عرض كتاب: السنوات الخمسون القادمة (حال العلم)
يتوقع أن تعين أبحاث الخلايا الجذعية في المعالجة المستقبلية لأمراض مثل الزهايمر، عن طريق حث الخلايا العصبية في منطقة دماغية هي (الحصين "Hippocampus")، وهي المسؤولة عن إنتاج الخلايا العصبية الجديدة في الدماغ السليم، ولهذه المنطقة أهمية في قدرتنا على التذكر بشكل إرادي...
- التصنيفات: وسائل التكنولوجيا الحديثة -
عرض كتاب الخمسون سنة القادمة:
حال العلم في النصف الاول من القرن الحادي والعشرين
جمع وتنقيح: جون بروكمان (ولادته 1941، وفاته)
تأليف: خمسة وعشرين عالمًا مميزًا في العديد من التخصصات
ترجمة: مروان أبوجيب
أعد العرض: هشام محمد سعيد قربان
الناشر: مكتنبة العبيكان، 2004، 446 صفحة، من القطع المتوسط
العنوان الأصلي
THE NEXT FIFTY YEARS
Science in the First Half of the Twenty-first Century
Edited by: John Brockman
الخلفية التاريخية لهذا الكتاب:
جون بروكمان عالم مهتم بالمستقبل، وترجع أبحاث الكتاب الذي بين أيدينا إلى مشروع مهم جدًّا لجمعية أو شبكة تواصلية بحثية بين العلماء، ينضوي تحت لوائها آلاف من الباحثين في العالم، واسمها الحافة (The Edge)، ويشير اسم هذه الشبكة إلى الحافة أو النهاية التي تمثل أقصى ما وصلت إليه العلوم المختلفة، أما هدف هذه الشبكة العالمية، فهو تصوُّر المستقبل الكامن خارج نطاق البحث وحدود المعرفة الحاليَّة، ومؤسس هذه الجمعية العالمية هو جون بروكمان، ويترجم هدف الحافة المملوء بالتحدي عدة أنشطة، من أهمها طرح سؤال دوري لكل المشاركين حول المستقبل،
وكان عنوان هذا الكتاب - في أول أمره - موضوعًا لسؤال من هذه الأسئلة المستقبلية لهذه الجمعية، ويحوي الكتاب خمسة وعشرين بحثًا منتقى من آلاف من المشاركات المقدمة لإجابة هذا السؤال المثير عن حال العلم في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، وقام جون بروكمان بتنقيح هذه الأبحاث، ويرجع إليه الفضل في إخراجها في صورة كتاب يتميَّز بأسلوب ما يسمى بالثقافة الثالثة أو ثقافة العامة، ويعرض المادة العلمية بأسلوب أقل تخصصًا؛ ليتسنى فَهمه من قِبَل العلماء خارج مجال الاختصاص.
النظرة العامة:
يحوي الكتاب خمسة وعشرين بحثًا قسمت إلى جزأين:
1- المستقبل من الناحية النظرية.
2- المستقبل من الناحية العلمية، ويقدمها كوكبة مختارة من الباحثين المنتسبين للجامعات المشهورة ومراكز البحوث الرائدة.
إن هدف هذا المؤلف الغني بتنوعه يتجاوز إعطاء أجوبة مقولبة وتصورات محددة لحال العلوم في الخمسين سنة القادمة، ويعرض تأملات علمية نظرية، وتوقُّعات متفائلة، وأخرى متشائمة، وتساؤلات بحثية، وإسقاطات عملية، وهو في مجمله رحلة عجيبة نزور في خلالها عقول وخيال وأحلام طائفة مختارة من الباحثين، ويعطي مؤشرات عامة وخاصة، وأسئلة مُلحة تبحث عن إجابات مقنعة حول مستقبل العلوم، كما يحيل القارئ إلى جملة من البحوث القديمة والرائدة التي يتوقَّع أن توجه البحث المستقبلي، وتحدِّد بعض معالمه، والكتاب موجه للعلماء، ولمن لديه خلفيات أو اهتمامات علمية قوية أو صلة بالبحوث الاستشرافية.
في هذا العرض المحدود من ناحية المساحة، انتقينا للقارئ ولخَّصنا له طائفة مختارة من هذه البحوث المعروضة في الجانبين النظري والعملي، وحرصنا أن يعطي مجموع البحوث المنتقاة نظرةً كافية لتقدير هذا المؤلف، ولحثِّ القارئ المهتم لزيارة الأصل والاستزادة من البحوث الأخرى.
