اليهود والحرب على الإسلام
راغب السرجاني
هل وقف اليهود عند هذا الحد من عدم الاعتراف؟! على العكس تمامًا.. لقد أخذوا موقف العداء من رسول الله، وقادوا حملات التشكيك في القرآن وفي الرسالة، وبدءوا في تدبير المؤامرات والمكائد التي يريدون بها أن يصرفوا وجوه الناس عن الإسلام..
- التصنيفات: اليهودية والنصرانية - التاريخ الإسلامي -
موقف رسول الله من تكذيب اليهود:
تكلمنا في المقال السابق عن مواقف اليهود والرسول والتي كانت مواقف تكذيب وإعراض، فماذا فعل رسول الله إزاء هذه المواقف المتعنتة؟! هل أجبرهم على الاعتراف به وأرغمهم على الإيمان بدينه؟ إنه على الرغم من وضوح الأمر تمامًا، وعِلمه وعِلم الجميع أن اليهود يدركون صدقه وأمانته.. مع كل هذا لم يدفعهم أبدًا إلى الإيمان به، ولم يقهرهم على تصديقه، مع أن القوة متوافرة لديه، وسيوف المسلمين رهن إشارته.
إنه المبدأ الذي لا تبديل له: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...} [البقرة: 256].
اليهود والحرب على الإسلام:
ثم هل وقف اليهود عند هذا الحد من عدم الاعتراف؟!
على العكس تمامًا.. لقد أخذوا موقف العداء من رسول الله، وقادوا حملات التشكيك في القرآن وفي الرسالة، وبدءوا في تدبير المؤامرات والمكائد التي يريدون بها أن يصرفوا وجوه الناس عن الإسلام..
ومن ذلك أنهم انطلقوا يحذِّرون أهل المدينة من أن هذا الرجل ليس هو الرسول الذي جاء في كتبهم، مع أنهم كانوا يبشِّرون به قبل ذلك، حتى قال لهم معاذ بن جبل: "يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا؛ فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته!" فقال سلام بن مشكم: "ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم"، فأنزل الله في ذلك: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، [1].
كذلك الخطة الخبيثة التي تولى كبرها عبد الله بن صيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف -وكلهم من زعماء اليهود- حين قالوا: "تعالوا نؤمن بما أُنزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية؛ حتى نُلْبِسَ عليهم دينهم؛ لعلهم يصنعون كما نصنع، ويرجعون عن دينه! فأنزل فيهم: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:72-73]، [2]، كما حاولوا أن يوقعوا البغضاء والحرب بين الأنصار بالمؤامرة التي قام بها شاس بن قيس [3] لإثارة الحرب بين الأوس والخزرج، وقد نقل الواقعة ابن هشام في سيرته برواية ابن إسحاق (ابن هشام: السيرة النبوية:2/95).
ثم تجاوز اليهود هذه المرحلة وأظهروا الجرأة الشنيعة على الله رب العالمين، عندما وصفوه بالفقر، بينما وصفوا أنفسهم بالغنى، وفيها نزل قول الله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]، والقصة بكاملها رواها ابن إسحاق ونقلها ابن هشام في سيرته (ابن هشام: السيرة النبوية:2/98)، وكذلك جاءت في مصادر أخرى (انظر من ذلك: ابن كثير:3/80).
بل إن اليهود -في سبيلهم إلى تكذيب رسول الله وعدم الاعتراف به- اضطروا إلى التكذيب بنبوة سليمان، مع أنه عندهم من أعظم الأنبياء؛ لأنه جمع بين النبوة والملك، فادَّعوا أنه ساحر وليس نبيًّا، وقال بعض أحبارهم: "ألا تعجبون من محمد! يزعم أن سليمان بن داود كان نبيًّا، والله ما كان إلا ساحرًا"، فأنزل الله: {...وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ...} [البقرة:102]، [4]، ولم يكتف اليهود بكل هذه الفظائع، بل تورَّطوا فيما هو أبعد من ذلك، عندما فضَّلوا أهل الشرك وعبادة الأصنام على المسلمين أتباع النبي .. وقد أنزل الله في ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، [5].
وبرغم كل هذه الأحداث والمؤامرات، إلا أن رسول الله تمسَّك بعهده معهم، ولم ينكر وجودهم، ولم يمتنع عن الاعتراف بهم، وبكونهم من أهل الكتاب، إن رسول الله لا ينطلق من دوافع شخصية، إنما هو محكوم وملزم بالعقيدة والدين، وبشرع الله القويم، الذي يقتضي الاعتراف بالآخرين على الرغم من إنكارهم وجحودهم، وهذا هو الفارق بين نظرة المسلمين للآخرين، ونظرة الآخرين لنا.. وهو فارق -كما نرى- كما بين السماء والأرض!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن هشام: السيرة النبوية 2/91، ونقل ذلك ابن كثير في تفسيره:1/175، وكذلك نقله السيوطي في الدر المنثور:1/217.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية:2/91. وانظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم:1/496، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن:4/110.
[3] هو شاس بن قيس اليهودي، كان شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم، حاول أن يوقع بين الأنصار من الأوس والخزرج لما رأى من وفاقهم، وفيه أنزل الله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:99].
[4] ابن هشام: السيرة النبوية:3/80.
[5] روى ذلك ابن أبي حاتم، والإمام أحمد عن ابن عباس وابن إسحاق، ونقلها عنه ابن هشام في سيرته:2/100، ورواها النسائي:11707، وذكرها القرطبي في تفسيره:4/133، وابن كثير في تفسيره:1/680.