية، لا يوجد فيها شيء واضح، وشيء مبهم، بل كلها بيضاء، ليس فيها ليل أسود، بل كلها نهار ساطع أبيض.


وبعد هذا الكلام يحذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا خطيرا جدًا فيقول: «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا».
من يطل به العمر سيرى اختلافًا كثيرًا، كزماننا الآن، فما العمل عند الاختلاف، الشرق يقول كذا، والغرب يقول كذا، والمسلمون أنفسهم منهم من يقول كذا، أو كذا، أو كذا، اختلافات، وآراء، ومدارس، ما العمل؟


مليون رأي، من يقول: إن الباليه فن راقي، وأن ما فيه من العري، والإباحية نوع من قمة الإبداع الفني الجميل.
ومن يقول: الرشوة إكرامية، أو عمولة، أو سمسرة، ومشي حالك، وكَبّر دماغك.
ومن يقول: إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي.
وتسمع أمثلة ما تدل إلا على السلبية المقيتة كمن يقول: (ملناش دعوة يعني إحنا اللي هنصلح الكون يا عم أنا مالي خليني في حالي)
وكل فريق من هؤلاء لديه حجة، وعنده منطق، ومن الممكن أن يجادلك ساعة وساعتين، فما العمل عند الاختلاف؟


الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي».
ولا يعقل أن تكون معنى السنة في الحديث النافلة، بل معناها طريق الحياة، منهج الرسول، كل أمر من أمور الدنيا كلها.

«فعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ».
الخلفاء الراشدون سيدنا أبو بكر، وسيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وسيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين.
فإذا تعرض لك أمر في حياتك، ضع مكانك الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أبو بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، ولتنظر ماذا ممكن أن يفعل لو هنا، كحفلة بالية مثلًا، هل كان سيحضرها الرسول صلى الله عليه وسلم؟
هل كان من الممكن أن يسلم على الراقصين والراقصات، ويوزع هدايا؟ ويقول: ما شاء الله على الفن الجميل، والإبداع الراقي.
أم كان سيمنعها ويحرمها؟
تخيل أنه صلى الله عليه وسلم مكانك، وفي وقتها ستعرف الإجابة.


هذا الكلام ليس سهلًا، بل من الصعب بمكان؛ لذا قال الرسول: «عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِزِ».
تمسكوا بكل ما تملكون من قوة، ومن عزيمة بهذه السنة، وبسنة الخلفاء الراشيدن المهديين، وإذا كان التمسك صعبًا، إلا أنه ليس مستحيل، عضوا عليها بالنواجز، تمسكوا بها، بكل طاقة عندكم.


إن السنة التي نريدها هي التي جات في الحديث الشريف الذي رواه الحاكم، والبيهقي، وابن عبد البر، والإمام مالك عن عمرو بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كَتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّتِي».


فالسنة في هذا الحديث ليس المقصود بها النافلة، بل المقصود بها حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها.
وفي فهمنا لهذا المعنى الدقيق للسنة نستطيع أن نفهم الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وقال فيه صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى».
قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟
قال: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».


فالمسألة في غاية الخطورة، إن مخالفتك لسنة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطرة بجنة عرضها السموات والأرض.
فمن هذا المنطلق كانت السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام، المصدر الثاني للقانون في الإسلام، للدستور في الإسلام، فمصدر القانون في الإسلام، أو الدستور في الإسلام أمرين رئيسين: أول أمر: القرآن الكريم، والأمر الثاني: السنة المطهرة.


ولا يصلح دستور، أو قانون في الإسلام من غير قرآن وسنة، لا غنى أبدًا عن أحدهما.
ومع كل ما قلناه وتحدثنا عنه، لكن تجد كثيرًا من الناس يعترض على السنة، يقولون: إن القرآن يكفي ولا نحتاج للسنة.


يطعنون في قضايا كثيرة جدا جاءت في السنة المطهرة، فتجد من يطعن في الشفاعة، ومن يطعن في الحياة في القبر، ومن يطعن في الهدي الظاهر، ومن يطعن في الحدود، ويتاح لهم مساحة واسعة جدًا في الإعلام، مع أن الرد عليهم سهل جدًا، وميسور، ومستحيل أن تجد مؤمنًا واحدًا حريصًا على دينه يستطيع أن يستغنى عن السنة.


