كيف مكن ليوسف في الأرض؟
ناصر بن سليمان العمر
من مقومات انتصار يوسف عليه السلام صبره العظيم بل صبره العجيب ولذلك قال في آخر المطاف لإخوانه {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
- التصنيفات: تربية النفس - تزكية النفس - دعوة المسلمين -
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين:
بغداد ماذا أرى في حالك الظلم *** نجماً يلوح لنا أم لفحة الحمم
أرى النواحي وضوء النار يلفحها *** فكيف تجتمع النيران بالظلم
بغداد لا تسكتي ردِّي على طلبي *** وامحي سؤال الذي أحكيه ملأ فمي
بغداد أين زمان العز في بلدٍ *** كان السلام به أسمى من العَلَم
دار السلام أيا بغداد هل بعدت *** عنك الجحافل في يوم الوغى النهم
بغداد أين سحاب المزن إذ حكمت *** يد الرشيد بعدل الله في الأمم
كتبت والحبر من نهر الفرات جرى *** شعراً يترجم مجداً غاص في القدم
بالله قولي أيا بغداد مافتئت *** يد المغول تزيد الجرح بالكلم
مرت قرون ثمان والجروح بنا *** تغور من رجس ما صبُّوه من نقم
شمس الحضارة لم تشرق بساحتنا *** من بعدهم وغدونا أمة الرخم
تباً لمستسلم لم يحم دولته *** فاستهدفتها عبيد الرجس والصنم
تباً لمستسلم كانت بطانته *** تزيغه عن طريق الحق والقيم
فهل يروم من الزنديق حكمته *** والعلقمي جميل الرأي والحلم
تباً لمستسلم يلقاهمُ فرحاً *** ويلتقي الناصح الصديق بالجهم
تباً لمستسلم أضحت بطانته *** تدوس فيه كرام الشعب بالجزم
تباً لمستسلم أمست حواشيه *** تشارك الناس في الأرزاق واللقم
تباً لمستسلم أدنى الحثالة من عرش *** وأبعد أهل الفضل والكرم
تباً لمستسلم قد خان أمته *** وسلَّم الحكم للأوباش والدهم
تباً لمستسلم أفنى خزينته *** على الغواني وأهل الرقص والنغم
تباً لمستسلم يخشى رعيته *** وآمنٌ بين أعداء على الحُرَمِ
تباً لمستسلم أهدى مدينته *** إلى المغول وظن الأمن في السلَمِ
تباً لمستسلم لا يستحي أبداً *** ينقاد ذلاً من الأعداء كالبَهَمِ
بالله قولي أيا بغداد لا رقدت *** عين الجبان إذا نامت عن الهمم
واستخلف الله في عَصر لقيتِ به *** ذل المهانة بين العرب والعجم
حان الوداع أيا بغداد فانتحبي *** فقد أصيب جميع القوم بالصمم
حان الوداع أيا بغداد قد نحرت *** رجولة القوم في ميدان منتقم
حان الوداع وعذر القوم أنهمُ *** لا يقدرون على الأرماح والُحُسم
هذا الوداع فموتي خير عاصمة *** مذبوحة ربما ماتت بلا ألم
ونقول إنها لم تمت وستحيا بإذن الله وستعود عاصمة كغيرها لبلاد المسلمين كما كانت في عهد العباسيين وستعود دمشق كما كانت في عهد الأمويين ستعود بلاد الإسلام عزيزة ظافرة منتصرة، فنسأل الله أن يقر أعيننا بعز الإسلام والمسلمين.
أيها الأحبة:
السؤال كيف انتصر يوسف عليه السلام ؟! وكيف مُكِّن له في الأرض؟
وكيف وصل إلى ما وصل إليه من العزّ والسؤدد؟
وكيف نصل إلى ذلك؟! ويمكَّن لنا في الأرض كما مُكِّن ليوسف؟
الذي يتتبع سورة يوسف عليه السلام وسيرة يوسف يجد أنه مرَّ به من الآلام والمحن والكرب أعظم مما يمر بنا الآن، مرَّ به وهو فرد من الغربة وذل العبودية وفتنة الشهوة والسجن وغير ذلك ما تتلاشى أمامه عزائم أقوى الرجال، ومع ذلك كانت هذه النهاية العجيبة ليوسف عليه السلام.