تعليق عارض الكتاب على مستوى الترجمة:
لعل المترجم استخدم - في أول أمره - برامج حاسوبية للترجمة، ويدل على ذلك كثرة الأخطاء الناتجة من الترجمة اللفظية وعدم الترجمة بمراعاة السياق، وأبلغ من هذا للتدليل على الترجمة الميكانيكية: كثرة استخدام التراكيب اللغوية الإنجليزية للجمل؛ حتى إن القارئ الملم بالإنجليزية يكاد يرى ذات الجمل الإنجليزية مكتوبة بالعربية، بلا جُهد مضاف لتعريب الصياغة والتراكيب، هذا ولم يُورد المترجم تراجم للأعلام المذكورين في المؤلف وشروحًا لبعض النظريات المشار إليها، ولعلنا نعزو ذلك إلى عدم اختصاص المترجم، أو لعل خلفية المترجم وخبرته مقصورة في ترجمة الأعمال الأدبية أو الترجمة العامة وليست علمية أو متخصصة، وعلى كل حال يشكر للمترجم صنيعه ومبادرته في ترجمة هذا الكتاب الكبير والمتنوع في أبحاثه ومواضيعه، والمحشو بالمصطلحات العلمية، وأتمنى أن تكون الترجمة الأخرى التي أعدها مشروع كلمة في "أبو ظبي" أفضل وأكثر حرفية من ناحية تعريب الصِّيغ وترجمة الأعلام، وشرح النظريات والتعليق من المنظور الخاص للمترجم، والاستعانة بالمختصين كلما لزِم الأمر.
بداية العرض
الخمسون سنة القادمة:
حال العلم في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين
الجزء الأول
مستقبل العلوم من الناحية النظرية
1- طبيعة الكون:
يتصدر الكتاب بحث للعالم الفيزيائي لي سمولين - مؤسس معهد بيريمتر باونتاريو - يتساءل فيه عما سوف نعرفه عن الفيزياء وعلم الكون في الخمسين سنة القادمة، ويعرض سبعًا من الأسئلة المهمة التي لم يجب عليها، وتمثل في عمومها اتجاهات للبحث المستقبلي، ونذكر بعضها:
س1- ما مدى صحة النظرية الكمية بصيغتها الحالية؟ وهل تحتاج لتعديلات؟
س2- ما هو تركيب الفضاء والزمن؟
س3- ما صحة نظرية الانفجار الكبير التي تفِّسر نشأة الكون؟ وهل توجد تفسيرات أفضل؟
س4- كيف تشكَّلت المجرات؟
2- هل نحن وحدنا في هذا الكون؟
يتوقع العالم الفلكي السير مارتن ريس - من جامعة كامبريدج - أن تركز بحوث المستقبل على البحث عن صور للحياة - ولو كانت بسيطة وبدائية - في مجموعتنا الشمسية، وخصوصًا علي كوكب المريخ، وقمر زحل المسمَّى: تيتان، والمحيطات الثلجية في أحد أقمار المشترى: يوربا (Europa).
إن نتائج هذه البحوث - في حال نجاحها - سوف تؤدي إلى اتساع نطاق البحث عن الحياة إلى نواح أخرى داخل مجرَّتنا: درب التبانة، وما جاورها.
وفي المقابل فإن الفشل لن يخلو من الفوائد؛ سواء كان جزئيًّا أو كليًّا، وأولى الفوائد للفشل وأهمها: هي تعزيز احترامنا وتقديرنا وتعامُلنا مع كوكبنا الأزرق؛ لكونه المستقر الوحيد للحياة الذكية، ولعل هذا يغيِّر نظرتنا إلى الأرض، فنعتبرها بمثابة بذرة للحياة يمكن أن ننشرها بجهودنا في أكوان أخرى.
وختم مارتن ريس بحثه بعرض احتمالات متعددة حول نشأة أكوان جديدة في الثقوب السوداء، تتوسع في مكان وزمان آخر لا نستطيع بلوغه، والتخمين بوجود صور للحياة تعيش في أكوان متوازية وأبعاد أخرى في الفراغ الكوني.
ويذكر ريس سؤالاً محيرًا ينسبه للعالم الكبير أينشتاين: ما هي الخيارات الأخرى في خلق الكون؟ ولا شك بأن الاعتقاد بالقدرة اللامحدودة للخالق سبحانه وتعالى يجعل الكثير لا يستبعد أبدًا وجود احتمالات أخرى لوجود الحياة في أكوان مختلفة، تَحكمها قوانين مماثلة، وتشترك في أصل واحد قد تفسره نظرية الانفجار الكبير أو غيرها من النظريات.
