عطلة من الأخبار
عندما ينقح علينا الضمير، وتطاردنا وجوه الضحايا لا نجد إلَّا صفحات الورق، أو الخطبة العصماء، أو الاعتصام، أو متابعة نشرات الأخبار والتحليلات؛ لنفرغ هبة الغضب الساطع لنعود ونستأنف الجمعة والعطلة المهدورة على مذبح الأخبار، فيا لها من نعمة "نعمة النسيان"!!
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
تبًّا للأخبار؛ فهي تفسد مشاريعنا بسهرات هادئة يلفّها الكسل والتخمة، وبالذات في العطل وأيام الجمعة، وكأنما تزداد الكوارث في نهاية الأسبوع لنستبدلها بفلم السهرة، ولكن على مستوى عالٍ من الأكشن والإثارة.
أحيانًا تُفسد الأخبار طموحاتنا إذا كان عندنا بقايا حسّ أو ضمير، بسهرة صباحية نصحو بعدها متأخرين على صحن فول وحمص ومسبحة وقدسية، ومناقيش بالزعتر؛ لتحملنا أقدامنا -إن حملتنا- متأخرين إلى صلاة الجمعة التي سيحدثنا فيها الشيخ بخطبة معدة مسبقًا عن المعتزلة وأثرهم على الإسلام، ليختمها بالدعاء بحفظ البلاد ورخاء العباد ودوام النعم، لنوجه وجوهنا إلى الكعبة التي جعل الله دماء المسلم أكثر منها قدسية وحرمة، مضيعين للكعبة ورب الكعبة وعباد رب الكعبة، ويا للعجب!!
فهذه ذاتها صلاة الجمعة التي كان ديدن صلاح الدين أن يصليها قبل أي معركة، حتى سُمّي بأمير الجمع، ومنها حطين التي فُتح بعدها بيت المقدس؛ ليكسب دعاء المسلمين قبل المعركة؛ فيجتمع له التوفيق الإلهي والجهد البشري، فيتقدم منصورًا قبل النصر.
فتبًّا لمن أفسد الجمعة، ودعوات الجمعة، وأهل الجمعة!!
سنبتلع أول لقمة منسف أو مسخن أو صيادية أو كبسة أو أي وجبة من العيار الثقيل الذي يتناسب مع مستوى يوم الجمعة، أو يوم العطلة لنتبعها بكأس شاي بالنعناع أو المريمية، حسب الفصل، ليساعدنا على الهضم تمهيدًا للنوم على أنغام المكيف أو وهج التدفئة، في الوقت الذي يقفل الذين حاولوا الصلاة في المسجد الأقصى من الشباب دون الأربعين، راجعين بخفّي حنين بعد أن مُنعوا من الصلاة في المسجد، فاكتفوا بالصلاة في الشوارع تحدّيًا للمحتل، في الوقت ذاته سيكون عدد أرامل العراق الذي جاوز المليونين في آخر إحصائية مرشحًا للزيادة؛ فالموت، والفقد، وجميع مفردات المآسي أصبحت ديدن العراق، في الوقت الذي سننعم فيه بدفء أو برودة منازلنا سيحرق الحر أو تغرق المياه خيام الغزيين المنصوبة على أطلال بيوتهم، تنتظر الوعود، واللجان، والمفتشين، والقوافل، ليبقى الحال على ما هو عليه.
هؤلاء نحن أبناء النكبة التي لم نعشها!!
أبناء النكسة التي لم نفهم أسبابها!!
أبناء الانتفاضة على شاشات التلفاز!!
إخوان الشهداء بالادّعاء والمشاعر!!
ساكنو المخيم في الروايات وذاكرة التاريخ!!
حاملو الفيزا كارد بدل كرت المؤن!!
نشرب الماء المثلج المنقّى على سبع مراحل بالأشعة الفوق بنفسجية، لا ماء الآبار المسروقة في القدس أو المفقودة في غزة.