الذي يقرأ قصة يوسف في أولها هل يتصور أنه يصل إلى ما وصل إليه من عز وتمكين وسؤدد وقوة؟ وما أشبه الليلة بالبارحة.
وقلت لكم عندما اخترت هذه السورة إنني اخترتها لأن الله قال فيها: {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف 7من الآية:،]، وقال في آخرها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف من الآية:111].
أقف اليوم مع بعض عوامل النصر وأهم عوامل النصر التي أخذ بها يوسف عليه السلام وحصل على العز والمجد والسؤدد في الدنيا والآخرة، فإذا أخذنا بها فإننا بإذن الله منتصرون وإننا بإذن الله غالبون لعدونا فلا يأس، وكما قال يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] في وقت اشتدت الأزمات على يعقوب عليه السلام وكثرت عليه المصائب وبَعُد عنه أبناؤه فإذا هو عليه السلام يقول هذه المقولة لأبنائه التي لايقولها إلا من أعطاه الله علماً وفقهاً وفهماً كما قال: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية:86]، فيقول: لا مكان لليأس حتى قالوا له: {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ . قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:85-87].
في هذه الأحوال التي نعيشها وعباد الصليب يغزون بلاد المسلمين وإخوان القردة والخنازير يفتكون في فلسطين ومن خلفهم ومن أمامهم أعوانهم من خونة هذه الأمة قد تشتد الخطوب وتصاب النفوس باليأس والقنوط. أقول هنا أيها الأحبة: لا يأس، لا قنوط.
كما لم ييأس يعقوب عليه السلام ولم يقنط ولم ييأس من روح الله، فما أحوجنا إلى ذلك. فيوسف عليه السلام هذا الغلام الذي فقد أو فارق أبويه وأهله ومرت به هذه المحن وصل إلى ما وصل إليه.
أمتنا بحاجة إلى هذه الدروس على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، بهذا نحقِّق النصر بإذن الله وألخصها بما يلي:
- من أعظم الدروس هو انتصار يوسف عليه السلام على نفسه، ويا أحبتي الكرام من هزمته نفسه لن يهزم عدوه وأقوى هزيمة تحل بالفرد والأمة أن يصاب الفرد من داخله أو أن تصاب الأمة بهزيمة من داخلها، يوسف عليه السلام انتصر على نفسه فتحقق له التمكين، كيف انتصر على نفسه ؟!
عندما انتصر على نفسه مع امرأة العزيز استعصم، ولم ينحنِ للشهوة مع توافر الدواعي وزوال الأسباب، إلا أنه رأى برهان ربه وهذا البرهان مع كل واحد منا، هذا الانتصار ليس بالأمر السهل، من السهل أن أنظِّر له بكلمات ولكن نسأل الله أن يحمينا وإياكم إذا واجه الرجل الفتنة والشهوة مع توافر الدواعي والأسباب وزوال الموانع، من يثبت كما ثبت يوسف عليه السلام؟!
انتصر على نفسه بثباته في بيت العزيز، انتصر على نفسه مع أخوته في عفة لسانه كما ذكرت لكم مراراً حتى لم يجرح مسامعهم بكلمة واحدة.
هل انتصرت على نفسك بسيطرتك على لسانك؟! أمسك عليك لسانك كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم.
انتصر على نفسه بصدقه المتناهي، اسمعوا إلى قوله تعالى: {قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78] {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ} [يوسف:79] ما هو الصدق هنا؟!
ما قال: معاذ الله أن نأخذ إلاَّ من سرق، لا. لم يقل: من سرق لأنه يعرف أن أخاه لم يسرق، إنما قال: معاذ الله أن نأخذ إلاَّ من وجدنا متاعنا عنده فلم يتهمه بالسرقة - دقة تعبير متناهية - ويقول: إن جزاء السارق كان أصل القصَّة أنه يؤخذ لم يقل هذا سارق فإذاً أخذناه، لا. سبحان الله! فدقة التعبير والصدق انتصار على النفس. صحيح هو وجد متاعه عنده لكن حقيقة لم يسرق ولم يتهمه بالسرقة أبداً هو صادق وجد متاعه عنده، {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ} [يوسف من الآية:76].
