المتقاعدون (خزانات الخبرة المهملة) وفرص واعدة لتنمية المجتمعات الإسلامية
فالتقاعد الذي يعتبره البعض نهاية الحياة، قد يكون عند البعض الآخر بداية حياة جديدة، وفرصة لاكتشاف الذات، والجلوس مع النفس وتقييم إمكاناتها، بعد سنوات طويلة من العمل ومعاركة الحياة، يتفرغ فيها الشخص إلى حياته الخاصة، وممارسة أوجه الحياة التي كانت زحمة العمل تعيقه عنها، فتتكشف فيه مهارات جديدة قد يتفرغ لها
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
في الوقت الذي تبذل فيه الحكومات الجهد المضني لتوفير فرص عمل لشبابها، لتجنبهم شبح البطالة الذي يتهدد معظم المجتمعات في الآونة الأخيرة بفعل الأزمات الأقتصادية والمالية المتلاحقة، يبدو الخوض في غمار التجربة الإنسانية الرائعة التي تقدمها الحضارة اليابانية للمتقاعدين ومن يبلغون سن المعاش -يبدو سباحة عكس التيار-، إلا أن إستراتيجية "التقاعد؛ بداية جديدة لمرحلة مختلفة" الذي ينتهجها المجتمع الياباني تستوجب التوقف أمامها كثيرًا ونحن نحاول معالجة ملف المتقاعدين وسبل الاستفادة من خبراتهم في تنمية وتطوير مجتمعاتنا بوصفهم خزانات خبرة مهملة.
ومما يحتم تدارس ذلك الملف المؤشرات الإحصائية التي تؤكد أن أعداد المتقاعدين ستبلغ في منطقة الخليج العربي في العام 2025م نحو 25% من السكان، ومع تلك النسبة العالية تبدو مجتمعاتنا مهددة بكثير من الظواهر بل والأمراض المجتمعية والصحية؛ إذا بقى مستقبل المتقاعدين مرهونًا بالمقاهي أو بجلسات قتل الوقت بلا فائدة.
بل تتعاظم الآثار الناجمة عن إهمال المتقاعدين في ضوء كم الخبرات الكبير الذي حصّله المتقاعد عبر سنوات عمله التي أكسبته خبرات واسعة في شتى مجالات الحياة، من غير المقبول إهمالها أو التفريط بها.
نظرة إيجابية:
فالتقاعد الذي يعتبره البعض نهاية الحياة، قد يكون عند البعض الآخر بداية حياة جديدة، وفرصة لاكتشاف الذات، والجلوس مع النفس وتقييم إمكاناتها، بعد سنوات طويلة من العمل ومعاركة الحياة، يتفرغ فيها الشخص إلى حياته الخاصة، وممارسة أوجه الحياة التي كانت زحمة العمل تعيقه عنها، فتتكشف فيه مهارات جديدة قد يتفرغ لها، كالميل للكتابة وإفادة الآخرين من واقع تجربته الطويلة، ووضع خبراته بين يدي الأجيال القادمة، أو تقديم هذه الخبرات عن طريق المحاضرات والاستشارات، أو الميل إلى مجالات الخدمات التطوعية المجتمعية، أو الترفيه عن النفس واكتشاف آفاق جديدة في الحياة والثقافات والأمم والشعوب، عن طريق السفر والاطلاع والقراءة.
كل هذه الوجوه من العمل التي أعطته إياها فرصة التقاعد، قد يمارسها الشخص المتقاعد عن حب ورغبة، دون أن يجد من يلزمه بها، فهو يختار ما يناسبه من أوجه النشاط الإجتماعي والثفافي غير متقيد بقوانين العمل ولوائحه، مع إتاحة قدر كبير من الحرية له، وعدم الارتباط، لهذا عليه أن يتأقلم مع وضعه الجديد، ويتعايش معه، ولا ينظر له على أنه قرار لتنحيته عن العمل لعيب فيه، بل إنها سنة الحياة في التجديد، وإتاحة المجال للأجيال القادمة للعمل والابتكار، دون أن ينقص ذلك من خبرات الكبار الذين قطعوا أشواطًا طويلة في العمل، وبنيت على أكتافهم المؤسسات، ليأخذ الموظف المتقاعد دورًا جديدًا في الحياة، يتناسب مع قدراته وخبراته التي لا بد أن ينفع بها الآخرين بشتى الطرق والوسائل، ويواصل أداء رسالته في الحياة بشكل جديد، ومن موقع جديد.