ندفع آلاف الدولارات هربًا من خدمة الجيش.
وعندما ينقح علينا الضمير، وتطاردنا وجوه الضحايا لا نجد إلَّا صفحات الورق، أو الخطبة العصماء، أو الاعتصام، أو متابعة نشرات الأخبار والتحليلات؛ لنفرغ هبة الغضب الساطع لنعود ونستأنف الجمعة والعطلة المهدورة على مذبح الأخبار، فيا لها من نعمة "نعمة النسيان"!!
لماذا تصر الأخبار أن تذكرنا بالضحايا مرارًا وتكرارًا؟
لماذا يعيدون علينا صور هدى غالية وأهلها المكوّمين قتلى جثثًا فوق بعضهم البعض؟!
لماذا يعيدون علينا صور ألماظة السموني والجميلة المبتورة القدمين، ومن قبلها إيمان حجو، ومن قبلها فارس عودة، ومحمد الدرة وغيرهم وغيرهم؟!
هل بقي للطفولة معنى في فلسطين وغزة؟ ماذا بقي من براءة الأطفال مع القتل والهدم والتشريد؟!
إن مجرد كونهم فلسطينيين كفيل في عرف القتلة والمحتلين أن ينفي عنهم كل سمات البراءة.
كون أطفال غزة من أهل غزة يجعلهم من عتاة المجرمين!!
كونهم أطفالًا سبب وجيه لاستهدافهم وملاحقتهم إلى المستشفى، وفي سيارات الإسعاف لضمان إزهاق أرواحهم؛ فقد يكونون مشاريع مجاهدين في المستقبل!!
فمن أين لهم البراءة وهم يملكون مثل هذا السجل الإجرامي؟!
ما زالت براءة الأطفال تجعلهم يثقون بالعرب، ويستنجدون بهم عند كل مصيبة...لم يفهموا الدرس الذي وعاه الكبار، فما كان من أحد الشيوخ الغزيين وهو يمسك ببقايا حفيده الذي كان في يوم إنسانًا إلَّا أن صرخ واستنجد بالقوة العظمى: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر!!
في غزة كل شيء مقلوب حتى المفاهيم والكلمات؛ فالمدارس عندهم عندما تُفتح لا تدرس مناهج العرب...ألم يقل لهم نزار من قبل:
يا تلاميذَ غزةَ علّمونا *** بعضَ ما عندكم فنحنُ قد نسينا
نحن أهلُ الحسابِ والجمعِ *** و الطرحِ فخوضوا حروبَكم واتركونا
نحن موتى لا يملكون ضريحًا *** وعميانًا لا يملكون عيونا
قد لزمنا جحورَنا وطلبنا *** منكم أن تقاتلوا التّنينا
إن البراءة الوحيدة التي يجب أن يعرفها أطفال غزة هي البراءة من المتخاذلين من العرب..
هي براءة أعلنتها في يوم طفلة عراقية عندما تحوّل أهلها إلى رماد فيما كان يُسمّى ملجأ العامرية، فقالت على لسان الشاعر:
أنا يا سادتي طفلةٌ
وقومي اسمُهم عربُ
أنا من أمّةِ القبلةِ
وللمليارِ أنتسبُ
ومن يدري إذا ما ضاق بي صدري
فقد أدعو من القهرِ
عليكم أيها العربُ
وأنوي يا بني ديني
فيلجمُني ويثنيني
نداءٌ في شرايني "هم العرب"
فأهوي ثم أنتحبُ
فأحمدُ سيدُ الدنيا...إليكم كان ينتسبُ
يا ترى عندما نقرر أن نأخذ عطلة من الضمير، ومن أدنى درجات التفاعل والإحساس، فهل يأخذ القتلة والمحتلون عطلة؟ وهل يأخذ الضحايا عطلة من الألم والمصائب؟!
ديمة طهبوب.