1/3 أهمية إيجاد البدائل الشرعية

خباب الحمد

من الأولويات الهامة للعمل في حقل الدعوة الإسلامية؛ الفهم الناضج لدى طلبة العلم، ومتعلمي الشريعة بالذات، ليخرجوا لنا بمحصِّلات مدروسة، ونتائج محروسة في فقه البديل الإسلامي المواكب لروح هذا العصر ومتطلباته، وكيفية إنقاذ هذه الأمَّة المنكوبة من الأزمات التي تحلُّ بها سواء أكانت تعليمية أو تربوية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية وغيرها من ألوان المشاكل، وأشكال المحن...

  • التصنيفات: الواقع المعاصر - الحث على الطاعات -

حدَّثتني إحدى الصالحات أنَّ ثلاث فتيات في مدرستها اتفقن على قيام الليل -ولكن من نوع آخر- إنَّ برنامج ستار أكاديمي قد خلب لبَّهم، وسحر فكرهم، ولأجل ذا فقد تواعدن على أن يقسِّمن الليل إلى ثلاثة أثلاث كلُّ واحدة منهن تنظر في هذا البرنامج وتقوم بتسجيله، ثمَّ تتصل على زميلتها بعد أن تنتهي ورديتها في ملازمة التسجيل لهذا البرنامج وتقوم الثانية بهذا الدور، وهكذا العمل مع الزميلة الثالثة إلى أن ينتهي البرنامج.

بهذا المنطق يتفاعل الكثير من الشباب والفتيات المنتسبين للإسلام حين يريدوا مشاهدة هذه البرامج الهابطة، والتي بثَّت أخيراً عبر الفضائيات، وجعلت لدى الشباب نوعاً من الهوس لإعجابهم بهذه البرامج المباشرة، وكأنَّها مغناطيس يجذبهم بقوَّة وقهر، وليس لهم إلَّا تلبية رغبات النفس، وخطرات الروح.

أما آن للمصلحين أن يفيقوا من نومهم العميق، لإنقاذ شبابنا وفتياتنا من مأساة فكرية وشهوانية تعصف بهم ذات اليمين وذات الشمال، وقد جعلتهم يتطايرون على الشَّاشات كالفراش وهم لا يشعرون!!

ودعونا أيها الفضلاء أن نراجع أنفسنا، وننقد ذاتنا! فجزى الله علمائنا خيراً حين أفتوا بتحريم هذه البرامج، وبينوا بلا لبس أو غموض حكم مشاهدتها، والنظر إليها، فقد أثَّرت تلك الفتاوى في البعض وأقلعوا عن مشاهدتها ولله الحمد والمنَّة..

ولكن هل نكتفي بهذا، ومازال الكمُّ الهائل من شباب الأمَّة يشاهدون ويصفِّقون، ويحلمون في منامهم ويقظتهم في ذكريات البرنامج الشبابي!

ألا يوجد لدينا حلولٌ وافرة، وأكفٌ رفيقة ليِّنة تحتضن الشباب والفتيات في برامج إسلامية مشوقة، ومشاريع تربوية وترفيهية، وبدائل عن تلك المُثُلِ منضبطة بميزان الشريعة؟ 

أين أصحاب الحلول المنتجة، أين أهل الثراء والمال والغنى، أين أصحاب الأفكار الإبداعية، والمشاريع الابتكارية؟

أين هم من الذي يحاك لشباب هذه الأمَّة، ويخاط لهم وينسج في مواخير الفساد، وأندية الظلام، والكواليس الخفية لتعليمهم دروساً في العربدة والشهوات؟

ترى لو أنَّ جيشاً عرمرماً أحاط ببلدة من بلاد الإسلام، وأثخن فيها وأكثر من القتل والتعذيب لأبناء الإسلام، ثمَّ خرج علينا رجل يبيِّن خبث هذا العدو ومكره، وحذَّر المسلمين من استقباله أو احتضانه... ثمَّ وقف إلى هذا الحد، واكتفى بهذا القدر.

هل سيؤدِّي هذا إلى دحر العدو وإنقاذ النَّاس؟ أم أنَّ هناك لوازم ينبغي إضافتها على ذلك الحدث!!

 

وبعد:

إنَّ المراقب لهذه الأوضاع، وتلك الأحداث، ينبغي عليه أن يعرف أنَّ من أسباب وجوده في هذه الأرض دعوة الناس لدين ربِّ العالمين، وتقريبه إلى قلوبهم، فليست كلًّ الدعوة بالمحاضرات ولا بالخطب، وليست كلُّها بالدروس أو الفتاوى فحسب، بل لا بد من استخدام جميع الوسائل المشروعة والمتاحة فالدعوة إلى الله لا تحدُّ بحدود، ولا تقيد بقيود.

وحيث إنَّني شرعت في المقصد فإنِّ من الأولويات الهامة للعمل في حقل الدعوة الإسلامية؛ الفهم الناضج لدى طلبة العلم، ومتعلمي الشريعة بالذات، ليخرجوا لنا بمحصِّلات مدروسة، ونتائج محروسة في فقه البديل الإسلامي المواكب لروح هذا العصر ومتطلباته، وكيفية إنقاذ هذه الأمَّة المنكوبة من الأزمات التي تحلُّ بها سواء أكانت تعليمية أو تربوية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية وغيرها من ألوان المشاكل، وأشكال المحن.