من انتصاره على نفسه عفوه عن إخوانه مع كل ما جرى قال: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ} [يوسف من الآية:92] بكلمة واحدة.
وأعجب من عفوه! انتبهوا لها جيداً مع أن العفو {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] هذا قول الله جل وعلا العفو ليس بالأمر السهل ومع ذلك عفى وصفح لم يذكِّرهم بكلمة واحدة بعد أن عفى عنهم، فلما قال لأبيه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف من الآية:100] مع أن إخراجه من البئر أعظم من إخراجه من السجن، لكنه عفى عنهم فلا يريد أن يمر على البئر الذي وضعوه فيه لأنه عفى عنهم، ولم يقل: بعد أن نزغ الشيطان أخوتي، قال: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي.
كم عفونا عن الناس -هذا إن كنا عفونا-؟
ثم نجلس طول عمرنا نتحدث عن هذا الشخص ونقول أخطأ علينا وفعل.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول « » (يعني حتى لو لم يعفو) يعني ممكن المظلوم يعتدي فيسبب كدراً بما يتحدث به، ممكن يكون أحد أخوانك أخطأ عليك خطأ ولكثرة ما تذكر أنت هذا الخطأ عند من لا يعنيهم الأمر تكون وقعت في أضعاف الخطأ، كيف إذا كنت سامحته وعفوت عنه؟
تسامحه وتعفو عنه وتبقى أحياناً سنوات وأنت تتحدث عن هذه القضية، أما تعلم ماذا يحل بك ما جنيته؟ يوسف عليه السلام لما قال: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ}، التزم بهذه الكلمة فلم يمسَّهم ولم يوميء إليهم ولم يشر إليهم. هذا انتصار على النفس. هذا الانتصار أولى مقدِّمات انتصاره العظيم.
ثانياً : من مقومات انتصار يوسف عليه السلام صبره العظيم بل صبره العجيب ولذلك قال في آخر المطاف لإخوانه {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف من الآية:90] صبر يوسف عليه السلام عجيب، صبره عندما أخذه إخوانه وهو صغير لم ينطق ولم يذكر القرآن أنه تفوَّه بكلمة.
صبره في بيت العزيز، صبره على مراودة النساء {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف من الآية:33]، صبره في السجن صبرٌ أصبح مضرب المثل للأمم على مداد التاريخ، صبر يوسف عليه السلام، صبره عندما تولَّى الرئاسة والملك وكيف كان صبره في هذا الأمر، ولذلك دائماً أوميء إلى موضوع الصبر {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
ثالثاً: وآمل أن نذعن لأهمية هذا الدرس وكنت أردت أن اقتصر عليه فقط ولكن أدمجته مع بقية الدروس.
من أقوى عوامل نجاح يوسف عليه السلام التخطيط وبعد النظر وعدم الاستغراق في اللحظة الحاضرة.
1- وهذا يتضح في مواضع من أبرزها ثلاثة مواضع وهو في السجن كان بعد نظره والتخطيط الذي سلكه عندما أتيحت له الفرصة بالخروج مع أن هذه حالة نفسية لا يعرفها إلا من مارسها، رفض أن يخرج {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ ا} [يوسف من الآية:50] عنده بعد نظر تخطيط بعيد جداً.
حب الخروج ولذة الخروج والملك هو الذي يدعوه ويفرج عنه بلا شرط ولا قيد يقول: لا، يرمي إلى شيء بعيد {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف من الآية:50] حتى في هذه الكلمة انظروا إلى عفة يوسف عليه السلام، ما قال: ما بال امرأة العزيز؟ لم يشر إلى امرأة العزيز حتى لا يحرج زوجها ولا يحرجها. ما بال النسوة؟ ولا قال: ما بال النسوة اللاتي راودنني؟ قال: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟
كان يرمي إلى هدف بعيد وتخطيط دقيق تحقَّق له، أجرى الملك التحقيق، ثم اعترفت امرأة العزيز وشهدت النسوة أنه ما علمنا عليه من سوء فخرج بشهادة إلى الآن تدوي في التاريخ، هذا تخطيط وعدم الاستغراق في اللحظة الحاضرة وصبر عجيب وبعد نظر، من السهل التنظير ولكن ما أحوجنا إلى البعد.