اقتصاديات التقاعد، النموذج الياباني:
عكست اليابان إهتمامها بتلك الشريحة المهمة ببرنامج إجتماعي اقتصادي يعتمد إضافتهم إلى المعادلة التنموية الشاملة في مواقع متنوعة سواء كانت ذات صلة بتلك التي قضوا فيها فترة عملهم أو غير ذات صلة، وذلك بإعادة تعيينهم كمستشارين في مؤسسات الحكومة والمجتمع المدني والجمعيات الأهلية مع تغيير طفيف بمواعيد دوامهم يتماشى مع المرحلة العمرية، بجانب شمولهم بمظلة الأمان الإجتماعي والاقتصادي.
تلك الإستراتيجية ملأت على كبار السن باليابان أوقاتهم حتى أصبحوا أكثر شعوب الأرض حياة، ولم تعد الشيخوخة فيها مأساة ولا حالة يأس، بل هي بداية حياة جديدة. وذلك على الرغم من أنها تحقق رقمًا قياسيًا عالميًا في عدد كبار السن -ما فوق 65 سنة-، مما يعني أنها تعدت خلال عشرين سنة نسبة 1.9% من عدد الشيوخ فيها، ووصلت اليوم إلى نسبة 5.8% وفي عام 2015 سيكون هناك ياباني واحد من أصل أربعة يبلغ من العمر أكثر من 65 سنة، وهذا أمر حتمي في هذه البلاد التي تملك أعلى نسبة في العالم لطول العمر -85 سنة للنساء و78 للرجال-. ويتكيف المجتمع الياباني مع الشيخوخة ويعتبرها أمرًا واقعًا يتقبله ويعيش معه بانسجام.
وقد أدرك القطاع التجاري الاستهلاكي في اليابان أهمية تأمين الخدمات المتنوعة لهذه الفئة الجديدة من المستهلكين التي تملك الوقت والمال، يسيطر المتقاعدون على القسم الأكبر من أسهم مؤسسات التوفير اليابانية، أي حوالى 48.1 بليون يورو، ولا تتوانى في الإنفاق في السفر والرحلات وشراء الملابس والطعام الصحي للمحافظة على الرشاقة والحيوية. إن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي حقق النصر الكبير في الدخل القومي للبلاد، وصل اليوم إلى سن التقاعد، فهناك حوالي عشرة ملايين توقفوا عن العمل وأمامهم نحو عشرين سنة من الحياة، لذلك تحولت الجزر اليابانية إلى سوق ضخمة خاصة بجيل المتقاعدين الجدد التي تؤمن لهم المنتجات والخدمات التي تتكيف مع احتياجات ورغبات كبار السن. وعليه فالياباني يستهلك في شيخوخته أكثر من فترة من عمره وبطريقة مختلفة، ويعتبر الياباني أن التقاعد هو عبارة عن حياة جديدة يستطيع فيها تحقيق ما لم يقدر عليه سابقًا، بسبب طول ساعات العمل. لذا فهو لن يتردد في صرف تقاعده الشهري البالغ نحو 2250 يورو كمعدل متوسط، أو مد يده إلى بعض المدخرات لإشباع رغبته في السفر والعيش حسب رغبته. وينفق حوالي 23 مليون ياباني متقاعد مبلغ 25 بليون ين ياباني سنويًا. وعليه فإن المتقاعدين ما فوق 65 سنة عام 2015 سيصبحون المحرك الأساسي للاستهلاك المحلي حسب آخر التقديرات الرسمية.