تعامل الصحابة مع السنة

كيف كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتعاملون مع السنة ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم؟
كيف كان حرصهم على أن يعرفوا كل نقطة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
كم نالهم من التعب من أجل ألا تتركهم سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم؟


روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد -هذا الجار هو عتبان بن مالك- وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي، وإذا نزل فعل مثل ذلك.

فالقضية تهمه وتشغل باله، فحياته لم تقف، بل يعمل، ويتاجر، ويتزوج، لكنه حريص كل الحرص أن يعرف كل نقطة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.


إن من يسمع عن قصة سيدنا عمر، أو يسمع عن تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم يظن أن سيدنا عمر ليله ونهاره مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتركه لحظة من لحظات حياته، ولكن الأمر على عكس ذلك، فكانت لهم حياتهم الخاصة، ولكن في نفس الوقت كان حريصًا على معرفة كل شيء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.


لماذا لا نتشبه بهم، ونقتفي أثرهم؟

وإذا كنت تختلق أعذارًا بأنه ليس لديك وقت لتفعل كما كان يفعل سيدنا عمر وسيدنا عتبان بن مالك، فمن الممكن أن تقرأ في السنة، وتنقل ما قرأته لجارك، وينقل لك ما قرأه، وتسطيعون أن تقتسموا فروع العلم المختلفة، وتدارسوها، وبذلك تسطيع معرفة منهج، وسنة النبي صلى الله عليك وسلم.


إن عمر بن الخطاب وهو من هو، كان يتعلم، ويتعاون لمعرفة السنة النبوية من عتبان بن مالك، يتعاون معه على البر والتقوى، مع أن هذا الجار كثير منا لا يعرفه، فمن منا يعرف عتبان بن مالك؟

فليس أبا بكر، أو عثمان، ومع ذلك سيدنا عمر كان يستفيد منه، وأكيد عمر رضي الله عنه كان يفيده.


ولنتذكر قصة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما التي ذكرناها في فصل الصحابة والعلم، كم كان حريصًا على السنة! وكان ينام على باب بيت الصحابة، يحكي عن نفسه، فيقول فيما رواه الدارمي بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول عن نفسه:
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار:
يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير.
قال: واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟
فيقول عبد الله بن عباس: فترك ذلك، وأقبلت أنا -يعني على المسألة- فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه، وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول:
يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك. فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك.
فأسأله عن الحديث. قال ابن عباس رضي الله عنهما:
فبقي الرجل، حتى رأني، وقد اجتمع الناس علي.
مرت الأيام وعبد الله بن عباس أصبح من علماء المسلمين واجتمع عليه الناس فقال الرجل الانصاري:
كان هذا الفتى أعقل مني.


روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول عن نفسه:
إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة.
يستعجب الناس من رواية أبي هريرة لكل الأحاديث التي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أكثر من سبعة آلاف حديث، حتى من عاصره كان يستعجب من هذا الكم الضخم الذي رواه أبو هريرة فقد أسلم في سنة سبعة من الهجرة، لم يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع سنين فقط، لكنه روى أكثر من سبعة آلاف حديث من صحبة أربع سنين فقط مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر من روى الصحابة، روى أكثر من كل الصحابة الذين عاشوا مع الرسول عشرين سنة، وأكثر من عشرين سنة، فيقول: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159-160].


تحذير خطير جدًا للذي يكتم آيات الله عز وجل، أو يكتم أي علم وصل عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبو هريرة يخاف من هذا التحذير، فكل معلومة عرفها من الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يقولها، فقال كل الأحاديث التي عرفها، وكيف تسنى لأبي هريرة معرفة هذا الكم الهائل من الأحاديث عن غيره من الصحابة؟
يفسر ذلك أبو هريرة بقوله:

إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق -يعني التجارة- وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل بأموالهم، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني.