2- موضوع التخطيط: وهو ما حدث في الرؤيا وهذا صحيح رؤيا لكن لاشك أن يوسف له دور فيها عندما ذكر السبع الشداد وسبع الرخاء وكيف استغل يوسف سبع الرخاء للسبع الشداد، كم مرَّت دول وشعوب بسنوات رخاء أضاعوا أموالهم فلما جاءت الشداد وإذا ليس لديهم شيء فازدادت ديونهم وزادت مصائبهم، كم من الناس أورثه والده ملايين وما هي إلا سنوات معدودة فإذا هو يفرِّط في هذه الملايين ورؤي بعضهم يسأل الناس.
هذه قضية عجيبة أيها الأخوة بعد النظر والتخطيط ظاهر في قضية السبع الشداد والسبع السمان، فهو وفر وأدار الأمور بحكمة عجيبة وسياسة عجيبة في سبع الرخاء والاستعداد للسبع الشداد فمرَّت الأمور بسلام، ولم يصب الأمة ما قد يتوقع ويحدث.
3- ومن أعجب ما رأيت في قصة يوسف عليه السلام ولا يزال السؤال عندي في الحقيقة، عندما تولَّى الملك وتولَّى رئاسة مصر وسياسة مصر كان يتوقع أن أول قرار يتخذه هو ماذا؟! أن يرسل من يأتي بأبيه وأهله لأنه يعلم كيف يعيش أبوه وما هي المحنة التي هو فيها والعجيب من دلالة الآيات أنه ما نقول انتظر سنة، سنتين، ثلاث سنوات، لا. مرَّت السبع الرخاء ثم بدأت السبع الشداد، لأن قصة الآيات تدل أنهم كانوا يعيشون في السبع الشداد، أن بضاعتهم مزجاة، أن أحوالهم رديئة، أحوالهم صعبة أي في السبع الشداد {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف من الآية:88]، ثم تأتي قصة أخيه.
وفي النهاية يأتي بأبيه وأهله لحكمة يعلمها الله جلَّ وعلا. هذا يحتاج صبر جبال ويحتاج تحمُّل مسئولية.
هل تتصورون أن يوسف عليه السلام مجرد من العاطفة. لا والله لا والله، ولكن انظروا كيف لجم عاطفته انصياعاً لأمر الله تعالى ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء بحكمة يوسف وبعد نظره وتخطيطه وفوق كل ذي علم عليم.
أي عاطفة أقوى من رجل فقد أباه وفقده أبوه منذ قرابة ثلاثين سنة أو عشرين سنة الله أعلم، لكنها كثيرة وهو يعلم ما يعيش أبوه ويأتي أخوانه فلا يخبرهم عنه وتبدأ قصة أخيه وتطول القصة، ثم يأتي بأبيه سبحان الله فلجم عاطفته ولم تستغرقه اللحظة الحاضرة وتصرَّف تصرف حكيمٍ بهدوءٍ وبعد نظرٍ وحكمةٍ حتى حصل ما حصل عليه حتى لما جاء بهم رفع أبويه على العرش وخرُّوا له سجداً.
عزةٌ وقوةٌ وملكٌ لكنه عن تخطيط وبعد نظر وحكمة وعدم استعجال وعدم استغراق في اللحظة الحاضرة، ما أحوجنا إلى هذا الدرس واستيعابه حتى نصل إلى هذا الأمر.
أحد الأخوة الآن أرسل لي سؤالاً، يطالب بالجهاد لمواجهة الأمريكان، نعم أنا أطالب بالجهاد لكن ليس بهذه الطريقة التي يفرضها الأخ وأقول لكم يقيناً لابد من مواجهة أعداء الله لكن ليس بالتصور الذي يتصوره بعض الأحبة الأمر يحتاج إلى بعد نظر، يحتاج إلى هدوء، يحتاج إلى تفويت الفرص على الأعداء، يحتاج إلى معركة شاملة في كل الميادين…
الجهاد في سبيل الله أعلاها- وكلها من الجهاد - جاهدوا المشركين بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وجاهدوهم في كل المجالات {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة من الآية:73]، فالجهاد يكون بالنفس وبالمال وبالقول، نحتاج الآن للجهاد في كل المجالات حتى لا نتعجل.