وتخصص المحلات الكبرى في العاصمة طوكيو، منذ سنوات مساحة معتبرة لتقديم الخدمات للمتقدمين في العمر، مثل الملابس الجاهزة المعدة خصيصًا لهم، والمنتجات الطبيعية وأنواع الأدوية والفيتامينات للحفاظ على الحيوية والنشاط، إضافة لعيادات تقدم علاج الطب الصيني الذي يلاقي رواجًا بينهم، وهناك الملابس النسائية والرجالية التي تساعد على تنشيط الدورة الدموية.
وفي شمال طوكيو يوجد أكبر شارع خاص للمتقاعدين، لا تدخله السيارات ولا الحافلات، ويعد من أهم وأغلى الشوارع في البلاد وأكثرها حداثة. أما شَرِكات السياحة والسفر، فتنظم الرحلات السياحية مع الأحفاد لتعلم اللغة الإنجليزية مثلًا في كندا أو استراليا. ويشكل كبار السن 70% من نسبة السياح داخل البلاد وثلثي العشرة ملايين ممن يمارسون رياضة المشي التي تنظمها المنظمات الرياضية.
تجارب عالمية ناجحة:
ومن أبرز برامج استثمار قدرات المتقاعدين عالميا:
- هيئة الخبراء المسنين: وهي هيئة ألمانية مقرها مدينة بون، تضم أكثر من 5000 خبير ألماني من المتقاعدين في جميع القطاعات، ويعمل الخبراء مجانًا في هذه الهيئة ذات الصالح العام.
- جامعة المتقاعدين: تقع في مدينة كاكوجاد في اليابان، وقد أُنشِأت في عام 1969م، وأول شروط الانتساب لها أن يكون الشخص قد تجاوز سن الستين عامًا، ومدة الدراسة فيها أربع سنوات، يتضمن منهاجها الثقافة العامة -الدراسات العلمية- ومحاضرات في علم النفس، واتجاهات الاقتصاد الياباني، والفارق بين الفكر الغربي والفلسفة اليابانية القديمة والحديثة.
أما البرنامج العملي، فيتضمن فلاحة البساتين، وطرق تربية الأسماك، والطيور، وصناعة الأواني الفخارية، والكثير من الحرف اليدوية الآخرى. كما يتضمن منهاج الدراسة في هذه الجامعة زيارة كافة المواقع والمعالم الأثرية في اليابان، ويمكن الالتحاق في هذه الجامعة عن طريق المراسلة والدراسة الكاملة مجانية.
- تنظيم الأرشيف الوطني: وهو برنامج تنظمه جمعية المتقاعدين الأمريكية، حيث أن المتقاعدين أكثر دراية وخبرة في مثل هذا العمل، وشكلت فرق متكاملة تبنتها الجمعية عن توثيق تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في مختلف جوانب الحياة، اجتماعيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا، وسياسيًا، وقد انطلق تنفيذ هذه الحملة منذ عام 1970م.
- جمعية المتطوعين المتقاعدين الأمريكية: وقد أُنشِأت في عام 1969م، وتعمل هذه الجمعية على مساعدة الأشخاص من سن الخامسة والخمسين وأكثر على إيجاد فرص عمل لخدمة المجتمع المحلي والاستفادة من خبراتهم المهنية. ويعمل الأعضاء كل حسب طاقته، واهتمامه، وميوله، وتتراوح ساعات العمل لديهم من بضع ساعات إلى أربعون ساعة اسبوعيًا، وهم نشيطون في مجالات عديدة منها التعليم والتدريب ومساعدة كبار السن في التخطيط لأمورهم المالية، كما يعمل البعض منهم كمرشدين ومساعدين ومتطوعين في المسشتفيات، والمكتبات، وحملات البيئة، والإغاثة، والطوارئ، وغيرها من الخدمات. كما يقدم أعضاء الجمعية خدمات استشارية للشباب في مجال إقامة مشروعات جديدة، ولا يملكون الخبرة الكافية لذلك.
