العلماء وقصور الرسالة (1/2)

عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

وقد أخذ هذا التركيب ينفك شيئًا فشيئًا، حتى انفصل الأمر عن العلم، وأخذ السلطان يأمر وينهى بسياسة وقصور علم، وانزوى العالم وأخذ يأمر مع قصور في السياسة، فيرى السلطان ما لا يراه العالم، ويعلم العالم ما لا يعلمه السلطان.

  • التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة - الحث على الطاعات -

بسم الله الرحمن الرحيم

من أظهر أسباب قصور النتائج الجهل بحقيقة الذوات، وعدم إدراك ميزانها. وحصر منافع الأشياء أو قصرها على بعض وجوهها واستعمالاتها، تعطيل لنتائج تعظم وتحقر بحسب المفقود من قيمتها، وهذه سنة كونية، نراها حتى في مخلوقات الله المادية، فالمعادن وكنوز الأرض كانت بين يدي الإنسان منذ أول الخليقة، فهو لم يصنع الطائرة والتقنيات من عدم، ولكنه حينما جهل حقائق الماديات ووجوه الانتفاع منها، أثر هذا على نتائجه من قصور مادي شديد إلى حضارة مادية كبيرة، فمعدن الطائرة والتقنية هو المعدن الذي كان بين كفي الإنسان يشرب به ويأكل وغير ذلك من الاستعمالات، فالمادة هي المادة والإنسان هو الإنسان ولكن العلم بحقائق الذوات قاصر، فقصرت النتائج.


وهكذا العالم في كل علم مع معلوماته ورسالته ومواقعها وآثارها في الناس، وكلما توسعت العلوم وتكاثرت تداخلت وتنازعت وزاحم بعضها بعضًا حتى في فروع العلم الواحد، ويجب الإيمان أن كل العلوم في الأرض والسماء متداخلة مهما اختلفت، ولو في أجزاء يسيرة، ويغيب عن الإنسان أكثرها ويعلم القليل جدًا {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًۭا} [الإسراء من الآية:85]، والعلم المطلق لله سبحانه وتعالى وحده.

 

إن العالم ورسالته في الإسلام دخلها الجهل بحقيقتها على عصور طويلة، فأثر ذلك على العالم في ذاته وفي مدى العلم الذي ينبغي أن يأخذه، ويؤديه ويبلغه، ونوع خطابه ورسالته، وسمته وحرفته التي يتقوت منها ويرتزق، وصلته بالناس، وعلاقته بالمادة، والسياسة وارتباطه بها، ومن جهل ذاته لم يؤد رسالته، وأخطر أنواع الجهل جهل الرجل بذاته.

 

لقد جاء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوالى في ضبط الدين والدنيا وتكوين الصلة بينهما، وجاءت نصوص الوحي في أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج كما جاءت في ضبط البيع والشراء والتعامل مع الخلق والبهائم، وسياسة البشر والرؤساء وذوي الهيئات، والمتباينين في الديانة.
 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إمام العلماء وسلطان الله في الأرض، يأمر وينهى كما أُمر ونُهي من ربه تعالى، وكانت صورة العالم السلطان مكتملة في جسد النبوة، فأثمر ذلك الأمان للأمة قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم«أنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون».

ولهذا جاء تفسير السلف من التابعين لولي الأمر في القرآن أنهم العلماء تارة وتارة أنهم الأمراء، فهم يرون ذلك من المترادفات، لأنه في زمانهم لا يكون أمير يصدر عامة الناس عن قوله إلا وهو عالم عارف، قال تعالى {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِى ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء من الآية:59]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌۭ مِّنَ ٱلْأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُوا۟ بِهِۦ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُو۟لِى ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ} [النساء من الآية:83]، فسر ولاية الأمر بالعلم ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وعطاء والحسن البصري وعكرمة.

وقد بقي سلطان الأمر والعلم في جسد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من الأمراء كالخلفاء رضي الله عنهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم «أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما توعد» (صحيح مسلم:2531).