3- الرياضيات في عام 2050:
يبدأ الباحث إيان ستوارت - الحائز على ميدالية فاراداي في سنة 1995 - هذا المبحث بالتركيز على كبريات الثورات والمراجعات الرياضية المتعلقة بنقد مفهومنا عن الحقيقة الرياضية، ويعود الفضل لأبحاث العالمين قودويل وتيرنينج (K. Godel & Allan Turning) التي عرَفنا من خلالها بأن الحقيقة الرياضية غير مطلقة الصحة.
يرى ستوارات ضرورة التلاقي والاجتماع المستقبلي لمصدري علم الرياضيات: (1) العالم الحقيقي و(2) الخيال البشري، ويتوقع أن تشهد الخمسون سنة القادمة تقدُّمًا كبيرًا في الإجابة على المسائل الرياضية المطروحة منذ مئات السنين، ولقد بدأ التقدم في هذا المجال في القرن العشرين، ومثال هذا برهنة نظرية فيرمات (Fermat) علي يد وايلز (wiles) في عام 1955.
وسوف يعين في مجال تفسير البراهين استخدام الحاسبات الإلكترونية؛ لبناء أنظمة الوهم الافتراضي التي تمكِّن الرياضيين من محاكات وتخيُّل البنى الرياضية الجامدة، وإسقاط هذه التخيلات لرؤيتها بعيوننا، وتغييرها لمشاهدة ومعرفة وتقييم الاحتمالات المختلفة في ساعات أو دقائق معدودة، وهذا - بلا شك - عمل للحاسبات ولا تقدر عليه عقولنا البشرية.
4- تحت ظلال الثقافة: علم الأحياء في عام 2050:
يشير العالم برايان قودوين - أستاذ علم الأحياء في كلية شوماشير بإنجلتر - في هذا المبحث إلى الزوايا المجهولة والمظلمة في العلم الحالي، بصفتها منطلقات لأبحاث مستقبلية أكثر عُمقًا وأشد إبداعًا، ومن هذه الزوايا المعتمة: تلك الخطوط الفكرية الحمراء والوهمية في المجتمعات العلمية التي تحد من النظر والبحث فيما وراء الطبيعة.
ومثال آخر هو تحريم البعض أو تجريمهم لمن يحاول انتهاك نظرية داروين ومبدأه في الانتقاء الطبيعي، وكذلك لا يزال الوسط العلمي التقليدي - بمجمله - لا يميل إلى مفهوم خلق الكون من قِبَل قوة واعية ومدبِّرة، ويفضِّل عليه النظر إلى الكون بصفته مجموعة من العمليات الميكانيكية الصماء، ويتوقَّع قودوين أن تركز أبحاث المستقبل على مذهب أو مدرسة حيوية المادة، والنظر إلى كل شيء حولنا باعتباره كائنًا حيًّا، ويطرح سؤالاً جريئًا للمستقبل: لماذا يعتبر مذهب حيوية المادة تهديدًا لمنظور البعض للعلوم؟
ويختم قودوين هذا البحث بسؤالين:
1- ما هو مصدر المشاعر؟
2- من أين يأتي الوعي؟
هل تأتي المشاعر من منظومة ديناميكية عديمة الإحساس، ليس فيها أثر للمشاعر نسميها الجهاز العصبي، أم هو التفسير الآخر الذي يضفي صفة الإحساس والشعور على المادة، وهذا تفسير لا يتناغم مع التوجه التقليدي للعلوم؟
5- العقول القابلة للمبادلة:
يتوقَّع مارك د هاوزر المتخصص في علم العصب الإدراكي وعلم النفس - في جامعة هارفارد - أن يشهد المستقبل بحوثًا تتمحور حول فَهم أدمغتنا البشرية وأدمغة المخلوقات المفكرة الأخرى، بغرض دراسة زراعة الأنسجة الدماغية، والمبادلة من مخلوقات إلى أخرى، والبحث في تغيير عمل الدماغ بواسطة إدخال المورثات الجينية، ويستعرض هاوزر مختارات من سجل الأبحاث الكثيرة على أدمغة القردة، تاركًا لخيال القارئ تصور مستقبل هذه الأبحاث.