- برنامج المرافق الكبير: ويقوم هذا البرنامج الذي أنشأته الخدمة الوطنية التعاونية للكبار بالولايات المتحدة الأمريكية على خلق مجموعات صغيرة ممن بلغوا سن الستين عامًا فما فوق، هدفها بناء علاقات صداقة إنسانية للمسنين المقعدين ومساعدتهم على إنجاز بعض الأعمال المنزلية، وتوفير المواصلات لنقلهم ومرافقتهم للمستشفيات لتلقي العلاج، وزيارتهم المستمرة، والخروج معهم قدر المستطاع، أو تنظيم الأنشطة الترفيهية بهدف التخفيف من شعور هؤلاء المسنين بالوحدة.
أما التجارب العربية في هذا المجال تبدو على استحياء ويسيطر عليها المنظور الخدمي أكثر منه التنموي؛ كالجمعية العامة للمسنين في جمهورية مصر العربية، وجمعية رابطة الأجيال في تونس، وجمعية المتقاعدين في المغرب، وجمعية المتقاعدون في المملكة العربية السعودية، وكلها جمعيات خيرية في أساسها تقوم بالعديد من البرامج ولها لقاءات سنوية ثابتة وتصدر بعضها دوريات وصحف متخصصة في شؤون التقاعد. إضافة إلى الجمعيات الخاصة بالشيخوخة وكبار السن، وهي منتشرة في معظم البلاد العربية إن لم يكن جميعها، بحيث تختص بتقديم الرعاية الصحية والنفسية والإجتماعية والترويحية للمسنين.
تشريعات عربية:
وعلى صعيد الواقع العربي والإقليمي ما زال التعامل مع ملف المتقاعدين يركز على الجوانب الإجتماعية والنفسية بعيدًا عن الأسس الاقتصادية والتنموية التي تستهدف إعادة دمج تلك الشريحة المهمة في منظومة العمل والإنتاج، رغم النصوص والتشريعات العربية التي وضعت الاهتمام بالمتقاعدين ضمن أولويات العمل، ومن ذلك ما نصت عليه المادة الحادية عشر من المبادئ العامة للسياسة العربية الخليجية المشتركة لرعاية ومشاركة كبار السن التي اعتمدها مجلس وزاراء العمل والشؤون الإجتماعية بدورته السادسة عشر المنعقدة في أكتوبر عام 1999 والتي نصت على: "تصميم برنامج وطني لتشجيع الشيخوخة المنتجة، يعمل على توفير الفرص والمشروعات الفردية التي تدعمها المؤسسات لمصلحة المسنين، كما تشتمل تلك الأنشطة لتطوير حياة وظيفية ثانية لهم وإيجاد الوظائف على أساس عدم التفرغ التام ومنها العمل كمدربين ومدرسين ومتطوعين. خاصة في ظل زيادة أعداهم وتنوع مجالاتهم، كما أن الاهتمام بهم في هذا الجانب له عوائد اقتصادية وأمنية تعود بالنفع على المجتمع. كما أن في الاهتمام بالمتقاعدين ما يعزز الولاء والإنتماء الوظيفي في المؤسسات ذاتها والمجتمع ككل، حتى لا يشعر الإنسان بأنه مجرد آلة تنتهي مدتها بانتهاء مفعولها وعملها".
فتح خزانات الخبرة المهملة:
وتشير الإحصائيات إلى أن عدد الأشخاص الذين بلغوا 60 سنة فأكثر على مستوى العالم عام 1980م وصل إلى 376 مليون شخص، وفي عام 1985م وصل العدد إلى 427 مليون شخص، وبنسبة 8.8% من سكان العالم، وتزايد هذا العدد إلى 590 مليون شخص عام 2000م وإلى 976 مليون شخص عام 2020م وفي عام 2025 سيبلغ 1171 مليون شخص، ومن المتوقع أن يجد العالم نفسه وفيه 25% ممن هم فوق 60 سنة في عام 2025م ، أي أنه سيكون هناك واحد بين كل أربعة أشخاص في هذه الفئة، وذلك وفق مؤشرات للإحصاء السكاني للأمم المتحدة.