آمل من أحبتي الكرام ومن يقرأ هذه الكلمة أن يقرأ قصة يوسف وبخاصة هذين الموضوعين:
أ- قصة عدم خروجه من السجن وثباته لهدف بعيد.
ب- وأعظم منه في رأيي هو ثباته بعد تولي الملك وصبره عن أبيه وعن أهله بهذه الخطة البعيدة جداً.
العجيب أيضاً أن مصيبة أبيه قد زادت ولم تنقص زادت بفقد أخيه حتى يتم أمر الله جلَّ وعلا وحتى لا يستعجل شيء قبل أوانه مجرد المصيبة التي كان يعيش فيها أبوه من قبل كافية في رأي الكثير أن يتخذ القرار ويرسل لأبيه أو يذهب هو لأبيه. تتصورون أن يوسف عليه السلام ليس باراً بأبيه؟! ليس عاطفياً؟! لا والله حاشاه من ذلك لا والله، لكنه التوفيق والسداد وبعد النظر والعقل والحكمة وعدم الاستعجال وعدم الاستغراق باللحظات العاطفية الحاضرة، ثم يأتي مجيء أخيه وتزيد مشكلة أبيه حتى {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83].
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] يدرك يوسف أن هذا سيحدث لأبيه لكنها الحكمة وبعد النظر والتخطيط والالتزام بالشرع والخضوع لأمر الله حتى ولو كان على حساب النفس والهوى والعاطفة. وهذا الذي أوصي به الأخوان، يا أحبتي الكرام: الأمر ليس بالأمر السهل لاتِّقاد الأمة بالعواطف مع أهمية العواطف، أمة بدون عاطفة لا خير فيها، ونفس بلا عاطفة لا خير فيها، ولكن العاطفة يجب أن تحكم بالعقل، والعقل يُخضع للشرع، فتمام الأمور عقل وعاطفة يخضعان لشرع الله جلَّ وعلا وأمره ونهيه حتى لا نتقدم تقدماً في غير موضعه أو نؤخِّر شيئاً عن موضعه.
أيضاً من العجب ومن دعائم نجاح يوسف عليه السلام إقدامه على المسئولية بشجاعة نادرة، وعدم السلبية لمَّا رأى أنَّ الفرصة قد سنحت أقدم على المسئولية بشجاعة نادرة، وبعضنا يرى أن هذا ليس من الورع، لا. الورع أن تقدم على المسئولية وتتقي الله في المسئولية التي بين يديك وليس الورع أن تتخلى عن المسئولية والأمة بأمس الحاجة إليك، نعم إذا كنت تعلم أن هناك من سيختار لهذه المسئولية كفؤاً لك أو أفضل منك فمن الورع أن تتحاشاها لكن إذا كنت تعلم ويغلب على ظنك أنك إذا تخليت عن المسئولية سيختار من هو أقل منك كفاءة أو يختار من يسيء للأمة فيجب شرعاً كما ذكر شيخ الإسلام أن تتولى وتقدم حتى ولو ارتكبت بعض المفاسد من أجل أن تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى هذه شجاعة وإقدام {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] هذا ليس طلباً للإمارة كما يرى البعض، بل هذه شجاعة وقوة نادرة، أين الإمارة في بلد مقبلة على سبع شداد؟ أين الراحة؟
هو يستطيع أن يطلب من الملك أن يبني له قصراً على الأنهار ويعطيه ما يشاء ويأتي بأهله، يستطيع أن يفعل ذلك، ولكنه لم يختر هذا الطريق إنما اختار تحمل المسئولية كما اختارها، وكما قبلها بعبارة أدق عمر بن عبدالعزيز فسارت الأمة بالخير والعدل في خلال سنتين وأشهر، رضي الله عنه ورحمه في سنتين وأشهر ملأ الأرض عدلاً وفاضت الخيرات لما حكم بشريعة الله.