ويذكر أن دراسة أدمغة القردة وسلوكها، بدأت في أوائل القرن العشرين، فمثلاً درست بعض الأبحاث استجابة قرد من فصيلة روسوس الهندية لرؤية قرد آخر يتعرض للصعق الكهربائي، حين محاولة الأول الحصول على طعام بتحريك عتلة دُرِّب عليها، حينما لاحظ أن فعله يؤدي لإيلام القرد الآخر، كانت النتائج مذهلة؛ إذ توقف القرد عن تحريك العتلة حارمًا نفسه من الطعام؛ لكيلا يتألم القرد الآخر، وهذا التجربة أثبتت أن القردة أرهف وأكثر إحساسًا بمشاعر بني جنسها من النوع البشري.
وفي هذا السياق نذكر تجربة صعق كهربائي بين البشر أجراها الباحث ميلغرام (Milgram)، والتي صوَّرها ونقلها حية في كتابه "طاعة السلطة"، والأمر المخيف فيها انصياع المشاركين في التجربة للسلطة المتمثلة في هيئة عالم يلبس رداءً مخبريًّا أبيضَ، وقيامهم بصعق الطرف الآخر بالكهرباء، (هذا الطرف ممثل وليس حقيقة، ولا يراه من يقوم بالصعق)؛ لأنه لم يجب الإجابة الصحيحة، وعدم إحساسهم بمشاعره وآلمه من الصعق الكهربائي وندائه المستغيث، ولو قارنا بين التجربتين، لاستنتجنا أن القردة أرهف إحساسًا منا، وأكثر تعاطفًا من البشر مع بني جنسها.
من الأمثلة الحديثة على دراسة أدمغة القردة، أبحاث عالم الأعصاب نيكوليليس (Miguel Nicolelis) ورفاقه، التي درست مبادلة دماغ قرد بدماغ بومة، مضافًا إليه دماغ قرد، وتفريغ الشحنات العصبية الدماغية، واستعمالها لتحريك ذراع آلية، والهدف هنا هو إيجاد معنًى للرمز العصبي، وفَهم دوره في السلوك والحركة.
إذا حلقنا بخيالنا نحو المستقبل وإمكاناته، فلن يصعب علينا إعداد تسجيل مفصل على قرص كمبيوتري صلب لأفكار حيوان معين في حال أكله وشربه، وتزاوجه وتواصله مع أبناء جنسه وكل حياته، هل سيمكننا هذا السجل من تقمُّص هُوية هذا الحيوان واكتشاف رغباته وحاجاته؟ أو لعله يعلمنا كيف نوافق بين موجات أدمغتنا البشرية وأدمغة الحيوانات، ولعل هذا يساعد أبحاثنا في مقاومة وعلاج مرض الخرف؟
ولا ينكر هاوزر أن هذا الاتجاه البحثي سوف يثير الجدل، ولن يسلم من هجوم الناقدين من المنظور الأخلاقي والديني.
6- الحزن في عام 2050:
يرشح أستاذ علم الأعصاب بجامعة ستانفورد: روبيرت سابولسكي مرض الاكتئاب لمرتبة مرض القرن العشرين، وهو مرض متفشٍّ في العالم، وتبلغ نسبة ضحاياه - حسب أحد الدراسات - 15% من السكان في الدول المتقدمة، وهذه نسبة كبيرة في ظل وجود الرعاية الصحية النفسية في تلك الدول، ومكمن الضرر في الاكتئاب هو ما يولِّده من الشعور بالعجز، ولهذا العجز تبعاته على المصابين به ومجتمعاتهم، فهم لا يكادون يستطيعون أداء أعمالهم والوفاء بالتزاماتهم العاطفية والتواصل الفاعل مع محيطهم.
ولا ننسى جهود مراكز الأبحاث ومختبرات العقاقير التي اكتشفت بعض مكونات النواقل العصبية في أدمغتنا التي تقاوم الاكتئاب؛ مثل: السيروتونين، واخترعنا عقار بروزاك المضاد للاكتئاب، والذي يعمل بشكل انتقائي على زيادة نقل السيروتونين المتوفر لنقل الإشارات بين الخلايا العصبية، والبحث لم يزل في بداياته في جوانب أخرى؛ مثل: ضمورقرينات آمون (Hippocampus)، ودراسة الاختلافات الوراثية في عمل السيروتونين في الدماغ، وصناعة ما يسمى بهرمون التوتر، والمأمول أن تفتح الأبحاث المستقبلية مزيدًا من الطرق العلاجية للاكتئاب.