وقد أخذ هذا التركيب ينفك شيئًا فشيئًا، حتى انفصل الأمر عن العلم، وأخذ السلطان يأمر وينهى بسياسة وقصور علم، وانزوى العالم وأخذ يأمر مع قصور في السياسة، فيرى السلطان ما لا يراه العالم، ويعلم العالم ما لا يعلمه السلطان.
 

وأي اختلال للأمان في الأمة، واضطراب في المجتمعات، فهو بسبب القصور في فهم العالم ورسالته، وانقسام جسد الأمر إلى عالم في جسد، وسلطان في جسد، وانفرد كل واحد منهما بشطر الرسالة، والعملة لا ينفصل أحد وجهيها عن الآخر وتَنْفُق على وجه صحيح في سوق الدين والدنيا.

 

وقد أحدث هذا الانفكاك فسادًا في بعض أنواع العلماء وبعض أنواع السلاطين، ليكتمل وجه القصور في دولة الإسلام دولة الدين والدنيا، فيُحابي العالم في علمه ويترخص للسلاطين مظالمهم، وأخذ السلطان يُميْل إليه وجه العالم ليشتري منه الرأي ليكتمل النقص المفقود عنده وهو العلم والتشريع، فيضعُف العالم فيعطي السلطان رغبته ليكتمل له الأمر المفقود وهو نفوذ الجاه والأمر على الناس لقربه من السلطان.

وقد كان العلماء العارفون من السلف يُدركون أثر هذا الانفكاك، روى الدارمي في سننه عن الزهري قال: "كان من مضى من علمائنا يقولون: "نشر العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله"". وهذا الانفكاك يزداد بقصور السلطان عن تحليه بالعلم، واكتفاؤه بثبوت الطاعة وتحققها، وبقصور العالم عن فهم السياسة ومصالح الناس في الأموال والحقوق، واكتفاؤه ببراءة الذمة لأنه يرى أن ذلك ليس من شأنه.

وهذا الانفكاك لا يُلغي أهلية العالم عن إكمال المنفك منه ليصدر قوله عن رأي نافذ ناضج، ولا يُلغي أهلية السلطان عن إكمال المنفك منه ليصدر حكمه وأمره ونهيه عن علم محكم، ولا يُلغي أيضًا السمع والطاعة بالمعروف للآمر عالمًا أو سلطانًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُنبِّيء في كثير من الأخبار ضمنًا على انفكاك الأمر في الأمة واختلال نظر العامة في فهم وجهته، وهذا يُفهم كثيرًا من حثه على السمع والطاعة في المنشط والمكرة بالمعروف مع إخباره بفساد الآمرين، ولذا قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "دعانا رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏فبايعناه،‏ ‏فكان فيما أخذ علينا أن ‏‏بايعنا‏على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا ‏ ‏وأثرة ‏علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله"، قال: «إلا أن تروا كفرًا ‏بواحًا‏ ‏عندكم من الله فيه ‏‏برهان» (رواه البخاري)، وهذا الاستثناء في الحديث «إلا أن تروا كفرًا بواحًا»، إشارة إلى البعد في انفصال العلم عن السلطان بُعداً يستوجب توحيد الكلمة ما لم يبلغ الكفر.

 

والطاعة لولي الأمر إنما جاءت في النصوص قوية في آخر الزمان مع فساد الأمر، لأجل بيان ثبوت هذا الاختلال في الأمر، وأن ضبط الموازين والجمع بين هذه المفترقات الدقيقة أمر يفوق إدراك العامة ودهماء الناس، ومخاطبتهم بالعلاج متعذر، لهذا فيُكتفى بأمرهم بالسمع والطاعة بالمعروف، وأما العلماء فيعرفون حقيقة الرسالة التي حملوها، وتوجيه الناس بها كل زمن بحسب علمائه.