يأتيه أبناؤه ويطلبون منه مالاً يسيراً ويرفض، ويقول: أنتم أحد رجلين إمَّا رجل صالح فسيغنيه الله، وإما رجل آخر فوالله لا أساعده على معصية الله، يطلب من زوجته ابنة عمه فاطمة أن تخلع ما في يديها وتدخله بيت مال المسلمين، ويخيِّرها إما بالبقاء معه أو أن تتخلى عن ما في يديها، لأنه من بيت مال المسلمين- مجرَّد ذهب في يديها- .
يقسم أحد المؤرِّخين يقول: والله لقد رأيت أبناء عمر بن عبدالعزيز وبضعهم يحمل في الجهاد على عشرات أو مئات من الخير والمال الذي عنده، ورأيت بعض أبناء الأمراء ممن سبقه أو بعده وهم يتكفَّفون الناس، سبحان الله!
يوسف عليه السلام أقدم على المسئولية بنزاهة وعفة عجيبة جداً فحفظه الله جل وعلا ومكَّنه الله جل وعلا {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف من الآية:56].
أيضاً مما يمكن به: حسن السياسة والعدل في الرعية. عدله وحسن سياسته. اقرؤوا السورة تجدون العجب فيها، وبهذا تستمر الدول وتستمر الممالك بالعدل، كما قال شيخ الإسلام : " إن الله يعز ويبقي الدولة العادلة ولو كانت كافرة وإن الله يذل ويهزم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة".
أيضاً اتصافه بالإحسان بمعناه الشامل المتكامل وليس الإحسان بمعناه القاصر وهو مجرد إحسان إلى فلان أو فلان، حيث الإحسان الآن عندنا يفسر بجزء من معانيه، الإحسان أعظم من ذلك وأشمل.
من أقوى علامات تمكَّنه وأسباب تمكَّنه وحصول مقصوده: قوة إيمانه بالله وتوحيده وحسن توكله على الله وإعادة الفضل إلى صاحبه وهو الله سبحانه وتعالى {ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف من الاية:38].
توحيد يوسف، إيمان يوسف، إعادة الفضل لأهله وهو الله جل وعلا، حسن ظنه بربه من أسباب حصول ما حصل له من عز وتمكين وسيادة وقيادة فإذا انتشر في بلاد المسلمين التوحيد ونشرت كلمة التوحيد فلتبشر الأمة بخير عظيم آت لا محالة بإذن الله.
كذلك دعوته لتحكيم شريعة الله، ونفي ما سواها {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف من الآية:40].
من أقوى ما رأيت من أسباب تمكُّن يوسف عليه السلام : اطراده في منهجه وثباته عليه في جميع المراحل ،في السراء والضراء، عند أبيه وهو صغير، وهو يباع مملوكاً، وفي بيت العزيز، وفي السجن، وعند الملك، وهو على الرئاسة في آخر المطاف، اطراده على خط مستقيم واضح جلي بيِّن بهذا ينتصر الداعية. قلت لكم تمعنت انتصار بعض المباديء الأرضية وهي مباديء أرضية ليست إسلامية وجدت أن من أسباب انتصارها إيمان أصحابها بها وثباتهم عليها فيحققون انتصاراً عجيباً في الدنيا.
فكيف إذا كان الإنسان مؤمناً ومطرداً ومؤمناً بالله جل وعلا ؟
مانديلا في جنوب أفريقيا : قوة إيمانه بعدالة قضيته، بتخليص بلاده من الإستعمار البريطاني، وثباته على ذلك أكثر من سبع وعشرين سنة، ماذا حدث له؟! لا أعلم الآن زعيماً معاصراً من غير المسلمين له من الاحترام والتقدير في العالم أجمع مثل مانديلا، لأن قضيته كانت عادلةً مع أنه غير مؤمن ودعي إلى الإسلام نسأل الله له الهداية.
