نيران صديقة

عمرو عبد البديع

ظاهرة "النيران الصديقة" قد تجلّت كثيرا في تاريخنا بين باعث سوء تقدير الأمور إلي باعث الخيانة للأمة وللمسلمين من أجل متاع دنيوي زائل، حتي تصدعت أسوار الأمة الحصينة بثقوب من نيران أبنائها ودلف من خلالها العدو، وكلما ازدادت هذه النيران الصديقة كلما كانت العاقبة أليمة.

  • التصنيفات: مساوئ الأخلاق -
  • ذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهايةقال سفيان بن حسين: "ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي، وقال أغزوت الروم؟ قلت: لا، قال: فالسند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفتسلم منك الروم والسند والهند والترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فلم أعد بعدها".

    فَقِهَ السلف أولوية سلامة اللسان في حق المسلم، وأهمية صرف النقد والرد لمن يستحقه، فضلا عن ضرورة التحرز من الوقوع في تناقض ذم الصديق القريب بظلم ومسالمة ظالمه وقاتله والسكوت عنه، مما يزيد البلاء علي المرء فهو يُصلي بنيران أعدائه وظالميه وفي نفس الوقت يُقاسي نيران صديقة حتى يكون لسان حاله:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند

ظاهرة "النيران الصديقة" قد تجلّت كثيرا في تاريخنا بين باعث سوء تقدير الأمور إلي باعث الخيانة للأمة وللمسلمين من أجل متاع دنيوي زائل، حتي تصدعت أسوار الأمة الحصينة بثقوب من نيران أبنائها ودلف من خلالها العدو، وكلما ازدادت هذه النيران الصديقة كلما كانت العاقبة أليمة.

  • عن عاقبة النيران الصديقة:
  1. تشتيت الجهد وضعف العزم علي المواجهة مع العدو الظاهر الجليّ.
  2. ظهور العدو وغلبة الخصم.
  3. ضياع الأوقات في غير بناء أو إصلاح أو مواجهة حقيقية.
  4. شيوع فساد ذات البين بدلا من التراحم والتغافل.
  5. ضعف الأمة وهوانها.
  • أسباب النيران الصديقة:
  1. غلبة أو تغليب ذهنية الولع بالخلاف، وإيجاد الذات خلال المعارك الهامشية عندما تعجز أو تضعُف عن الثبات في المعركة الحقيقية ومن ثَمّ تقتات علي هذه المعارك وعلي إطلاق النيران الصديقة. (أو أن الشخص لا يُحسن غير نوعا من العلم أو النقد فيحرص أن يسحب أي نقاش أو حادثة إلى منطقة نفوذه العلمية أو النقاشية مع أن الأمر والسياق لا يقتضي ذلك).
    بل أحيانا يكون ذلك تماشيا مع "موضة فكرية" وزمن يروج فيه البحث والتصنيف عن الاختلاف الإسلامي / الإسلامي.

     
  2. خلل في فهم واستيعاب الأولويات.
     
  3. انتقام للنفس ولكن في صورة مبررة (شرعنة الغضب للنفس والتعدي علي الغير) وفي ذلك نص نفيس وطويل نوعاً ما لشيخ الإسلام ابن تيمية عن بواعث وصور الغيبة وخاصة أن النيران الصديقة قد تخرج أحيانا في صورة غيبة  يقول: (فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون، لكن يري أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنـه، فيري موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة، وقـد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم‏.‏

    ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتي‏.‏ تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول‏:‏ ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله‏.‏ ويقول‏:‏ والله إنه مسكين، أو رجل جيد؛ ولكن فيه كيت وكيت‏.‏ وربما يقول‏:‏ دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضمًا لجنابه‏.‏ ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقًا، وقد رأينا منهم ألوانًا كثيرة من هذا وأشباهه‏.‏

    ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه، فيقول‏:‏ لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان، لما بلغني عنه كيت وكيت، ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده‏.‏ أو يقول‏:‏ فلان بليد الذهن قليل الفهم، وقصده مدح نفسه، وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه‏.‏

    ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين‏:‏ الغيبة، والحسد‏.‏ وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح؛ ليسقط ذلك عنه‏.‏

    ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب، ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به‏.‏

    ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول‏:‏ تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت‏؟‏‏!‏ ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت‏؟‏ وكيف فعل كيت وكيت‏؟‏ فيخرج اسمه في معرض تعجبه‏.‏

    ومنهم من يخرج الاغتنام، فيقول‏:‏ مسكين فلان، غمني ما جري له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به‏.‏ وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه‏.‏

    ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر‏.‏ والله المستعان‏).