ولكن سابولسكي يشك في زوال مرض الاكتئاب في الخمسين سنة القادمة، بل يتوقع انتشاره واستفحال خطره، وقد يستغرب البعض لهذه النظرة المتشائمة، وخلافًا لما يتوقعون فلن تسهم الاكتشافات الحديثة من التخفيف من التوتر المسبب للاكتئاب، والسبب أننا - كعادتنا - سوف نرفع سقف توقُّعاتنا الحياتية كلما ازداد التطور، وهكذا يستمر التوتر بمحافظتنا الغبية على الهوَّة بين الواقع والمأمول، ويؤيد هذه النظرة المملوءة بالشك في استمرار مرض الكآبة بعد خمسين سنة: ما نراه من محدودية العقاقير المضادة للاكتئاب، ومعرفتنا بأعراضها الجانبية.
ولا يوجد إلى وقتنا الحاضر مسار أكيد لعلاج الاكتئاب بالعقاقير، فهذا المرض النفسي لا يشبه الأمراض الوبائية الجرثومية المصدر؛ لذا لا يوجد بأيدينا لقاح مضاد للاكتئاب، وفي حقيقة الأمر فليس لدينا لقاح أو دواء يعين الإنسان في حياته المتقلبة والمتغيرة.
7- ما هي الحياة؟
يشكك الباحث ستوارت كوفمان - من جامعة بينسيلفانيا - في قدرتنا على الإجابة على هذا السؤال في الخمسين سنة القادمة، ويرجع بنا إلى البحوث الأولى التي أجراها شرودينغر (Erwin Schrodinger)؛ للبحث عن مصدر النسق المنظم للأجهزة الحيوية، والتي أدت إلى اكتشاف المسودة الوراثية للحياة، ولقد وضع شرودينغر أول لبنة في هذا البحث في تصوُّره لوجود خلايا ثلاثية الأبعاد تحوي في بنيتها التفصيلية على قانون صغير يحدد مسار تطور الكائن الحي، وأثبت العالمان واتسون وكرك (Watson & Crick) صحة هذا التصور واكتشاف الحمض النووي (DNA) ، وكشفت البحوث التالية أن هذا الاكتشاف هو الرمز الوراثي.
ولكن، كل هذه البحوث - مع أهميتها - لم تعط تعريفًا واضحًا ومقنعًا للحياة.
يعرض كوفمان محاولته لتعريف ماهية الحياة، هل تصح النظرة للحياة على أنها أنظمة تلقائية الحركة، أو ما يسميه البعض بالوكيل الذاتي؟ وما هو الشكل لهذا النظام المادي الذي يؤهله لمهمة الوكيل الذاتي؟ وكثيرًا ما تساءل علماء الفيزياء عن مصدر هذه المصطلحات اللغوية: العمل والفعل والغاية.
كما يعرض كوفمان وصفًا تصوُّريًّا لجهاز كيميائي يمكنه أن يتناسل، ويتكون من ألياف مختارة من الحمض النووي، وعندما تتصل هذه الألياف، تتحول إلى سلسلة مناظرة للحمض النووي الأصلي سداسي الأجزاء، ويشير إلى أبحاث غديري وسكربس (Ghadiri & Scripps) الهادفة إلى الحصول على بروتين للتناسل الذاتي.
ويتوقع كوفمان أن تعطي البحوث حول الوكيل الذاتي دفعة قوية في الاتجاه الصحيح للإجابة على ماهية الحياة في الخمسين سنة القادمة.
الجزء الثاني
مستقبل العلوم من الناحية العملية
1- قانون ابن مور:
ينقل الباحث ريتشارد ديكنز - من جامعة أكسفورد - إجماع الكثير بأن الاكتشافات التي أنتجها علم الوراثة الجزيئي، تعد بحق أعظم إنجازات العلم في القرن العشرين، ويلخص ديكنز هذا العلم بكلمة واحدة هي: رقمي، ويعقد في هذا الفصل مقارنة بين معدل النمو المعرفي لأجهزة الحاسب الآلي، ومعدل تنامي فَهمنا للموروثات، فحسب قانون ابن مور فإن قدرة وسرعة الحواسب الآلية تتضاعف كل ثمانية عشرة شهرًا، ويعارض هذا القانون الكثير الذين يقترحون زمنًا أقل،
أما الطرف الآخر من المقارنة، فهو النظر إلى كلفة تحليل زوج واحد (أو حرف) من الحمض النووي، كانت هذه الكلفة ألف جنيه إسترليني في عام 1965، وبلغت كلفة تحليل الحرف الواحد (S. Riposomal) من سلسلة الحمض ذات الرمز X174 في سنة 1975 ما يقارب عشر جنيهات، وتطور الحال مع التقدم في دراسة الجينوم البشري، وقلَّت كلفة تحليل حرف واحد عشر جنيهات، وإذا تابعنا هذا الرسم البياني للكلفة إلى 2050، وجدنا أن كلفة دراسة جينوم إنسان كامل (وليس حرفًا واحدًا) سوف تكون 100 جنيه فقط.