إخواننا لما ذهبوا إلى جنوب أفريقيا قبل أشهر لمؤتمر هناك دعوه، فقال: أنا لست على دين فإن اخترت ديناً فسأختار الإسلام، فثبات الرجل وصدق الرجل عجيبة جداً وسبق أن ذكرت لكم شيئاً من ذلك ومع ذلك انتصر وهو ليس بمسلم فكيف إذا كان الرجل مسلماً؟
إذا ثبت واطرد على منهجه ولم يتقلب ولم يضطرب فإنه ينتصر بإذن الله، هكذا كان يوسف عليه السلام، أما إذا بدأ الاضطراب عند الإنسان والتأخر والتقدم في غير موضعه لا يستطيع أن ينتصر، لأنه لم ينتصر على نفسه فكيف ينتصر على الآخرين؟!
هذه مسألة آمل إن شاء الله أن أبيِّنها بالتفصيل في وقت قادم سواء في هذه المقالة أو في غيرها في موضوع أهمية الاطراد في المنهج وخطورة الاضطراب والتغير والتبدل.
ومما وجدت من مقومات عزة يوسف عليه السلام وانتصاره عدم الاستعجال أو التنازل، لاحظوا عدم الاستعجال أو التنازل أو اليأس أو القنوط، الآفات التي تصيب الأمة وتصيب الناس وتصيب الدعاة إما استعجال، أو يأس وقنوط، أو تنازل في غير موضعه لأنه إذا كان في موضعه لا يسمى تنازلاً. يوسف عليه السلام لم يستعجل كما ذكرت لكم في قصته في السجن، ولما تولَّى الملك لم يتنازل لحظة واحدة أبداً أبداً، ولم ييأس ولم يقنط، وهكذا كان أبوه عليهما السلام.
ضع هذه المعالم أمام عينيك: الاستعجال - التنازل - اليأس - القنوط - التشاؤم فهي مهلكة، ولذلك نبَّه إليها محمد صلى الله عليه وسلم في مواطن عدة وهو يقول لصحابته: « ». هذا يقال لصحابة محمد صلى الله عليه وسلم ،الاستعجال آفة أنا أخشى أن نفرط في الثروة الضخمة من هذا الإقبال على هذا الدين والاستعداد للتضحية والفداء والبذل، والله إني أخشى من الاستعجال الذي قام محمد صلى الله عليه وسلم يربِّي أمته على الحذر منه خوفاً من أن يقعوا فيه، فلذلك أيها الأخوة يجب أن نضع هذه المعالم أمام أعيننا إذا توافرت هذه المقومات -التي توافرت ليوسف عليه السلام- وتمكن في الأرض، إذا توافرت هذه المقومات لأمة. تحقق الانتصار العظيم بإذن الله ووعد الله آت ونصره قادم والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون، فالله الله بالتفاؤل وحسن الظن بالله، لا تسيئوا الظن بالله جلَّ وعلا، يقول ابن القيم رحمه الله : " ما من امرئ إلا وهو يسيء الظن بربه فبين مقل ومستكثر … وكل منكم يعرض نفسه بينه وبين ربه، وهذه من أعمال القلوب" هذا كلام شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله، فما يخلو الإنسان من سوء ظن بالله جلَّ وعلا وأسبابه كثيرة، سواء على المستوى الشخصي: بعض الناس يقول لماذا ربي لا يرزقني؟ بعض الناس يقولون لماذا لا ينصرنا الله جلَّ وعلا؟ يا أخي: هل استحققنا النصر؟! هل أخذنا بعوامل النصر؟! هل زالت موانع النصر؟! وعده لا يتخلف سبحانه وتعالى أبداً، لكن إذا توافرت الأسباب وقامت الدواعي وزالت الموانع عندها يتحقق وعد الله لا محالة {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية:21] الآيات متواترة في القرآن. المصيبة فينا وفي أنفسنا وفي ضعفنا فالله الله أحسنوا الظن بالله وكونوا أكثر تفاؤلاً بتحقق وعد الله، ولكن علينا أن نأخذ بأسباب النصر وأن نصدق مع الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد من الآية:21].
أسأل الله أن يبرم لهذه الأمة إبرام رشد يعز فيه أهل الطاعة ويُهدى فيه أهل المعصية، وأن يمكِّن للإسلام والمسلمين وأن يعلي راية الدين.
والحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.