كما أن تزايد أعداد المتقاعدين في المجتمع إذا ما أبعدوا عن القيام بدور إنتاجي، يؤدي إلى رفع معدلات الإعالة بدرجة تعوق عملية التنمية، وتقلل من المدخرات المطلوبة لها، كما أن القوى العاملة ممن يبلغون سن الستين تمثل طاقة عمل وإنتاج اكتسبت خبراتها عبر سنوات طويلة يصعب تعويضها بمجرد إضافة أعداد مماثلة من الطاقات الجديدة على سوق العمل، خاصة وأن عددًا من القطاعات الرائدة في المجتمع لا يتأثر العطاء فيها بالسن، بل إن دواعي الخبرة وعمق التجربة التي اكتسبها المتقاعدين من شأنها أن تُثري عمل تلك القطاعات، والتي منها قطاع القضاء، وأساتذة الجامعات، وقطاع مراكز البحوث العلمية، مثل هذه القطاعات تظل في أمس الحاجة إلى المتقاعدين من القضاة والأساتذة والباحثين الذي يستطيعون الإسهام بالرأي والتوجيه بالرغم من تقدمهم في السن والدول النامية في سعيها للتنمية تحتاج إلى تجميع قواها البشرية والاستفادة من كافة قطاعاتها البشرية شبابًا وكبارًا رجالًا وإناثًا، ولذلك فإن الاهتمام بالمتقاعدين أمر تفرضه ظروف المجتمع وسعيه للتنمية، كما أن وضع البرامج والخطط التي تهتم بالمتقاعدين لا تعود عليهم مباشرة فهي تعود على الشباب أنفسهم، فعندما يشعر الشاب الذي يعمل بجد واجتهاد أن المجتمع لن ينساه في كبره ووضع له البرامج التي تكفل له حياة كريمة في كبره فسيزيد اهتمامه بعمله وتقديره لمجتمعه.
ولعل الاهتمام بالمتقاعدين ودمجهم في منظومة التنمية المجتمعية يكون عاملًا مهمًا لتصحيح الأوضاع التي سببتها سياسات وخطط التنمية التي وضعت على أساس اعتبار المتقاعدين بعيدين عن إمكانية المشاركة الجادة أو الفعالة في العمل الإنتاجي، وذلك بسبب النظرة السلبية لمرحلة التقدم في العمر وأنها مرحلة العجز وفقدان القدرة على مواصلة العمل والنشاط، لذلك فإن استمرار المتقاعد في العمل والعطاء ومشاركته الإيجابية في مختلف مجالات الحياة لا يعني تأمين الجانب الاقتصادي له، فإن هذا الجانب على أهمية بالنسبة للمتقاعد يبدو أقل أهمية بالنسبة للجوانب الأخرى التي يحققها العمل والنشاط في حياته، ولعل منها: ضمان حسن توافق المتقاعد نفسيًا واجتماعيًا الذي يمكن أن يتعرض له في هذه المرحلة، والتخلص من الفراغ والشعور بالوحدة والإحساس بعدم الفائدة المصاحب للخمول والكسل، كما أن العمل يساعد المتقاعدين على حل الكثير من مشكلاتهم الإجتماعية وتأمين فرص الصداقة والعلاقات والإبداع والمكانة الإجتماعية. بجانب الفائدة التي تعود على المجتمع ككل والمتمثلة في دعم الجهود التنموية والاستفادة من قدرات وإمكانيات وخبرات المتقاعدين واستثمارها لصالح المجتمع في برامج ومشروعات تلائمهم من الناس بدلًا من حرمان المجتمع من عطائهم وجهودهم خاصة وأن لديهم قدرات كاملة يتمثل بعضها في وفرة الوقت والخبرة، وحاجتهم إلى تحقيق الذات والشعور بالقيمة والرضا عن النفس.
