{رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}
أبو الهيثم محمد درويش
- التصنيفات: التفسير - محاسن الأخلاق -
ما أحوج المجتمع الإسلامي إلى التمثُّل برحمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في وقتٍ نفتقِد فيه إلى رحمة الأخ والصديق والجار... الخلافات أكلت القلوب -إلا من رحم الله- والنزاعات أشاعت الضغائن في القلوب حتى أصبحت الابتسامة الحقيقية من الأخ في وجه أخيه من نوادر الدهر.
لنستعيد فيما بيننا ما افتقدناه من -رحمة- كانت في يوم من الأيام هي الخُلق المسيطر على العلاقات بين المسلمين في صدر الأمة الأول.
فهل نهلنا من معينهم؟
قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح من الآية:29].
قال ابن كثير رحمه الله: "يُخبِر تعالى عن محمد صلوات الله عليه، أنه رسوله حقًا بلا شك ولا ريب، فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ}، وهذا مبتدأ وخبر، وهو مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنَّى بالثناء على أصحابه فقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، كما قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة من الآية:54]..
وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا برًا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكًا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « »، وقال: « » وشبَّك بين أصابعه" كِلا الحديثين في الصحيح.
وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آلِ عمران:159].
قال قتادة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} يقول: "فبرحمة {مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}. و{مَا} صلة، والعرب تصلها بالمعرفة كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء من الآية:155]، [المائدة من الآية:13] وبالنكرة كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون من الآية:40]، وهكذا هاهنا قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي: برحمة من الله".
وقال الحسن البصري: "هذا خُلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به".
وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وقال الإمام أحمد: "حدثنا حيوة، حدثنا بقية، حدثنا محمد بن زياد، حدثني أبو راشد الحبراني قال: أخد بيدي أبو أمامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «
»" (انفرد به أحمد).ثم قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الفظ: الغليظ، [و] المراد به هاهنا غليظ الكلام، لقوله بعد ذلك: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفًا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدِّمة: "أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".
ولهذا قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييبًا لقلوبهم، ليكونوا فيما يفعلونه أنشط لهم [كما] شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة من الآية:24]، ولكن نقول: اذهب، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن [شمالك] مقاتلون.
وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ . أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:11-18].
قال محمد الطاهر بن عاشور: "خصَّ بالذِّكر من أوصاف المؤمنين، تواصيهم بالصَّبر، وتواصيهم بالمرحمة، لأنَّ ذلك أشرف صفاتهم بعد الإيمان، فإنَّ الصَّبر ملاك الأعمال الصَّالحة كلِّها؛ لأنَّها لا تخلو من كبح الشَّهوة النَّفسانيَّة وذلك من الصَّبر. والمرحمة، ملاك صلاح الجماعة الإسلاميَّة قال تعالى: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح من الآية:29]، والتَّواصي بالرَّحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضًا كناية عن اتِّصافهم بالمرحمة، لأنَّ من يوصي بالمرحمة هو الذي عرف قدرها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يوصي بها" (التحرير والتنوير؛ لابن عاشور: [30/361]).