ويتوقع ديكنز أن العلم في سنة 2050 سوف يعرفنا بصورة نهائية وإجمالية شجرة التاريخ العرقي، وسوف يتم ما يسميه بالكتاب الجيني للميت، وفي ذلك الزمن سيمكننا أن نلقم جينومًا لحيوان غير معروف في حاسوب متخصص، فيقوم بإعادة تركيب شكل الكائن الحي، ويعطينا تفاصيلاً عن أسلافه وعن البيئة التي عاش وعاشوا فيها، ويتمنَّى عندها أنصار نظرية التطور أن يعثروا على جينوم الحلقة التي يتحدثون عن فِقدانها.
2- هل هنالك نشوء ثان؟
يخبرنا الباحث باول دافيس - من الكلية الإمبريالية بلندن - بعودة قوية لجهود علم الأحياء الفلكي الرامية إلى البحث عن صور للحياة على كوكب المريخ، ويطرح ما يسميه بالسؤال الأهم: أين نبحث عن الحياة على كوكب المريخ؟
إن الاتجاه الرئيس هو محاولة البحث عن صور للحياة تحت سطح المريخ، تتصف بقدرتها على استدامة ذاتها بمعزل عن نور الشمس، وتحمُّلها لدرجات حرارة عالية، ويتوقع أن يتراوح عُمق البحث من عدة أمتار إلى بضعة كيلومترات، والمأمول أن يوفر تحليل العينات تحت السطحية المجلوبة من المريخ بعض الاحتمالات على وجود الحياة في ماضي كوكب المريخ أو حاضره.
ويقترح دافيس وغيره بناء محطات دراسة مأهولة على كوكب المريخ، وسوف تقلل هذه المحطات من كلفة السفر بإنقاص وزن وقود رحلة العودة الذي كان يجلب من الأرض، ومن المقترح بناء مفاعلات لإنتاج الطاقة من فحم كوكب المريخ، ومن الوجهات للبحث عن الحياة على المريخ المياه الواقعة تحت طبقة الثلج السميكة.
ويطرح دافيس سؤالين مهمين يتعلقان باحتمال وجود الحياة على كوكب المريخ:
س1- هل تطابق صور الحياة على المريخ الحياة على الأرض؟
س2- هل يتوقع أن تكون صور الحياة على المريخ مختلفة عن الأرض؟
ويختم دافيس هذا البحث بعبارة تأمُّلية حكيمة: "إن البحث عن الحياة خارج كوكب الأرض، ما هو إلا بحث عن أنفسنا وموقعنا في الكون، واحتمال كوننا الصورة الوحيدة للحياة في الكون سوف يغير منظورنا تُجاه هُويَّتنا ومسؤوليتنا، كقيّمين على الكوكب الحي الوحيد، وفي المقابل فإن وجود نشوء حياتي خارج كوكبنا، سوف يكون له أثر لا ينكر على نظراتنا لذواتنا وللكون".
3- مستقبل المادة:
يتوقع الباحث بيتر اتكنز - من جامعة اكسفورد - أن يشهد نصف القرن الحادي والعشرين تطورًا كبيرًا في قدرة الكيميائيين في التعامل مع الذرات، وربْطها بأنماط جديدة، وفي هذا السياق يؤمل نجاح الجهود الرامية لصناعة البروتينات الاصطناعية المشابهة للأغشية الخلوية والقادرة على البقاء.
كما يتوقع اتكنز أن تشهد الخمسون سنة القادمة تطبيقات جريئة في مجال الكيمياء الزراعية، والذي يستنبت بعض الكائنات الحية - مثل بعض أنواع البكتيريا - بغرض الحصول على منتجاتها، والإفادة منها في مجالات عدة.
ومن المأمول أن تؤدي الأبحاث في المستقبل إلى قفزات وتحسينات كبيرة في صناعة حاسبات آلية دقيقة في الحجم، بالإفادة من التقنيات المتناهية في الصغر (Nano Technology)، ونظير ذلك الإفادة من الأنابيب المجهرية الكربونية لبناء تراكيب وأبنية خفيفة الوزن وفائقة المتانة، وسوف ينعكس هذا على أنماط البناء المستقبلية للأغراض المنزلية والصناعية.