فكان من الفقراء المحتاجين رضي الله عنه وأرضاه من أهل الصفة، فكان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يسد ثغرة مهمة جدًا، وهي نقل الأحاديث النبوية بمفرده كما ذكرنا أكثر من سبعة آلاف حديث، فجلوسه مع النبي صلى الله عليه وسلم كان مفيدًا جدًا، ولكن لم يتفرغ كل الصحابة تفرغ أبو هريرة، بل عملوا في سد ثغرات أخرى، وليس المطلوب منك أن تكون كأبي هريرة، وتفرغ نفسك تفرغًا تامًا، وتترك أعمالك، وتجارتك، ولكن يتعاون كل المجتمع على سد كل الثغرات، فالصحابة لم يتفرغوا كلهم لنقل الحديث كأبي هريرة، لكنهم تعاونوا ليستفيدوا من بعضهم البعض، والصحابة لم يكن عندهم مانع أن يقطعوا المسافات، والمسافات، والبلاد، والبلاد، من أجل معرفة رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية من القضايا، حرص عجيب على السنة، وهذا المعنى هو الذي نريد ترسيخه فينا في هذا الفصل.


روى البخاري عن عقبة، عن الحاكم رضي الله عنه وأرضاه أحد الصحابة كان يعيش في مكة، والرسول كان يعيش في المدينة، فتزوج عقبة ابنة أبي إيهاب بن عزيز رضي الله عنه، فأتته امرأة، قالت له: إيه، إني قد أرضعت عقبة، والذي تزوج.
فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتيني ولا أخبرتيني قبل الزواج.

لكنه كان تزوج، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ذهب من مكة للمدينة ليسأله صلى الله عليه وسلم، فسأله ولم يكن يعرف ذلك قبل الزواج، وتزوج، وبعد ما تزوج عرف، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
«كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ».
يعني أنت عرفت، ثم أمره أن يفارقها، ففارقها عقبة، ونكحت زوجًا غيره، الشاهد هو حرص الصحابة الشديد على رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي الشرع، لم يسأل أحد الصحابة في مكة، وينتهي الأمر، ولكنه يسافر من مكة للمدينة خمسمائة كيلوا في الصحراء؛ لكي يسأل عن مسألة واحدة، فالمسألة مهمة، وتستلزم، لكن ليس كل إنسان يحرص هذا الحرص على معرفة رأي الدين.


كثير من الناس تسألني عن مسائل طلاق، وزواج، وتعرف منه بعد ما تسمع حكايته أنه طلق قبل ذلك مرة، واثنتين، وثلاثة، ولا يزال مع امرأته، وتسأله كيف ذلك؟

فيقول: سألت واحد أعرفه، وقال لي لو كنت غضبان فليس ذلك بطلاق. ويمر الأمر ببساطة.


قضايا ضخمة جدًا في حياة الناس، لكن ببساطة شديدة تؤخذ الأمور، نحن نحتاج أن نبذل مجهودًا ومجهودًا كبيرًا لنعرف رأي الدين في كل قضية من القضايا مهما صغرت هذه القضية في أعيننا، لا بد من معرفة رأي الدين، لا يوجد أمر صغير، وأمر كبير، بل يوجد أمر حلال، وأمر حرام، هذا ما نريد فهمه ودراسته من حياة الصحابة.


روى الإمام أحمد، والطبراني، وأبو يعلى رحمهما الله جميعا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: بلغني حديثًا عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرجل سيدنا جابر، ويعيش في المدينة المنورة، سمع أن هناك حديثًا قاله أحد الصحابة في الشام، وكان عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش في الشام، ويريد سيدنا جابر بن عبد الله أن يسمع بنفسه الحديث من عبد الله بن أنيس، وهذا ما يسميه علماء الحديث بعلو السند، بدلًا ما يسمع من فلان عن فلان عن عبد الله بن أنيس، بل يسمع منه مباشرة، فيكون أوثق في المعرفة، يقول:

فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس الأنصاري رضي الله عنه، فقلت للبواب:
قل له جابر على الباب.
فقال: ابن عبد الله؟
فقال: نعم.
فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني، واعتنقته، فقلت:
حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه.
فقال  عبد الله بن أنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يُحَشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- أَوْ قَالَ: الْعِبَادُ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا».
فقالوا: وما بهمًا؟
فقال: « لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهَ حَتّى اللَّطْمَةُ».