وفي السياق ذاته تؤكد الدراسات العلمية المتخصصة أن المتقاعدين الذين يعملون بعد التقاعد أكثر توافقًا ورضا عن الحياة من المتقاعدين الذين لا يعملون، وأن المتقاعدين الذين يعملون بعد تقاعدهم أقل شعورًا بالاكتئاب النفسي بالمقارنة مع المتقاعدين الذي لا عمل لهم بعد التقاعد، ولعل ما يعظم الفرص التنموية في ذلك الملف أن غالبية المتقاعدين لديهم الرغبة في المشاركة التطوعية وبخاصة في المؤسسات الخيرية والدينية والثقافية، في ضوء ما تؤكده الدراسات النفسية بأن معظم المتقاعدين لديهم رغبة كبيرة في العمل بعد التقاعد خاصة في الأعمال المشابهة لأعمالهم قبل تقاعدهم، أو الرغبة في المشاركة في أعمال تطوعية مع المؤسسات الخيرية أو الجمعيات التي تخدمهم.
محفزات المشاركة المجتمعية
الجانب المهم في تلك القضية أن يتوافر لدى المتقاعدين الحافز للمشاركة والعودة للعمل ضمن هياكل المجتمع سواء كان بشكل تطوعي أو بمقابل، ولعل أبرز تلك الحوافز هي الروح الإيمانية وقيمة التطوع التي غرسها الإسلام في نفوس أبنائه، فاستلهام الأجر الرباني يأتي أولًا ضمن سلة المحفزات الداعمة للتطوع والمشاركة بتنمية المجتمع الذي يضم المتقاعدين، وفي هذا الإطار يوجه الخبير التربوي السعودي منصور بن محمد المقرن روشتة علاجية داعمة لعودة المتقاعد إلى منظومة التنمية المجتمعية انطلاقًا من قول الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إني لأمقت الرجل أن أراه فارغًا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة"، قائلًا-للمتقاعدين-: "لئن ضعف بدنك فلقد قوي عقلك، ولئن رق عظمك فلقد زاد فهمك، ولئن لاح الشيب في رأسك فلقد ظهرت الحكمة في رأيك، فلا تظن أن التقاعد دعوة إلى القعود وركون إلى الخلود؛ بل هو توقف عن العمل الرسمي فقط وليس توقفًا عن العمل الرباني، والإنسان مكلف ما بقيت فيه عين تطرف وعقل يميز".
آفاق تنموية
ولعل أهم ما يميز مجتمعاتنا العربية والخليجية قابليتها لجميع الجهود التطوعية في مجالات الثقافة والتربية، ومن تلك الأنشطة التي يمكن أن يكون للمتقاعدين أدوارا فاعلة فيها:
- تعليم القرآن الكريم، وبخاصة شريحة طلاب الجامعة والموظفين.
- المشاركة في أعمال الجهات الخيرية بالأفكار والخبرات والأموال.
- دور فاعل مع الأقارب والجيران، من تنظيم لقاءات دورية لهم لتزيد من أواصر الصلة بينهم، والمشاركة في حل الخلافات الأسرية أو الزوجية.
- يعاني كثير من الأبناء والبنات من ضعف تواصل آبائهم معهم طوال سنوات عملهم، مما ترتب عليه جفوة في العلاقات وقصور في تحقيق الإشباع النفسي والعاطفي، وفي التقاعد فرصة ثمينة لردم الهوة بين الآباء وأولادهم، والتقرب إليهم ومشاركتهم في همومهم وأفراحهم.
وقد أحسنت بعض الدول العربية كالكويت والسعودية في تعيين المتقاعدين كمشرفين بالمدارس والمؤسسات التعليمية والعلاجية.
ضمانات مستقبلية:
ولتفعيل الاستثمار البشري في شريحة المتقاعدين لا بد من تبني عدة خطط تقوم بها المؤسسات الحكومية ووزارات الشؤون والعمل وجمعيات المجتمع المدني، من أبرز الخطوات المطلوبة:
- إجراء البحوث والدراسات العلمية والميدانية الدورية التي يمكن من خلالها تحديد حجم المتقاعدين ومشكلاتهم والموارد التي يمكن أن تسهم في مواجهة هذه المشكلات في المجتمع.
