مقام الوحشة من الخلق​​

عمرو عبد البديع

مالي وللناس كنت في بطن أمي وحدي وخرجت إلى الدنيا وحدي وأموت وحدي وأدخل قبري وحدي وأسأل وحدي وأبعث من قبري وحدي وأحاسب وحدي فإن دخلت الجنة دخلت وحدي وإن دخلت النار دخلت وحدي، ففي هذه المواطن لا ينفعني أحد فمالي وللناس.

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

قال إبراهيم بن أدهم: مالي وللناس كنت في بطن أمي وحدي وخرجت إلى الدنيا وحدي وأموت وحدي وأدخل قبري وحدي وأسأل وحدي وأبعث من قبري وحدي وأحاسب وحدي فإن دخلت الجنة دخلت وحدي وإن دخلت النار دخلت وحدي، ففي هذه المواطن لا ينفعني أحد فمالي وللناس.(1)

يرسم إبراهيم بن أدهم بعبارته هذه .. فقه الوحشة من الخلق أو فقه (مالي وللناس)، الوحشة من الخلق مقام أو حال لابد للسائر إلى الله والدار الأخرة أن يعيشه من حين إلي آخر ويتماهي معه، عندما تجذبه الدنيا وتسحبه بعيداً عن المقصد والغاية الكبري التي خلقه الله من أجلها (العبودية).

  • الخلوة أو العزلة عن الخلق .. تجعلك تشاهد بوضوح الفاصل بين عبوديتين، عبودية الله وعبودية ما سواه من مال ونساء وشهوات خفية قد لا يحسبها صاحبها عبودية، ولكن العزلة عنها وعن الخلق تجعله يكشف أن ثمة خوف من فقدها ورجاء في اكتسابها وطمع وشّره في اكتنازها، ولم يجد من نفسه هذا الخوف والرجاء والطمع في سلوكه مع الله، بل وجد من نفسه فتور وترخص وغفلات متتالية لا تنقطع إلا بصحوة إيمانية سنوية رمضانية، وحتي هذه الصحوة لا تخلو من هنات وزلات وغفلات.
     
  • الخلوة بالله والوحشة من الخلق .. تجدد معاني الإخلاص وتصفيه من مدح الناس وذمهم، وتوطين النفس على استواء المدح والذم من الخلق، وما يترتب عليه من الولع بكلام الناس فيك سواء مدحاً أو ذماً، من عُجب بالنفس أو رؤية كبير فضل لها أو ضيق وحزن لذمهم فيك، تُخلصك الخلوة من كل هذا وتُعيد تصحيح قبلة قلبك إلي الله وإلي رضاه وحده فقط.
     
  • الخلوة بالله والوحشة من الخلق .. تصقل مرآة قلبك التي تطلعك على الدار الآخرة وأحوالها، كما فعل الحارث المحاسبي في رسالته (التوهم) .. هذه المرآة أو العين القلبية قد غبشت بغيوم شهوات وإرادت فاسدة أورثت صاحبها (فسادا للتصور) وخلط بين أولويات الدنيا وأولويات الآخرة، وهذا الفساد في التصور يؤؤل إلى انحراف في السلوك وجرآة على المعاصي وتسويف في التوبة والرجوع إلى الله وإخلاد إلى الأرض، وقد جاءت الآيات الكثيرة حول هذا المعنى: قال تعالي {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].
    {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} [الأنعام: 50].
    {ومن كان في هذه أعمى فهو في الأخرة أعمى وأضل سبيلا} [الإسراء: 72].
    {فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها} [الأنعام: 104].
     
  • الخلوة بالله والوحشة من الخلق .. تُساعد علي الرؤية الحقيقية للدنيا .. رؤية من الخارج (نوعا ما) رؤية غير مشوبة بخلطة بالدنيا، رؤية من على جبل عال تكشف مدى الانحراف عن الطريق وتعيد تصحيح وتوجيه الخطوات إلى المسار الحق.
     
  • الخلوة بالله والوحشة من الخلق .. تقطع العلائق التي تضر بالعلاقة مع الله، وهذه العلائق خفية وكثيرة بالبشر والمتاع والآمال، تحتاج إلى بصيرة وطول تفكير لا يكون إلا بخلوة بالله وعزلة عن الناس.
     
  • الخلوة بالله والوحشة من الخلق .. تُقوي بوصلة استشراف الفتن، وفراسة معرفة الباطل الذي في صورة الحق حتى إذا أدرك زمن الفتن الكبرى دخل في العزلة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها حذيفة بن اليمان «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يُدركك الموت وأنت على ذلك»، أو كما روى البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق باب: العزلة راحة من خُلاط السوء، حديث أبي سعيد الخدري يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي على الناس زمان، خير مال الرجل المسلم الغنم، يتبع بها شغاف الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينه من الفتن».
     
  • الخلوة بالله والوحشة من الخلق تتيح للمرء تطبيق سنة عمر بن الخطاب في محاسبة النفس حيث قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر.(2)
    محاسبة غليظة شديدة لاترى فيها لنفسك فضل في فعل أي طاعة، بل تشاهد منة الله عليك في كل شيء وتشاهد تقصيرك وجنايتك في حقه.

    وقال بعض العارفين: متي رضيت نفسك وعملك لله فاعلم أنه غير راض به، ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر، وعمله عرضة لكل آفة ونقص، كيف يرضي لله نفسه وعمله؟

    وينقل ابن القيم عن الشيخ أبي مدين قوله في المحاسبة: من تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى وأقواله بعين الافتراء وكلما عظم المطلوب في قلبك صغرت نفسك عندك.

    وعليك أن تستصحب في خلوتك آلات المحاسبة أو آلات المقايسة كما أطلق عليها ابن القيم وهي ثلاث:

    أولاً: نور الحكمة: وهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل والهدى والضلال والضار والنافع والكامل والناقص والخير والر ويبصر به مراتب الأعمال راجحها ومرجوحها ومقبولها ومردودها وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم.
    ثانياً: سوء الظن بالنفس: فإنما أحتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبس عليه، فيرى المساويء محاسن والعيوب كمالا.

    ثالثاً: تمييز النعمة من الفتنةفليفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف ويُعان بها على تحصيل سعادته الأبدية، وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج، فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء حوائجه وستره عليه.(3)
     
  • الخلوة بالله والوحشة عن الخلق .. تساعدك على مدارسة علم ومطالعة كتاب وتدبر في آيات قرانية وأحاديث نبوية، ولكن لابد أن تكون هذه الخلوة سنية ليست بدعية ليس فيها انقطاع عن الجمع والجماعات وتقصير في الحقوق والواجبات، وأنها تكون استثناء من الأصل وليست هي الأصل.

    اللهم ارزقنا وحشة من الخلق وأنس بك وحدك، اللهم اجبر الكسر، وأقل العثرة وارفع الزلل واقبل العمل.

    (1) إيقاظ الهمم شرح متن الحكم، ابن عجيبة.
    (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس " (ص 29 – 30 )، وأحمد في "الزهد" (ص 120)، وأبو نعيم في "الحلية " (1/52)، وعلقه ابن الجوزي في "مناقب عمر رضي الله عنه".
    (3) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، فصل: منزلة المحاسبة. ابن القيم الجوزية.