فكيف الحال بمن يظلم، ويعذب، ويشرد، بدون وجه حق؟
يقول عبد الله بن أنيس: فقلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلًا بهما؟
قال صلى الله عليه وسلم: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ».

فأخذه جابر بن عبد الله، ورجع إلى المدينة المنورة، حديث واحد يا ترى عندنا كم كتاب في المكتبة فيهم أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم نقرأها، ونحتج بأنه لا وقت لدينا، فكيف استطاع جابر بن عبد الله أن يذهب إلى الشام في شهر ويعود في شهر من أجل حديث واحد؟


الفارق أنه يعطي له أهمية كبيرة، أحيانًا يفرغ الإنسان منا نفسه أسبوعًا كاملًا ليذهب فيه للمصيف؛ لأنه يعرف قيمة المصيف، تجد عنده ساعتين يشاهد المباراة؛ لأنه يعرف قيمة المباراة، ومن الممكن يفرغ نفسه نصف يوم ليشاهد المباراة في الإستاد لأن الموضوع له قيمة عنده.


فعلى قدر أهمية الموضوع تجد له وقت، فلو أعطيت لدراسة السنة، وعلم رأي الدين في قضية من القضايا أهمية ستجد وقت تعمل كجابر، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.


روى أحمد، والبيهقي عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله -عطاء من التابعين- يقول:
إن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه رحل إلى عقبة بن عامر رضي الله؛ ليسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أبو أيوب يعيش في المدينة المنورة، وعقبة بن عامر يعيش في مصر- يقول: فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وكان أمير مصر في ذلك الوقت، خرج إليه، فعانقه، ثم قال له مسلمة:
ما جاء بك يا أبا أيوب؟
قال: حديث سمعه عقبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن، دلني على عقبة أسمع منه الحديث.
فقال: نعم.
فذهب معه لسيدنا عقبة رضي الله عنه، قال عقبة لما رأى أبا أيوب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى كُرْبَتِهِ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».


هذا السطر الذي من أجله جاء أبو أيوب من المدينة المنورة إلى مصر، فيقول راوي الحديث: ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعًا إلى المدينة.
لم يقعد في مصر، ولا لحظة، الهدف عنده واضح جدًا، الهدف عنده أن يعرف السنة، ليس لديه وقت يصرفه في حاجة أخرى، هؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


ليس المقصود أن تسافر من بلد لبلد لتتعلم السنة، وإن كان هذا أحيانًا كثيرًا جدًا يكون مطلوب، لكن المقصود منك أن تكون واسع الاطلاع على الكتب الموجودة في بيتك، وتقرأها، وتشتري إن لم يكن عندك في البيت، احضر درس العلم في مكانك الذي تسكن فيه، واسأل الشيخ الذي تعرفه عن القضايا التي تعرض لك في حياتك من قضايا الإسلام، وما أكثر هذه القضايا؛ لأن هذه القضايا فيها عمرك كله، كل صغيرة وكبيرة في حياتك، هذا هو المقصود من سماع هذه الحكايات عن جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.


الصحابة كانوا يقاطعون من لم يلتزم بالسنة، والمقصود بمقاطعة من لم يلتزم بالسنة: هو مقاطعة من يصر على مخالفة نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وليس من يترك النافلة.


السنة هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو النواهي التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصحابة حين يعرفون أحدًا يصر على مخالفة نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقاطعونه.


روى البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه رأى رجلا يقذف -يعني يرمي طيرًا بحجر بالنبلة- بالمقلاع، فقال له: لا تقذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القذف، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّه لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلَا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ».

يعني تعلمه لن يفيدك في الصيد، ولن ينفع في الجهاد، لكنها قد تكسر السن، وتفقأ العين، فليس هناك أي مصلحة في استعمال هذا القذف، والطير الذي قذف بالحجارة، لو وقع ميت، لن ينفع أكله، الشرع يسميه وقيذًا، وأكل الوقيذ محرم؛ لأنه مات بقوة الرمي، لم يمت بحدها، فلا توجد مصالح في الموضوع، فالله سبحانه وتعالى لما ذكر المحرمات في الطعام في سورة المائدة ذكر منها {وَالمَوْقُوذَةُ} [المائدة:3]، يعني فهو من أكثر من وجه ممنوع، فعبد الله بن مغفل رأى الرجل يقذف، فأمره ألا يقذف، وفسر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رأه بعد ذلك يقذف، بعد ما نصحه، وأمره، ونهاه، فقال له:

أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن القذف، أو كره القذف، وأنت تقذف، لا أكلمك كذا وكذا.
في رواية مسلم، قال: لا أكلمك أبدا.

