الاستبداد والتفاصيل
عمرو عبد البديع
وتظل هناك أرواح من نور تؤجل أحلامها وتفاصيلها المُبهجة من أجل استكمال صراعها مع الاستبداد لاسترداد الحرية والكرامة والحياة والتفاصيل المغتصبة.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
"الاستبداد" مؤذن بخراب العمران.
الاستبداد قائم علي اغتصاب السلطة واحتكارها بالقوة لذلك، فمنها يستمد وجوده وشرعيته، ولا يُبالي بالشعوب واحتياجاتها وآمالها وأشواقها وتفاصيلها.
الاستبداد لا يهتم بتوفير خدمات هي من أبسط حقوق الناس (ومنها حقوق فطرية كزواج وطعام وسكن)، أو استمرارها أو تحسينها.
الاستبداد يصطفي طُغمة من أصحاب رؤوس الأموال المتضخمة كبطانة له تسيطر على المساحات الاقتصادية، التي تمس حياة المواطن البسيط، وتشكل الحاجات الاستهلاكية وفقا لمنافع هذه الطغمة، ولمنافع صاحب الاستبداد الأكبر.
الاستبداد يُحدث شرخاُ اجتماعيا كبيرا داخل الأسرة الواحدة، بين جيل قديم نشأ وتشكل في ظل أنظمة استبدادية، توارثت حكمهم حقبة بعد حقبة، فصارت أهم قيمة لديهم الشعور بالأمن الشخصي والرزق (لقمة العيش)، ولا يطمح إلي حرية أو كرامة كاملة (إلا قليلا) حتى صاروا يعيشون في جمهوريات الخوف، وبين جيل شاب يرفض الاستبداد كاملأ ويسعى إلى كرامته وحريته وإلى استرجاع حقوقه ومساحاته كاملة دون أدنى تنازل، فتفاصيل الحياة الاجتماعية يكون الاستبداد حاضرا فيها بين جيل تمت استمالته أو بالأصح ترويضه وبين جيل مازال عصيّ على الترويض (على الأقل حتى الآن)، ويخوض الجيل القديم معركة اجتماعية بالوكالة عن المستبد مع الجيل الجديد الثائر.
الاستبداد يُؤمم المؤسسات الدينية، بل والمنابر في المساجد، حتي تُقدم خطاباً مُخدراً للضمائر خطابا يستعذب الهوان، خطاب "ليس في الإمكان أحسن مما كان"، خطاب شيطنة المعارضين والحث على استئصالهم وهذا كفيل بإفساد دين العباد وبشرخ أي تماسك اجتماعي كانت دعامته الأساسية حاجة المجتمع إلى هذه المؤسسات والرموز الدينية التي صارت مشرطاً من مشارط المُستبد.
الاستبداد يُفسد الأذواق ويمحق الآداب، فالاستبداد لا دين له فلسان المستبد منذ القدم هو {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}، {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري}، فالقيم والمباديء والأخلاق والآداب يتم مسخها على يد الاستبداد، وخاصة إذا كانت أذنابه وبطانته طفيلات لا يُمكنها الحياة داخل منظومة الأخلاق والمباديء والدين.
الاستبداد ضد المساحات الواسعة في الرأي وفي الحياة بكل تفاصيلها فيؤممها أو يسرقها ويضيقها ويُعيد توزيعها وفقا لخارطته الاستبدادية، لذلك في أزمنة الاستبداد تضيق الأوطان وتتسع السجون.
الاستبداد يستبعد المبدعين والأذكياء والموهوبين، هذا إن لم يقتلهم أو يعتقلهم، فالمستبد لا يُحب أن يُشرق أحد في ظلامه الدامس حتى لا يأمل الناس في نور، وحياة أي نظام مُستبد في استبعاد الكفاءات.
الاستبداد يُدجن الإعلام حتي يصير موجهاً حتي السذاجة، فيروج معلومات ومفاهيم، المنطق والعقل السليم يحكم عليها بأنها من باب الأساطير أو الخرافات، ولكن دوام تكرارها واستضافة من يقوم بتحليلها وتأكيدها على أنها حقيقة لا خيال!، يجعل الكثير من البسطاء يتعامل معها كحقائق راسخة في وجدانه، فالاستبداد يشوّه الوعي ويختزله عبر إعلامه المُدجن.
الاستبداد ضد الإنسان، يُهيمن على تفاصيله الحياتية ويُعيد تشكليها بما يضمن استمرارية هيمنته على البلاد والعباد.
وتظل هناك أرواح من نور تؤجل أحلامها وتفاصيلها المُبهجة من أجل استكمال صراعها مع الاستبداد لاسترداد الحرية والكرامة والحياة والتفاصيل المغتصبة.
نص خلدوني كخاتمة: يقول ابن خلدون في مقدمته تحت عنوان: "في أن الظلم مؤذن بخراب العمران": جباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وخصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران، الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله، واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.