وإن من وجوه الخطأ أن يُدخل العالم نفسَه في خطاب العامة، فينزوي عن فهم حقيقة رسالته ومهماته، وماذا أنيط به من واجبات تجاه الناس وأحوالهم، ومحاولة إتمام القصور في الأمة وغرس الأمان فيها، وأظهر وجوه قصور العالم التي نراها اليوم:

أولًا: التغافل عن عموم الرسالة، وشمول خطاب الوحي في ضبط الدين والدنيا، وحصر العناية بالأحوال والأفعال والعلوم التعبدية الخالصة مما يُشترط فيها النية لحصول الثواب ورفع العقاب، كالصلاة والصيام والحج والذكر ونحوها، وتصحيح وجوه الخطأ والابتداع فيها، وأمر الناس بذلك وأطرهم عليه، ونهيهم عن الترك، وتغافل العلماء عن ضبط دنيا الناس، والاحتراز لأموالهم وصونها من العبث، وأخذها بالظلم والسلب والاختلاس، وما يتعلق بحقوقهم فيما بينهم، وتعاملاتهم في شأنهم كإصلاح ذات البين، وغشيان نواديهم، قصور في فهم الرسالة، وخطاب الوحي وميثاق الله المأخوذ عليهم، وقد أورث هذا اغترابًا في الأفعال وعزلًا للعالم وسلوكه في باب من أبواب العمل والتكسب، والترفع عن مخالطة العامة بالتكسب بالحرفة والصناعة وعمل اليد، والمتاجرة في الأسواق، بدلًا من ترقب يد من يستميله إليه فيعطيه ويمنعه.

 

ويوسف عليه السلام ولج إلى تصحيح دنيا الناس، لعلمه بها وخبرته السابقة بذلك لذا لما طلب إدارة خزائن الأرض قال: {قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلْأَرْضِ ۖ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌۭ} [يوسف:55]، يرى استحقاقه لذلك بسبب الحفظ وهو الأمانة وكذلك العلم وهو معرفة أمر المال وشأنه وتدبير أمور الناس المالية.

وانشغال العالم بالنوع التعبدي الخالص، والتغافل التام عن الآخر أورث انفصالًا في فهم الرسالة، وتهيئةً للأفكار الداخلة على العلم في الإسلام أن الدين والدنيا منفكان عن بعضهما، وأصبح تغافل كثيرٍ من العلماء عن حياة الناس وشأنهم، أرضًا تنبت عليها الأفكار المادية كالعلمانية والليبرالية والشيوعية الاشتراكية لأنها بديلٌ في ضبط دنيا الناس عند فساد دنياهم من ظلم ظالم وقهر قاهر، وربما كان انشغال العالم بشطر رسالته مسوغًا لاستنكار دخول العلماء العارفين في ضبط حياة الناس والعناية بشأنهم، وينتج عنه أن وَجد رموز الفكر العلماني بيئة الإسلام منفكة إلى أصحاب دين وإلى أصحاب دنيا، فاحتاجوا إلى تنزيل الأسماء فحسب، من غير حاجة إلى فصل الأفعال.

 

وأصبح هذا القصور دعوة مؤيدةً لتصنيف العلماء وتحزيبهم، وربما اضطرب العلماء الداخلون في مصالح الناس في معرفة الوجه الصحيح لموقفهم، بسبب عزلتهم عن مسالك غيرهم من العلماء، فيشعرون بالغربة والعزلة، ومع طول عهد يضعف في كثيرٍ منهم التدين، ويبقى الدين والورع ملازمًا لكثيرٍ ممن نأى بنفسه، فتضطرب العامة في فهم الطريق الصحيح إلى أي العلماء يسلك وبأيهم يقتدي.

 

والعالم وإن انفك عنه السلطان في الأمر، ينبغي أن يُكمل ما نقص من أمر السلطان في الأرض، فيكون له عونًا إن غفل أو تغافل أو ظلم ببينة ومكابرة، ويكون ذلك بالبيان ومقتضى الحال بالمعروف والحسنى، لا بالمنازعة والمغالبة في كل حال لأن ذلك قد يفضي إلى إضاعة الأمر كله بعد أن ضاع شطره. وإنما تضعف منزلة العالم في الناس إذا انشغل عن دنياهم.