في الأول نصحه، ثم لما رآه يقوم بعمل في نظره كبير جدًا، رآه يخالف السنة، قرر أن يقاطعه.
ومن هنا أجاز العلماء أن يُقَاطع الذي يخالف السنة عمدًا، حتى، وإن كانت المقاطعة أكثر من ثلاثة أيام، طبعًا بعد أن يقدم له النصح والإرشاد.


اتباع دون سؤال عن الحكمة

الشيء العظيم في الصحابة أنهم كانوا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دون أن يسألوا عن الحكمة، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود، ولا يعرف الحكمة من ذلك يقول:

إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
هذه الجملة أسلوب حياة، فالرسول إن قال شيئًا، أو فعله، أعمله حتى لو لم أكن أفهم الحكمة.

 

فالسنة كانت منهج حياة؛ لذا كانت الحياة سهلة عند الصحابة، ومواطن الحيرة كانت قليلة جدا، يصبح كل الهم هو البحث عن فعل الرسول، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا عرفنا رأيه تتبعناه.

روى البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: فما لنا وللرَّمَل إنما كنا رأينا به المشركين وقد أهلكهم الله.
والرَّمَل هو المشي السريع مع تقارب الخطى، يعنى من ضمن مناسك الحج هذا الكلام أول ما فُعِل كان في  عمرة القضاء سنة سبعة هجرية، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يري الكفار قوة المسلمين، فأمر الصحابة بالكشف عن الأكتاف، وبالرَّمَل السريع؛ ليُخَوّف المشركين من قوة المسلمين، فظن عمر انتهاء الأمر الآن؛ لأنه لا يوجد مشركون، كل الجزيرة أسلمت وكل الحجاج مسلمون، فليس له شأن، ثم رجع لنفسه بسرعة، وقال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه.

حتى لو قال العقل غير ذلك، لا بد من اتباع عمل الرسول صلى الله عليه وسلم.


روى البخاري، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:

اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب -قبل تحريم الذهب على الرجال- فاتخذ الناس خواتيم من الذهب.
لم يقل لهم البسوا، لكن الصحابة حريصة على أن تقلد الرسول في كل شيء، ثم بعد ذلك قال: «إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَنَبَذْتُهُ» .
ثم قال: «إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا».

حُرّم على الرجال، فنبذ الناس خواتيمهم، فالموضوع في غاية البساطة عند الصحابة، فهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من لبس الخاتم حينما لبسه، ولم يسألوه عن الحكمة لما نبذه.


روى أبو داود، وأحمد، والدارمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟»، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ آتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرٌ. أو قال: أَذًى».

خلعهم صلى الله عليه وسلم لسبب مؤقت، وهذا السبب ليس عند الصحابة. لكن الشاهد هو حرص الصحابة على الاتباع، لم ينتظروا إلى انتهاء الصلاة، ثم يسألوا، فبمجرد رؤية الرسول يفعل شيئًا، يعملونه.


هناك كثير يظنون أن هذا الكلام مبالغة من الصحابة، أبدا الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مجرد شخص معجبين به، أو انبهر الصحابة بأفعاله، فالرسول صلى الله عليه وسلم رسول من الله رب العالمين، كل خطوة من خطواته بأمر من الوحي، أو مراجعة بالوحي، ففي تقليده نحن نعمل ما أراده ربنا سبحانه وتعالى منا، وحينما نعمل ما أراده ربنا سبحانه وتعالى نسعد في الدنيا، ونسعد في الآخرة إن شاء الله، وندخل الجنة التي هي منتهى أحلام المؤمنين، لهذا كان الصحابة يحرصون جدا على تقليد الرسول في كل حركة من حركاته صلى الله عليه وسلم الرسول، وكان صلى الله عليه وسلم حريص جدا على ترسيخ هذا المعنى في قلوب، وعقول الصحابة، فتربى الصحابة على هذه الصورة.