- عقد المؤتمرات والمناقشات وحلقات البحث لمناقشة مشكلات المتقاعدين وكيفية علاجها، مع تحديد أفضل أساليب تقديم الخدمات، واستضافة المتخصصين في العلوم ذات العلاقة كالطب وعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد؛ لاقتراح أفضل الحلول لمواجهة مشكلاتهم وإشباع حاجاتهم.
- توعية أفراد المجتمع بأساليب التعامل مع المتقاعدين والاهتمام بالتوعية المجتمعية الشاملة بشأن قضايا المتقاعدين، وتعريف الأجيال الصاعدة بطبيعة هذه المرحلة لاتخاذ التدابير اللازمة لبلوغها بلا معاناة.
- الاستفادة من طاقات وخبرات المتقاعدين للعمل أو التطوع في الجمعيات والمؤسسات الخاصة، وتشجيع الجهود التطوعية للعمل في مجال رعاية المتقاعدين، وتنشيط مشاركة المتقاعدين في حياة المجتمع الإنتاجية والإجتماعية، باعتبار أن ذلك يمثل ضرورة من ضروريات التنمية.
- مطالبة الجهات المعنية بالتوسع في مشروعات رعاية المتقاعدين، كإنشاء أندية أو دور للضيافة، وتدعيم الأنشطة التي تقوم بها المنظمات الأهلية والدولية ذات الاهتمام برعاية المتقاعدين، وتقديم الاقتراحات والتوصيات لهذه المنظمات عن واقع المتقاعدين في المجتمع.
- توعية المتقاعدين بأماكن الاستفادة من الخدمات المخصصة لهم.
- إعداد البرامج التدريبية لتأهيل وإعداد أخصائيين متخصصين يعملون في هذا المجال.
- إعداد البرامج العامة المساعدة في التخطيط لبرامج الإعداد للتقاعد لتهيئة الأفراد بمختلف مستوياتهم الوظيفية لهذه المرحلة مبكرًا.
- التنسيق بين المؤسسات الحكومية من جهة والمؤسسات الأهلية من جهة أخرى، والتي تعمل في مجال المتقاعدين كوزارة الشؤون الإجتماعية وأندية المتقاعدين والجمعيات والمؤسسات الخيرية وغيرها.
- إمكانية مواصلة استخدام المتقاعدين في أعمالهم -إنتاج السلع أو الخدمات- بعد سن الستين دون أن يؤثر ذلك على فرص العمالة أو الترقي للأجيال الجديدة، كالاستفادة بخبراتهم كمستشارين أو بعقود لا ترتبط بشغل الوظائف الإدارية العادية.
- الدعوة إلى تعديل فئات المعاشات والمساعدات التي تمنح للمتقاعدين بشكل دوري لا يتعدى الثلاث سنوات، أو كلما زادت الأرقام القياسية لتكاليف المعيشة بنسبة 10%. والعمل على إصدار التشريعات الاجتماعية الخاصة بالحفاظ على حقوق المتقاعدين والتي تعمل على إدماجهم في عملية الإنتاج بالمجتمع.
- إعداد موظفين وباحثين في شؤون التقاعد.
- تأسيس إدارات لشؤون المتقاعدين في الأجهزة الحكومية.
- التنسيق مع وسائل الإعلام في ما يتعلق بتبني قضايا المتقاعدين لإثارة اهتمام الرأي العام نحو الاهتمام بفئة المتقاعدين.
وبعد هذا الاستعراض لقضية المتقاعدين يبقى الأمل معقودًا على الحكومات والمجتمع المدني العربي والإسلامي للارتقاء بجهود خدمة المتقاعدين واستثمارهم تنمويًا كجزء من منظومة الانتاج والتطوير، وكذا استثمار كافة الفرص التي تنهض بمجتمعاتنا الإسلامية في كافة مناحي الحياة.
رضا عبد الودود