 

ثانيًا: الخلط بين زهد العالم في حفظ الماديات لنفسه، وزهده في حفظ الماديات للناس، وكثيرًا ما لا يتم التفريق بين المقامين، فزهد العالم في الدنيا لنفسه محمود، وزهد العالم في حفظ أموال الناس والعطاء لهم وصون حقوقهم مذموم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لو أراد الدنيا لكان أكثر الناس مالًا وحظًا فيها، ولكن زهد فيها، ومع هذا فكان أكثر الناس حرصًا على العطاء وإغداق المال على الناس، وإصلاح ذات البين والحث على حفظ أموال الناس وتحريم أكلها . ففي الصحيح عن أنس أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنمًا بين جبلين، فأعطاه إياه فأتى قومه فقال: "أي قوم أسلموا فو الله إن محمدًا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر"، فقال أنس: "إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".

وكان ينتصر لحق الضعيف، بالبيان للناس إذا أُخذ ماله ولو كان عبدًا مملوكًا، فبريرة أمة مظلومة اشترط أهلها الولاء لهم بعد عتقها لنفسها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: « ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» (رواه البخاري). ومع هذا فكان زاهدًا في حق نفسه ينام على حصير يؤثر على جنبه، ويقول له الصحابة: "لو اتخذنا لك وطأة؟" فقال: «ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها» (رواه الترمذي).

بل الخوض في مصالحهم بالصلح، أفضل من الانشغال بنوافل الصلاة والصيام ففي سنن الترمذي عن أبي الدرداء قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟»، قالوا: "بلى"، قال: «صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» (رواه الترمذي).

وهذا أكثر وقعًا على العامة أن يزهد في المال من يُعطيه، لأنه كان في يده فأوصله لغيره، ويمكنه حبسه لنفسه.
والزهد في الحديث عن حفظ أموال الناس والمجتمعات وبيان خطورة التعدي عليها ثلم عظيم في مهمة الرسالة، وكسر لمفاتيح قلوب الناس، التي لا يُدخل إليها إلا بدنياهم.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُعطي الناس المال تأليفًا واستمالة لقلوبهم، ويحفظ لهم حظ الدنيا ليبقى حظ الدين، ومقتضى ذلك أن من قصر في حفظ دنياهم وتهاون مع قدرته على ضبطها، فهو مضيع لدينهم، ومن نظر إلى مصارف الزكاة الثمانية في القرآن عرف أن المقصود بدفع المال هو حفظ الدنيا ليُحفظ الدين، فلا دين إلا بدنيا.

ثالثًا: حصر التفقه في الدين على أبواب مخصوصة من العلم، ولضعف خوض العالم في دنيا الناس، وأفكارهم، وصونها ضعُف أخذه للعلم الذي يؤدي إلى تحقيق ما تركه وزهد فيه، فإذا بعُد عملًا وخوضًا في سياسة المجتمعات والدول والحقوق والأفكار المتعلقة بذلك، فهو سيبتعد غالبًا عن الخوض في العلوم المؤدية إلى معرفتها، ولو كان الجهل بها مضرًا بالدين ومسوغًا للتسلل إلى نقض حماه، لهذا يُحسن كثيرٌ من العلماء المعاصرين معرفة الطوائف والفرق السالفة لوجودها في بطون الكتب، ويعرف حجج أهلها ونقضها، ولكنهم ربما يجهلون كثيرًا من الطوائف المعاصرة التي هي أشد خطرًا من الطوائف السابقة في الناس كالعلمانية والليبرالية والمدارس الفكرية المعاصرة وأثرها على عقائد الناس ودينهم ودنياهم، وإذا ظهر ضعف تفسيرهم لها، وهوان الرد عليها، قويت حجة المخالف ولو كانت ضعيفة لأن حجة العالم أضعف في العرض وإن كانت أقوى في الأصل، والسلاح براميه، فالحاذق العارف يصيب ولو بالسهم، والجاهل يخطيء ولو بالبندقية.