موقف من المواقف المهمة في حياة الصحابة يرويه الإمام مالك في موطأه عن عطاء بن يسار رحمه الله، وعطاء من كبار التابعين بالمدينة، روى أن رجل قَبّل امرأته، وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجدًا شديدًا -يعني حزن حزنًا كبيرًا يخاف أن يكون قد ارتكب محظورًا- فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك.

عنده مراقبة داخلية لله عز وجل، حريص أنه يعرف رأي الرسول صلى الله عليه وسلم.
بعث امرأته تسأل إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخلت الزوجة على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبّل، وهو صائم فرجعت، فأخبرت زوجها، بذلك فزاده شرًا، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يحل لرسوله صلى الله عليه وسلم ما شاء.

وهذا اجتهاد من الرجل، فرجع امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ؟»
فأخبرته أم سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ».
فقالت السيدة أم سلمة له: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شرًا، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يحل لرسوله ما شاء.

فغضب الرسول غضبًا شديدًا صلى الله عليه وسلم، ومواطن الغضب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قليلة جدًا، لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل، وهذا الرجل يشدد على نفسه، ولكن لا بد من تقليد الرسول في كل نقطة من نقاط حياته، قال صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ».

فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحلال، والذي منعه هو الحرام، من غير تكلف في شيء، فعمله صلى الله عليه وسلم في العبادة، في الطاعة، في التقرب إلى الله، وما دام أمر المسلمين به، أو لم يخص به رسول صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلمين أن يعملوه من غير زيادة، ولا نقصان.


وهذا الموقف خير دليل على اتباع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج جيشًا لحرب الروم قبل موته بأيام قليلة، ثم مات صلى الله عليه وسلم، وارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية. وتخوف الناس على المدينة، بل تخوفوا على الإسلام، ولكن في هذا الجو المشحون، والمدينة وضعها في منتهى الخطورة، والجزيرة كلها مرتدة، وقد تهجم على المدينة في أي لحظة، في هذا الجو المشحون أصر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على إنفاذ جيش أسامة بن زيد لمحاربة الروم، ولم يوجهه لمحاربة المرتدين، أو لحماية المدينة، بل عمل على إنفاذه لمحاربة الروم، وإن كان خطر المرتدين على المدينة أوقع، ولكن لا بد من إنفاذه؛ لأن مُخْرِجه هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءت الناس تخاطب الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليترك الجيش في المدينة لحمايتها، ولكنه أَبَى، وقال:

لو أن الطير تخطفنا، ولو أن السباع حول المدينة، ولو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشًا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده.

كيف يأمر الرسول بأمر، أو يعمل شيئًا، وأخالفه، وهذا من فهمه رضي الله عنه وأرضاه، ومن أعظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، دقة الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما كلمه الناس، وقالت له:
لو عزلت أسامة بن زيد من على رأس الجيش، ووضعت رجلًا آخر كبيرًا في السن مكانه.
وكان يكلمه عمر بن الخطاب، فقال له كلمة شديدة جدًا، قال له:
ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، يؤمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزعه أنا.
فكل خطوات الصديق كانت موفقة، لأنه كان يرى بعين الرسول صلى الله عليه وسلم.


إن الصحابة كانت تقلد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور لا يجب فيها التقليد، كانت هناك أمور عفوية تلقائية، فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أو اثنتين، وقد يفعله الإنسان من غير قصد ولا تعمد، مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عبد الله بن عمر كان يوقف القافلة، وينزل من على ناقته يصلى في بقعة ما أثناء سفرة ركعتين، فاستعجب الناس من هذا الموقف، ولما سئل في ذلك، قال:

في هذا المكان صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا المكان ليس فيه فضل معين، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلى ركعتين، ركعتين حاجة، أو ركعتين استخارة، لكن سيدنا عبد الله بن عمر رأى الرسول يفعل أمرًا، فهو يقلده في كل نقطة، بل أكثر من ذلك، فذات مرة أوقف القافلة، وكانت القافلة قائمة من راحتها، ولكنه نزل ليتبول في هذا المكان؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتبول في هذا المكان.