ويذكر اتكنز: "إن استخدام الحاسبات الآلية السريعة وقواعد المعلومات المنظمة سيقلل كثيرًا من الوقت اللازم لتطوير الأدوية في المستقبل، ويسهل ويوجِّه تصنيع مركبات جديدة؛ مثل: محفزات التفاعلات التي تعين على التفاعلات وتُيَسِّرها، من دون أن تدخل في صلب التفاعلات، وتجمع بعد التفاعل لاستخدامها مرة ومرات أخرى، كما يتوقَّع أن تزداد حساسية ودقة أجهزة قياس الطيف المادي إلى حد يمكن الباحثين من تصوير ومتابعة التفاعلات على المستوى الذري.
4- هل سنصبح أكثر ذكاءً في الخمسين سنة القادمة؟
هذا بحث فلسفي لطيف ونافع يعرضه الباحث روجر شاينك من جامعة كارنيجي ميلون، ويُصدِّره بهذا السؤال المهم، ويبدأ الإجابة بتوقعه أن يضع المستقبل تحت المحك مفاهيمنا الحاضرة عن الذكاء والتعلم، ويباغت القارئ بسؤال جديد عن ماهية الذكاء في المستقبل، هل يعرف الذكاء بقدرتنا على الإتيان بأجوبة لأسئلتنا؟ وهل سيتغير هذا التعريف في المستقبل؟ هل سنعرف الذكاء بقدرتنا على تعلُّم كيفية التفكير في الأسئلة المناسبة؟ ويرجح شاينك كِفة الأسئلة الجديدة في المستقبل.
أما من ناحية التعلم، فلعلنا نشهد في ظلال العالم الافتراضي تغيرات جذرية في مفهوم المدرسة والمدرس، والدارس والمادة الدراسية، وزملاء الدرس، وطريقة التلقي وتحفيز المتعلم، وأساليب غرس المعلومة والخبرة، والتأكُّد من فَهمها، واكتساب القدرة على تطويرها وتعليمها للغير.
ويرى الباحث أن نجاح التعليم في المستقبل، مرهون بفَهمنا لمعنًى قديم وأكثر عمقًا للتعليم، الذي ينبغي أن يتمحور حول التنفيذ والتطبيق والعلم للعمل، بدلاً مما تعلَّمناه خطأً في ماضينا من العلم الذي يدور حول المعرفة فقط.
ويرى الباحث أن مفهوم الذكاء في المستقبل، سيتعلق بالقدرة الذاتية على توسيع نطاق الخبرة، وفي مقدار ونوع الأسئلة الجديدة التي تبقى بلا إجابة، ومن سوف يتصدى لإجابتها، ولهذا انعكاس على أجواء التعليم، فيطالب المتعلم بالتفكير بأسئلة جديدة، وعليه أن يبيِّن كيفية حصوله على هذه الأسئلة، ويتلو ذلك شرحه للخبرات التي بُنيت عليها هذه الأسئلة، فالذكاء في المستقبل كما يقول شاينك: "هو القدرة على الوصول إلى حدود الخبرة التعليمية".
سنكون أكثر ذكاءً عندما تطلب الأجواء التعليمية فضولاً وأسئلة، ولن نخاف من الخبرات الجديدة، وسوف نعرف كيف نجد الخبرات اللازمة، وسوف نتعلم ونكبر من خلالها.
5- العقل والدماغ والنفس:
هذا بحث مطول أعده أستاذ الأعصاب جوزيف لودو - من جامعة نيويورك - الذي يعرض ثلاث مجالات محتملة لمستقبل البحث في الدماغ البشري من خلال التطور في التصوير بالرنين المغناطيسي ووسائل أخرى:
• تعلم المزيد عن التنظيم العصبي للإدراك والذاكرة، والعواطف واللغة، والذاكرة الفاعلة.
• اكتشاف المزيد عن ترابط العمليات المذكورة أعلاه، وكيفية التفاعل بينها داخل الدماغ.
• هذا المجال هو الأهم، فسوف يمكننا وجود أساس علمي صلب لفَهمنا بطريقة معيارية لوظائف الدماغ عن التساؤل عن العلاقة بين:
أ- اختلاف أو تفاوت هذه الوظائف بين الأفراد.
ب- معرفة وتحديد الصفات المسؤولة عن النفس أو عن الشخصية.