     
  4. الإغراق في الجزئيات والذهول عن المقاصد والكليات والبدهيات.
     
  5. نبذ ممارسة  فقه وآداب الخلاف.
     
  6. وهم  تنقية الصف وبراءة الفكر.
  • حتمية النصح ثم التحذير: وقد يتطلب الأمر في حالة تكرار النيران الصديقة  بشكل متعمد النصح أولا فإن لم يمتثل فالتحذير خاصة وأن هناك مَن خلع ربقة الولاء للمؤمنين وألبسها لمن يعاديهم ويستحل الخوض في أعراضهم ودمائهم بل يستعدي الباغي عليهم، فوجب الرد والتحذير بعد النصح من منطلق قوله تعالي {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}.

    فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعو عليه، قال الله تعالى {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} [الشورى: 41]، قال الحسن: دعاؤه عليه أن يقول: اللهم أعني عليه اللهم استخرج حقي منه.
     
  • ولكن أن يراعي عدة أمور:
  1. أن لا يعتدي أو يتجاوز في أخذ حقه أو في بيانه وتحذيره ممن ظلمه وأن يحرص إن أمكن بتناول الأفكار أكثر من الأشخاص.
  2. أن يأخذ الخلاف أو التحذير والرد مساحته الطبيعية دون أن يتضخم علي مساحات أخري.
  3. أن يتصدر للأمر من هو أهل له وليس كل حاطب بليل.
  4. أن يعدل ويجعل نصب عينيه قوله تعالي {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.
  • إشارات من السلف:
  1. قال يحي بن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه. جامع العلوم والحكم: ابن رجب الحنبلي.
     
  2. قال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب النَّاس، ناسياً لعيبه، فاعلموا أنَّه قد مُكِرَ به. "صفة الصفوة" ابن الجوزي.
     
  3. عن الإمام أحمد قال: "ما رأيت أحدا تكلم في الناس وعابهم إلا سقط".
     
  4. قال طلحة بن عمر قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل، يقول الله تعالى: {وقولوا للناس حسنا فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي؟. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
     
  5. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته: لا يعجبنكم من الرجل طفطفته ولكن من أدى الأمانة، وكف عن أعراض الناس فهو الرجل.
     
  6. قال ابن القيم رحمه الله: ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً ينزل منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، لا يبالي ما يقول. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم.
     
  7. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنَّ بعض الناس لا تراه إلا مُنتقداً داءً، يَنسى حسنات الطوائف والأجناس ويذكر مثالبهم، فهو مثل الذباب يترك مواضع البرد والسلامة، ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج.

    وقد سألت من سنوات طوال فضيلة الدكتور نايف العجمي حفظه الله عن بعض الردود على تيار قد ظهر، وكان هذا التيار يقتات على أعراض العلماء والدعاة حتي عُرف بتار "الجرح والتجريح" وكنت شغوف ساعتها بقراءة وإحصاء الردود على هذا التيار فأجابني بما معناه: لا تبذل كبير جهدك في ذلك فإن عادة هذه التيارات التي ينحصر جهدها في اللمز والهدم لا تحتاج إلي من يهدمها من خارجها بل هي ستقوض نفسها وتتآكل وهي مسألة زمن فقط.

    وبالفعل اشتد بأس رموز هذا التيار فيما بينهم وصار بعضهم يبُدع الآخر ويسفهه وينال بعضهم من بعض حتي انتهى أمرهم وخبت فتنتهم وصارت رموزهم بين مفتون في دينه يرزح في أوحال الانتكاس وبين متراجع عن الفكر، ومن هنا أدركت أن الزمن قد يكون كفيلا بإسكات النيران الصديقة.