والعالم الحق هو من وصفه الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله بأنَّه (الذي يعرف الحق، ويرحم الخلق) وأنَّه (كلَّما اتسعت معرفته بالشريعة وروحها، كان أرحم بالعباد وأعظم الناس تيسيراً عليهم ورفقاً بهم).

وحين يتأمل الإنسان الهدي الربَّاني في القرآن الكريم يجد أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ ما حرَّم على عباده شيئاً إلَّا وأبدلهم عوضاً عنه ما هو خير منه، بل وصل ذلك إلى الألفاظ فإنَّه تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104]، فقد نهاهم تعالى عن ذلك؛ لأنَّ فيه شبهاً بيهود حين كانوا يقولون ذلك لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم ويقصدون بذلك السخرية به عليه الصلاة والسلام فنهى الله صحابة رسوله أن يقولوا هذه الكلمة لمحمد  صلَّى الله عليه وسلَّم وأبدلهم بأن يقولوا له: (انظرنا).

كذلك من تدبر سيرة المصطفى  صلَّى الله عليه وسلَّم  يجد ذلك واضحاً في منهجيته في التربية والتعليم، فإنَّه كان إذا حرَّم شيئاً أتى بالبديل المشروع مقابل ذلك الأمر المُحَرَّم؛ لأنَّه يعلم أنَّ النفوس ضعيفة، ومجبولة على حبِّ العوض والبديل، وخذ أمثلة على ذلك.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم  بتمر برني، فقال له: النبي  صلَّى الله عليه وسلَّم «من أين هذا؟» قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لنُطعم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال عليه السلام «أوَّه أوَّه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثمَّ اشتره» (رواه البخاري: رقم [2201]، ومسلم: رقم [1593]).

أتأملت أيها المبارك كيف أنَّه عليه الصلاة والسلام حين حرَّم فعل بلال رضي الله عنه نقله نقلة توعوية بديلة ومشروعة قبالة ذلك الأمر المحرم، وتلك صفة العالم الرباني، والبصير بالواقع الذي حوله ولهذا قال الإمام ابن القيِّم في ذلك: "من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه إليه، أن يدلَّه على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتى إلَّا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب النَّاصح في الأطباء يحمي العليل عمَّا يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان"،

وفي الصحيح عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنّهَ قال: «ما بعث الله من نبي إلأَّ كان حقَّاً عليه أن يدلَّ أمَّته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم»  (مجموع الفتاوى لابن تيميه: الصفحة أو الرقم [5/7])، وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا ـ قدَّس الله روحه ـ يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمَّل فتاويه وجد ذلك ظاهراً فيها ) (أعلام الموقعين: [4/121ـ 122]).

و سأنقل كلاماً للشيخ ابن تيمية في ذات الموضوع الذي مدحه به تلميذه ابن القيِّم، حيث قال ابن تيمية: "إذا أراد تعريف الطريق الَّتي يُنَالُ بها الحلال، والاحتيال للتخلص من المأثم بطريق مشروع يقصد به ما شرع له، فهذا هو الذي كانوا يفتون به ـأي السَّلف الصالح ـ، وهو من الدعاء إلى الخير، والدَّلالة عليه، كما قال صلَّى الَّله عليه وسلَّم: «بع الجمع بالدراهم، ثمَّ ابتع بالدراهم جنيباً» (صحيح البخاري: [2201])، وكما قال عبد الرحمن بن عوف لعمر الخطَّاب: " إنَّ أوراقنا تُزيَّفُ علينا أفنزيد عليها ونأخذ ما هو أجود منها؟ قال: لا ولكن ائت النقيع فاشتر بها سلعة، ثمَّ بعها بما شئت" (بيان الدليل على بطلان التحليل: الصفحة [133]).

ومن الأمثلة على ذلك من هدي المصطفى عليه الصَّلاة والسلام في أنَّه إذا منع شيئاً فتح لمن منعه باباً آخر من الأمر المشروع، والبديل المنضبط بمعيار الشَّريعة، ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلَّم ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال: «قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم النحر، ويوم الفطر» (أخرجه أحمد في المسند [3/103ـ178ـ235]، وأبو داود: [1134]،والنَّسائي: [3/179]) بسندٍ صحيح. واليومان الَّذين يلعبون فيهما أهل الجاهلية هما (يوم النيروز ويوم المهرجان). وللمزيد انظر(عون المعبود: [3/485] للعظيم آبادي).

 

أرأيت ـأخي القارئ ـ إلى هديه عليه الصلاة والسَّلام في ذلك، حيث إنَّه لا يرضى بوقوع المنكر، ولا أن يؤلف، ولكنَّه عليه الصلاة و السَّلام يبيِّن خطر الشيء المحرَّم، ومن ثمَّ يبين البديل الشرعي عن ما حرَّمه الله، ومن هنا فطن علماء الإسلام لتوضيح هذه القضيَّة في مدوناتهم، ورسائلهم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ـطيَّب الله ثراه ـ فقد بيَّن بأنَّ المبتلى بالمنكر أو البدعة فإنَّه يتوجب على ناصحه أن يدعوه للإقلاع عن هذا الأمر المحرَّم ولو كان في ظاهره الخير، ومثَّل لذلك ابن تيمية، بالبدعة، فقال: "إذا كانت في البدعة من الخير فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلَّا بشيء...فالنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنَّما الترك مقصود لغيره" (اقتضاء الصراط المستقيم: [2/125]).

 

يتبع...