وينتقل البحث إلى موضوع إدارة الذكريات، ويعني تكوُّن ذكرى جديدة في أدمغتنا: تعديلَ الوصلات بين الخلايا العصبية، وتركِّز بعض الأبحاث والتجارب الرائدة على إيجاد طرق فاعلة لتحسين الذاكرة البشرية، ومن هذه الأبحاث ما يبيِّن اعتماد كثير من أشكال الذاكرة على جلوتومات النواقل العصبية، والعمل على تحسين الذاكرة، عن طريق تطوير عقاقير تسهل من نقل الجلوتمات إلى الخلايا العصبية.
ويتوقع أن تعين أبحاث الخلايا الجذعية في المعالجة المستقبلية لأمراض مثل الزهايمر، عن طريق حث الخلايا العصبية في منطقة دماغية هي (الحصين "Hippocampus")، وهي المسؤولة عن إنتاج الخلايا العصبية الجديدة في الدماغ السليم، ولهذه المنطقة أهمية في قدرتنا على التذكر بشكل إرادي.
ولعلنا نشهد في المستقبل أدوية ذكية بمقدورها أن تعالج الشبكات المضطربة في الدماغ، دون المساس بشبكات أخرى سليمة، ويتوقع أن يعين التطور في التصوير الدماغي المقترن بفَهم مفصل ودقيق عن الوظائف الطبيعية لمختلف مناطق الدماغ، ومعرفة الشبكات المتأثرة بالاضطرابات في اكتشاف وتطوير هذه الأدوية الذكية.
6- السيطرة على المرض:
اختُتِم الكتاب بهذا البحث من إعداد الباحث باول إيولد - أستاذ علم الحياة في كلية إمهيرست، ومؤلف لكتاب "تطور الأمراض الإنتانية".
ويفتتح الحديث عن مذهب علاج المرض عن طريق معرفة سبب المرض، وكان لويس توماس أول من عرض هذا البحث قبل أربعين سنة تقريبًا في كتابه "تكنولوجيا الطب"، حين قال: "إن معظم ممارسة الطب - بما فيها زرع الأعضاء ومعالجة أنواع السرطان - مكرَّس ومنشغل بإيجاد حلول وقتية وعابرة، ويوجد في المقابل جهد قليل ومحدود أدَّى إلى اكتشاف حلول حاسمة لأمراض كانت تستعصي على العلاج لزمن طويل، ومثال هذا منع حالات كثيرة من سرطان الكبد والتهاب الكبد، من خلال تحليل الدم للبحث عن الحمات الراشحة المسببة لالتهاب الكبد من نوعي: ب، ج، وباستعمال لقاح التهاب الكبد (ب)".
ويعرض إيولد منظورًا مختلفًا لتفسير نشوء الأمراض المزمنة بسبب الإنتانية التي تؤدي بصور خفية إلى تخريب الأنسجة، وتظهر هذه الإنتانات في نهاية المطاف في صور أمراض خطيرة؛ مثل: أزمات القلب، والسرطان، والزهايمر.
ويتوقع إيولد أن يقبل الإنتان كسبب لبعض الأمراض المزمنة والخطيرة؛ مثل: مرض السكري، ومعظم أنواع السرطان، وأمراض نقص الخصوبة، ومع إقرار الباحث باحتمال الضَّعف في هذا التوقُّع إذا رجحت كِفة السببية الوراثية لنشوء المرض، فإنه يذكر بأهمية التصدي للأمراض المزمنة، والتي يقر المختصون بأن الإنتان هو المسبب لها، ويدرج الباحث قائمةً من الأمراض المزمنة، وجدولاً زمنيًا يتنبأ فيه بالتواريخ التي سوف يقبل فيها الأطباء بالإنتان كسببٍ رئيس للأمراض المزمنة المذكورة في الجدول، والتي تشمل أمراضًا عقلية ونفسية،
ونذكر هنا مقتطفات من هذا الجدول التنبؤي على سبيل المثال: سوف يقبل الإنتان كسبب لانفصام الشخصية، وسبب للاكتئاب ذي القطبين في سنة 2025، ويتوقع الباحث أن يطور المزيد من اللقاحات المضادة للأمراض المزمنة التي يسببها الإنتان في الخمسين سنة القادمة، وخير من يقدر ويثمن هذا البحث هم المختصون في علم دراسة الأمراض، والزمن خير وسيلة من تحقق نبوءة السببية بالإنتان التي وضعها الباحث.