ولا نقلل من هذا الأمر، ولكن ندرك حرصه رضي الله عنه في تتبع كل نقطة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، دارت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم دورتين في مكان قبل أن ينيخها، فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا وصل إلى ذلك المكان أدار ناقته دورتين قبل أن ينيخها، فهو مادام قد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، يفعل مثله.

وهذه مبالغة، لكنه مأجور عليها إن شاء الله؛ لأنه حريص على الاتباع، ولا يترك أي أمر، من المفروض أنه إذا كان يتبع في هذه الأمور، فهو من المؤكد يتبع في كل أمر، وهذا هو المهم، وهذا هو السلوك الذي من الممكن أن ينجي صاحبه، وهو ما نريد تعلمه.


الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب فقال للناس بعد ما صعد على المنبر، قال لهم: «اجْلِسُوا».
بعض الصحابة كانوا واقفين، فقال لهم: اجلسوا.

فسمع ذلك ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وكان على باب المسجد، فجلس على باب المسجد، يوجد مكان بداخل المسجد، لكنه سمع كلمة اجلسوا، فنفذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلس على باب المسجد، فرآه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له: «تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ».
قد أصبح في تكوين عبد الله بن مسعود، أنه لا يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.


وإذا استعجبتم من كل هذه الأمثلة، أختم به وهو أعجب من كل ما مضى روى مسلم، وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ذات يوم إلى منزله، فأخرج إليه فلقا من خبز -يعني كسرات من خبز- فقال صلى الله عليه وسلم ينادي على زوجاته، فقال: «مَا مِنْ أُدْمٍ».
والأُدم هو غموس، وفي رواية إدام.
فقالوا: لا إلا شيئا من خل.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «فَإِنَّ الْخَلَّ نِعْمَ الْأُدْمِ»، وفي رواية: «نِعْمَ الْأُدْمِ الْخَلُّ، نِعْمَ الْأًدْمِ الْخَلُّ».


وانتتهت القصة، وجلس سيدنا جابر يأكل خلًا مع سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم. وسمع سيدنا جابر هذه الكلمة، قال:

فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وسلم.


مع أنه شيء فطري يختلف من إنسان لإنسان، لكنه سمع الرسول يمدح في الخل، ويقول: نعم الأدم الخل.
بعدما سمع هذه الكلمة أصبح يحب الخل، ويقول طلحة بن نافع أحد رواة الحديث: ما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر.


فطلحة بن نافع رحمه الله أراد أن يقلد الرسول، حتى في حب الخل، فظل يحب الخل منذ سمع هذا الكلام من جابر، هذا اتباع دقيق لرسول صلى الله عليه وسلم وصل أحيانًا إلى حد المبالغة، لكنهم حريصون جميعًا على تقليد الحبيب صلى الله عليه وسلم.


الصحابة كانوا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعلمون أن اتباعه هو خير الدنيا، والآخرة، وأنه لا مناص من اتباعه حتى يدخلوا الجنة، وأنهم لو اتبعوا أي مخلوق غيره، فلا سبيل إلى دخول الجنة، إلا خلفه صلى الله عليه وسلم، وفوق ذلك الصحابة كانوا يتبعون الرسول؛ لأنهم كانوا يحبونه حبًا لا نستطيع أن نصفه، حتى لا يتخيل أحدنا أنه يخالف سنته، امتنزج حبه بدمائهم، ولحومهم، وعظامهم صلى الله عليه وسلم، فأصبح وكأنه فطري مزروع فيهم، فهم يحبونه، ولا بد من أن يتبعوه، وفوق ذلك، وأعظم منه، أنهم كانوا يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يحبون الله عز وجل الذي خلقهم، ورزقهم، وأحياهم، ثم يميتهم، وبعد الموت بعث، وبعد البعث حساب، والذي يحاسب هو الله عز وجل، والذي بيده الجنة والنار هو الله عز وجل، والذي عرفنا سبيل حب الله عز وجل، هو الله عز وجل قال في كتابه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].


فسبيل حب الله عز وجل هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا نجاة والله بغير اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بسنة نبينا، وحبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يضع أقدامنا على الطريق القويم، وأن يجمعنا معه، ومع صحابته في أعلى عليين.